توجهت الأنظار إلى مالي منذ مدة ليست بالقصيرة، حيث نشبت حرب تداولتها 3 أطراف : الدولة المالية، و "حركة تحرير الأزواد" الانفصالية التي تحالفت مع جماعة " أنصار الدين" المتطرفة. هذه الأخيرة و مباشرة بعد ( تحرير ) شمال مالي من قبضة الدولة انقلبت على حركة التحرير العلمانية و استولت على السلطة في أهم المناطق الشمالية لمالي و أرست نظاماً يقوم على "الشريعة الإسلامية" بالقوة و بدون أدنى استشارة مع سكان و أهل المكان. ثم خرج لنا إعلاميا الديك فرانسوا هولاند، رئيس الجمهورية الفرنسية مندداً بما حصل و معتبراً أن شمال مالي قد يصبح " أفغانستان جديد " في منطقة الساحل و الصحراء و أنه وجب التدخل عسكرياً من أجل القضاء على الإرهاب و التطرف الديني و إرجاع مفاتيح شمال مالي للدولة المالية بصفتها الممثل الشرعي للشعب المالي. حتى الآن لا يزال الديك الفرنسي يظهر بثوبه الملائكي النقي، و لا يزال بوسعنا أن نصدق ادعاءات الرئيس هولاند بكون فرنسا لا تخفي مصالح وراء التدخل العسكري في شمال مالي عدى إعادة الأمن و الاستقرار للمنطقة و محاربة الإرهاب و التطرف. لكن عندما نحلل عن كثب معطيات السياسة الخارجية الفرنسية منذ استلام هولاند مفاتيح قصر الايليزي و التي ترتكز حالياً على ملفين : الملف المالي و الملف السوري، فانه من السهل استنباط ذلك التناقض و النفاق السياسي الذي تمشي عليه عربة السياسة الخارجية الفرنسية. فالملفان، من حيث الشكل، غير مختلفين و فيما يلي ما يؤكد ذلك : في سوريا كما في مالي هنالك شعب يطالب بحقه في تقرير مصيره و في التحرر من النظام القائم، يشترك في هذا المعطى جزء من الشعب السوري و كذا جزء من الشعب المالي المتمثل في الطوارق، في سوريا هنالك مجلس وطني ينصب نفسه كسلطة سياسية انتقالية بديلة عن النظام القائم، و في شمال مالي نفس المنصب تتقلده حركة تحرير الأزواد، في مالي كما في سوريا الكفاح يتخذ الشكل المسلح ضد النظامين القائمين و في البلدين كذلك نلحظ تواجد تنظيمات دينية متطرفة تقاتل ضد النظامين. لكن و على الرغم من هذه التشابهات الجوهرية في القضيتين نجد أن الديك الفرنسي يتعامل مع كل منها بطريقة و أسلوب يكاد يكون النقيض التام للآخر، فقد اعتبرت الخارجية الفرنسية التنظيمات الدينية في شمال مالي تنظيمات إرهابية و متطرفة، في حين تغض باريس الطرف عن مثيلاتها في سوريا. و قررت فرنسا القيام بهجوم عسكري لمحاربة إسلاميي شمال مالي بعد شهور من تربعهم على العرش هناك في حين تقترب الحرب في سوريا من عامها الثالث دون أن تحرك الحربية الفرنسية ساكنا. بل أن المعطى الأبرز و الذي يفضح بشكل لا يقبل النقاش ازدواجية الخطاب لدى الخارجية الفرنسية هو تموقعها إلى جانب المعارضة في سوريا ضد النظام، في حين قررت الوقوف في صف النظام المالي غير آبهة لحلم شعب الطوارق في التحرر، هذا وعلى تشابه الملفين كما أسلفت الذكر. التفسير المنطقي الوحيد الممكن هو أن فرنسا و القوى الغربية لا زالت تحتفظ بعقليتها الامبريالية و الاستعمارية و لو عن بعد، فمالي كونها مستعمرة فرنسية سابقة تحتوي بلا أي شك على استثمارات فرنسية كبيرة ينبغي، حسب التصور الفرنسي، أن لا تسقط في يد الإسلاميين الذين أعلنوا بشكل مباشر عدائهم لفرنسا من خلال تسميتها ب" الدولة الكافرة" مما قد يعصف بالمصالح الاقتصادية لفرنسا في مالي، الشيء الذي قد يجيب كذلك عن سؤال : لماذا تدخل عسكري فرنسي بالضبط و ليس أمريكيا أو غير ذلك ؟ فرنسا و القوى الغربية لا تزال تتعامل مع كل الملفات الدولية ببراغماتية و مصلحية قصوى، فهي تقف مع النظام المالي لأنه يسمح بتواجد فرنسا و مصالحها الاقتصادية على أراضيه و تقف ضد النظام السوري لأنه فتح أراضيه سوقاً للشرق الصيني و الروسي و لا وجود للغرب و لمصالحه الاقتصادية و الإستراتيجية في سوريا في ظل هذا النظام. فالعملية العسكرية على شمال مالي هي حماية للمصالح و للتواجد الفرنسي في المنطقة و ليست حربا على الإرهاب، كما أن الوقوف إلى جانب المعارضة السورية هو من أجل إسقاط النظام الذي لا يمنح فرنسا موطئ قدم داخل أراضيه و ليس نصرة للشعب السوري في ثورته، كما أن السر الخفي في المعاملة القاسية التي يلقاها إسلاميو مالي من فرنسا هو إعلانهم عدائهم لها و تسميتها بالدولة الكافرة في تحد واضح للمصالح الفرنسية في شمال مالي، الشيء الذي لم يفعله إسلاميو سوريا. هولاند لن يستطيع خداع أحد بتصريحه على أن فرنسا لا تريد من خلال عملياتها العسكرية في شمال مالي سوى محاربة التطرف و الإرهاب، لأن عملية عسكرية كهذه تتطلب مصاريف ضخمة لا يمكنها إلا أن تغرق منطقة اليورو أكثر في أزمتها الاقتصادية... إلا في حالة واحدة : تحقيق أهداف إستراتيجية و اقتصادية جديدة بعد انتهاء العملية. كل هذا يضرب من حيث المبدأ مصداقية فرانسوا هولاند الذي ينتمي لحزب اشتراكي، الاشتراكية التي كانت دائما مناهضة للامبريالية و مساندة لحق الشعوب في تقرير المصير، الشيء الذي لم يلتزم به الديك الفرنسي هولاند في تعامله مع الملف المالي.