كتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران عن الإنسان والعالم والهوية والفكر المركب، واستعان بالسؤال الفلسفي عندما طرح عصارة فكره عن علاقة الإنسان بالعالم وأزمات العصر في كتابين أساسيين هما : إلى أين يسير العالم ؟ هل يسير العالم نحو الهاوية ؟ ومن أفكاره في عمق الأزمة التي يعاني منها الإنسان اليوم بكونها غير منفصلة عن الأمس، ونفذ نحو عمق الأزمة باليات التأمل الفلسفي والرصد الميداني باعتباره عالم سوسيولوجي في قراءة بنية المجتمع المعاصر، واضعا معالم التفكير السليم وتربية المستقبل من منطلق وحدة الجنس البشري والرغبة في ميلاد إنسانية جديدة موجهة بالعلم النافع والتقنية المحددة بأخلاق وغايات .خطوات نحو الهاوية يعني الإنسانية في خطر والعالم يقترب من النهاية والسبب الثقافة المادية وسياسة تدمير الطبيعة أو ما سماه هيمنة العصر الحديدي الكوكبي . نعيش في مجتمع استهلاكي وعولمة لا إنسانية، وهذه الحضارة أو البربرية داخل الحضارة التي كان المفكرون السابقون أشاروا إليها في تلميح لذلك الوحش الذي يقبع في أعماقنا، ويتغلغل في الوعي واللاوعي حتى يقودنا نحو نزعة تدميرية للحضارة ويهدد وجودنا. عندما أشار نيتشه إلى ما يحرك الإنسان من بواعث خفية مغلفة بالعقل والوعي والأخلاق المثالية مع ما يضمره الإنسان في أعماقه من دوافع نحو التدمير وإرادة القوة ، ونتيجة أخرى في مجال التحليل النفسي مع فرويد في الحب والحضارة والموت، فكل إنسان مكون من غريزتين : الأولى غريزة الموت والتدمير والثانية غريزة الحياة والحب، ولا بد من التوازن بين الغريزتين حتى لا يقود ذلك إلى اختلال في سيكولوجية الإنسان، ولا يؤدي إلى تدمير الحضارات، لان القوى اللاعقلية أقوى من القوى العقلية، وبالتالي يجب الإعلاء من الغريزة والحياة. فالقرن العشرون حسب ادغار موران قرن الأزمات، ويشخص هذه الأزمات في التربية والأسرة وفي السياسة والاقتصاد والمجتمع، أزمة القيم وأزمة الدولة وأزمة الفرد والجماعة يعني الأزمة شاملة، وهو بالفعل القرن الذي شهد أشرس الحروب الكونية التي نالت من الحضارة، وساهمت في تقويض التعايش بفعل انفلات الغريزة وطغيان النزعة التدميرية في الإنسان . المعركة الكبرى في ذلك القرن كانت تدور على صعيد الفكر أما المعركة الآنية فأساسها الاقتصاد والتجارة والسيطرة بالطبع على العالم بالتكنولوجيا والمعرفة يعني أزمة الحاضر وليدة الماضي، ومن يقرأ في طموح العقلانية العلمية سيدرك لا محالة الهوس في السيطرة على الجنس البشري، هذا الطموح كانت نتيجته تطويع الطبيعة وإفساح المجال للعقل الاداتي حتى يستدرج الطبيعة ويستنطقها، وبالتالي خلقت هذه العقلانية العلمية نتائج حسنة من قبيل الفهم وتحسين شروط العيش والزيادة في الإنتاج وانتشال الإنسان من الفقر والجوع، وبالمقابل أساء الإنسان للطبيعة في تدميرها واستنزافها، الحاضر حسب ادغار موران في طور الهلاك، وكوكب الأرض يترنح، ويعاني الإنسان المعاصر من مخلفات هذا الاستنزاف، الأزمة هنا كوكبية ومعولمة لا تصيب العالم الثالث فقط باعتبار هذا العالم خزان للموارد الطبيعية والطاقات البشرية، الأزمة تصيب الإنسان الغربي في وحشية الحضارة الغربية وبربريتها، التي هي امتداد للفكر في بعده المادي والتقني ، هذا الأمر جعل من روسو يشكك في مبادئ الحضارة الغربية والمدنية بصفة عامة ، ويحن في العودة للطبيعة والقول أن المجتمعات يجب أن تبنى على القوانين والعهود والقيم الأخلاقية كذلك في السمو العاطفي والروحي . عالمنا الآن خاضع لانحرافات وغياب التحديد، يقوده نظام عالمي أقل ما يقال عنه غير عادل ، ومهمة الفيلسوف في عالم اليوم أن يفهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية، ويقدم أفكارا وحلولا في صميم الأزمة، ولما لا أن يكون مشرعا وآمرا كما قال نيتشه . خطوات نحو الهاوية هنا تعني الزيادة في أعمال الإنسان نحو تدمير البيئة، وخطر الحرب النووية، والتغير المناخي، وانتشار الأمراض والأوبئة، والهواء الملوث، والماء غير الصالح للشرب، وسموم المواد الكيماوية ورمي النفايات بأنواعها والمبيدات والتلاعب بالجينات … وهذا يندر أكثر بهلاك الإنسان ودمار الإنسانية ، وما يلاحظ بالفعل حسب ادغار موران تنامي القوى الحاملة للموت والتدمير التي يمكن تلخيصها في نزعة الإنسان نحو الحروب والسباق نحو التسلح، وانتعاش سوق تجارة الأسلحة على حساب التنمية والزيادة في ثقافة الاستهلاك، والإنتاج والبلادة التي هي من إنتاج التقنية والعصر التقني، وكلما ازداد تحكمنا في القوى المادية ازداد انحطاطنا في المجال الحيوي، وفي كل ما هو اجتماعي وإنساني، ولنقل صراحة الزيادة في القوى الإنتاجية لا ينعكس بالإيجاب على العلاقات الإنتاجية، وما تدعيه الحداثة من ثورة في العلم والتقنية، والديمقراطية وحقوق الإنسان، يوازيه بالمقابل الزيادة في العنف والتهميش والفقر. هناك ثلاث أساطير أساسية للحداثة حسب ادغار موران وهي أسطورة التحكم في الكون التي قال بها ديكارت وفرانسيس بيكون وماركس كذلك، وأسطورة التقدم والضرورة التاريخية، وأسطورة السعادة . أزمة الحداثة ثلاثية الأحلام في تحويل العالم إلى قرية كونية صغيرة، وبناء نماذج للقيم المفيدة في التقليل من الصراعات، وتحقيق التبادل على أوسع نطاق بين الحضارات، والتهليل للعصر الرقمي وتكنولوجيا المعلوميات، وعصر الصورة والأقمار الاصطناعية، هنا ندرك بالفعل محاسن الحداثة والعصر الحديدي الكوكبي، وندرك كذلك مساوئها، فلسنا مهيئين للخلاص النهائي كما يقول ادغار موران، والحلول التي نعتقد أننا اقتربنا منها في حل للازمات سرعان ما تطفو في العالم أزمات أقوى ، نعتقد أننا بلغنا قمة الحضارة والإنسانية، بل الحضارة تخفي في طياتها صورة أخرى للهمجية والبربرية، وإذا لم نغير من طريقتنا وأسلوبنا في الحياة وقراءة العواقب الخاصة بالتقدم التكنولوجي وجنوح الجانب السياسي للوحدة مع الاقتصادي، فإن مصيرنا الفناء والنهاية، وتحمل الحضارة الغربية في أسسها بوادر الأزمة المتعاقبة والمتسلسلة من الماضي نحو الحاضر والمستقبل . لقد توقع ماركس صعود الوحشية داخل الحضارة وأرقى أشكالها الامبريالية في أزمة الرأسمالية عندما تصل لأرقى درجة تطورها، في الإعلان عن نهايتها ، وعندما يتحدث ماركس يريد كشف وظائف الدولة الرأسمالية في السيطرة على النفوس وتحويل القوى العمالية إلى أدوات في الإنتاج والاستغلال، بل حتى الاشتراكية التي تحققت في بعض الدول حسب ادغار موران ما هي إلا اشتراكية الدولة في قوتها وهيمنتها البوليسية، ونزعتها البيروقراطية، وتفردها في السلطة وطرق المحافظة عليها ، إننا اليوم موجودون في لعبة واسعة الإمكانات، لعبة الكبار أو القوى المتحكمة في السياسة والاقتصاد والإعلام، من أسباب الأزمات تنامي قوى البلاهة والتفاهة أكثر من قوى النباهة، تنامي الرأسمال بيد القلة، وتوسيع هامش المنتقمين والرافضين للهيمنة، والذين غير راضين على طريقة تدبير الأمور في الدولة ، تتصاعد موجة الاحتجاج والرفض في العالم من قبل القوى المناوئة للنظام الرأسمالي، ومن قبل مثقفين يدركون حتمية نهاية الرأسمالية ونهاية الحداثة بأشكالها الفكرية، ونماذجها السياسية والاقتصادية، والبديل في ولادة إنسانية جديدة بفكر مركب يواجه التناقضات واللايقين أي ثورة معرفية لإعادة تشكيل الوعي الإنساني، فكر متعدد الأبعاد منظم ومنسق، أما التقدم الذي كانت الحداثة تنشده والرخاء الذي يعمم على الكوكب، فقد باءت هذه الطموحات للفشل بسبب نتائج التقدم، وتهافت نظريات التنمية، لما يعرفه العالم الآن من حروب عرقية ودينية وثقافية، والجريمة بأشكالها، واستبدال العدالة بقانون الانتقام، ورفض دول العالم للعولمة من منطلق تعميم نموذج معين على حساب الخصوصية الثقافية والتنوع الحضاري، أما المشكلة التي يعنى بتحليلها ادغار موران تتعلق بمسار التقدم العلمي، وهوس الإنسان بالعلم الإنتاجي، والرغبة في السيطرة، وبالتالي يبقى العالم في ترقب ما سيحمله من نتائج سلبية على الوجود البشري، ولا حل في الأفق إلا بالتجاوز للعقلانية المزيفة، والعولمة الأحادية نحو عالم الوحدة والتنوع حتى ينمي الإنسان من ملكاته في تجديد رؤية واضحة لتربية المستقبل من خلال الوعي بوحدته وبطبيعته المركبة، لان الوحدة الإنسانية أو وحدة العنصر البشري تحمل في ذاتها التنوع والاختلاف، ولا مجال للتنميط وفق قوالب جاهزة أو الادعاء بالنماذج المثالية المكتملة، أو اعتبار أن التاريخ انتهى في نموذج نهائي، لان في الأمر الانتقاص من الخصوصية والتفرد، وهنا نجد نزعة انثروبولوجية أقرب إلى تلك التي كانت منطلق كلود ليفي ستراوس في وحدة العقل البشري، وفي التنوع والتعدد الذي يطبع الثقافات دون الميل أو الجنوح نحو النزعة المركزية الغربية. الإنسانية واحدة والإنسان تركيب من عناصر طبيعية وأخرى ثقافية، والفكر عندما يتم تقسيمه من خلال هيمنة التخصص ودوافع الإنتاج والاستهلاك، لا يؤهلنا لإدراك العالم على حقيقته ، ما يهم رجل الاستثمار وصاحب الرأسمال التواجد في العالم وتنمية رأسماله المالي دون الانتباه إلى مخاطر البيئة وسلامة الناس ، وما تراه النيوليبرالية في إفريقيا خيراتها الطبيعية ومعادنها النفيسة، دون الانتباه للتنمية والمصلحة المتبادلة، حتى تعمل الدول الكبرى على إثارة النعرات المختلفة للسيادة والهيمنة، وتقوية الأنظمة الفاسدة والتحالف معها. فالفكر المركب كما يريده إدغار موران صائب ومفيد في التنظيم والتناسق، والربط بين الكل والجزء، ومهمة الفلسفة في هذا المجال التفكير في الكل وليس في الجزء، لان الأزمة شاملة ومركبة، وإعادة الاعتبار للإنسان في قراءة ما يفيد في المستقبل من خلال تربية سليمة، تتشكل من الوعي الصحيح بقيمة الوجود الإنساني وتناهي الكائن في الوجود، وأننا نتقاسم هذا العالم ونشترك في المصير، والسلامة للبشر ضرورية في عالم يزداد تعقيدا، وما يشهده العالم من تفشي جائحة كورونا دليل أن الفيروس كوكبي أصاب سكان الأرض دون تمييز بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وبين الأغنياء والفقراء. ينتقل بسرعة هائلة وتتحمل تبعاته ونتائجه الدول الفقيرة و والغنية على السواء، ونحن من يتحمل مسؤولية تفشي الوباء بفعل تسارع التجارب والأبحاث في علم الفيروسات، وبفعل الاقتيات من بيئة لم تعد سليمة للغذاء، والسبب سموم المصانع والتنصل من الاتفاقات الملزمة في حماية البيئة، والتجارب النووية في البر والبحر، ويزداد الخطر في تصاعد وتكاثر الأوبئة والفيروسات، وما يرغبه فيه الفلاسفة والمدافعون عن سلامة البيئة، وكل الضمائر الحية في العالم، الكف عن التبرير بدافع بقاء النوع الإنساني وتحقيق الاكتفاء، وهذا تفسير واضح للهمجية والجشع ضد رغبات المجتمع العالمي في العيش بتناغم مع الطبيعة، والبحث عن بدائل في تنمية متوازنة حتى نتعلم كيف نعيش ونحافظ على كوكبنا .