أوردت معظم مصادر تاريخ صدر الاسلام تلك العبارة التي رددها أحد الأشخاص وهو يركض فوق ألوف الجثت في معركة صفين التي دارت بين شيعة علي وأتباع معاوية، الرجل كان يصرخ مدعورا: هلكت العرب. فهو لم ير يومئذ في الديانة الجديدة سوى رحى وقد درات لتلتهم ابناءها. مهما كان المرء اليوم متفائلا لا يسعه إلاّ أن يحدو حدو ذلك الرجل مرددا هلك المسلمون. فقد تعرض العالم الإسلامي في العقد الأخير من القرن العشرين لعدد كثير من المهانات والصراعات الداخلية والخارجية قضت على أزيد من عشرة ملايين شخص. وأسفرت حرب بوش على العراق عن مقتل مليون نسمة و تشريد نحو 4.5 مليون، وما يقرب من اثنين مليون أرملة، و 5 مليون يتيم. و اليوم يخرج الصينيون ،لا من أجل إسقاط الفساد، بل من أجل المطالبة بترحيل الأقليات المسلمة( والأقليات هنا تعني ما يعادل عدد سكان المغرب العربي). وينزاح الربيع العربي في سوريا من ثورة شعبية تطالب بالكرامة والعدل وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل، إلى حرب طائفية جبارة تأتي على الرطب واليابس، حرب لم تعد تدور بين مستغِلين ومستغَلين، أو بين ناهبين ومنهوبين بل بين طوائف وشيع. الأزمة السورية تبدو أكثر تعقدا واستعصاءا فأمريكا بدأت تتلكأ وخطاباتها في الموضوع متناقضة ومضطربة وهي منصرفة أكثر إلى أزمتها وجفافها، وتقول إنها لا ترغب في تكرار أخطاء العراق وأفغانستان في حين أنها سترتكب أكبر الأخطاء بتدريبها للمعارضين السوريين فهذه العملية لن تسفر في سوريا إلاّ عن حرب متوازنة ستدوم مدة طويلة. ما تبين للولايات المتحدةالأمريكية في حربي العراق وأفغانستان هو أنها كانت تحارب من أجل إعادة ترتيب العالم تلك الرؤية التي دافع عنها صامويل هنتغتون في كتابه: صدام الحضارات. والنتيجة هي أنها ظلت تحارب والصين وأخرون كانوا يستفيدون بأقل مجهود. ولا غرو فمعظم الانتقادات الداخلية التي وُجِّهت لسياسة بوش أوجزها نوعام تشومسكي في عبارة بليغة: إننا نستنفذ طاقتنا بلا جدوى. والحديث عن حرب باردة جديدة لازال حديثا سابقا عن أوانه، فالمشهد تكتسيه ضبابية قاتمة فرغم أن الصين وروسيا تقفان بحزم إلى جانب النظام السوري. إلاّ أن الصين مثلا لن تستطيع التفريط في علائقها المالية والتجارية الثقيلة مع الولاياتالمتحدة، فهيلاري كليتنون تعي ما تقول عندما صرحت هذه الأيام: علاقتنا مع الصين مبنية على أسس متينة. وكذلك الشأن بالنسبة لروسيا التي تكتسب وزنها فقط كدولة نووية. إن العلاقات المتشابكة التي أفرزها النظام النيو ليبرالي تجعل قيام حرب باردة بمفهومها الكلاسيكي أمر صعب، وبالتالي سيسود جو من عدم الثقة وكثرة النفاق السياسي بين القوى العظمى نفسها أي أننا سنعيش مرحلة أصعب من الحرب الباردة نفسها، سنعيش الفتنة الباردة. وكلما توغلنا في المحلية إلاّ وازداد تشاؤمنا فإيران تعض على نظام بشار الأسد، الحليف الاستراتيجي، بالنواجد وحتى في حالة سقوطه فإنها ستظل متغلغلة في سوريا ململمة شتات ما تبقى من الأتباع الذين سيسهل تزويدهم بالمعدات الكافية لتقويض قيام نظام جديد لمدة طويلة. أما في حالة بقاء هذا النظام فلا بد من رده الصاع صاعين لكل من قطر والسعودية وتركيا...، وبطبيعة الحال لن يبقى هؤلاء متكوفي الأيدي فالحرب المستقبلية، إذن، في الشرق الأوسط ستكون حرب جاسوسية واستخباراتية وعملياتية أكثر منه حرب نظامية. انبعاث الصدام الشيعي السني على رقعة العالم الاسلامي الشاسعة والمترامية أمر مستبعد فالشيعة لا يشكلون سوى 12 أو 14 بالمائة من المسلمين، تتركز 90 بالمائة منهم بإيران والباقي بالعراق وسوريا ولبنان،.. وفوبيا المد الشيعي التي تتبناها الأنظمة السنية وبعض الكتابات الإسرائيلية قناع زائف فالمسلم السني يهون عليه أن يصير مسيحيا أو شيوعيا على أن يصير شيعيا وهو الأمر نفسه بالنسبة للشيعة، ومعظم الثورات التي عرفها تاريخ الاسلام لم تكن ثورات السنة على الشيعة أو العكس. بل ثورات تهدف إلى تجديد الدعوة وتغيير المنكر وتنقية العقيدة السائدة من الباطل، أي تجديد الفكر السائد وليس استبداله. إيران تتغيأ أن تكون قوة إقليمية عظمى يتحرر اقتصادها من التبعية للغرب أو من أولئك الذين يستغلون خيراتنا على حد تعبير أحمدي نجاد في قمة مؤتمرعدم الانحياز الأخير. هذه الفكرة التي حفرها نجادي بدقة فريدة يمكن أن تحفز ملايين المتحمسين في العالم المتخلف الذين أنهكهم جور الحكام وفساد الأنظمة والذين يرزحون تحت ثقل نظام عالمي مبني على تجارة غير متكافئة، فالمتعاطفون مع ايران لن يكونوا فقط شيعة متفرقين في الشرق الأوسط بل سيكونون حتى من السنيين أو غيرهم.. هنا سيتم فصل العقيدة الإيرانية عن المشروع الإيراني وهنا إمكانية تبني المشروع على المستوى العالمي. إيران تعرف جسامة هذا التحدي لذلك تزاوج بينه وبين التطوير الداتي لقدراتها العسكرية. وليس المهم هنا فعالية القدرات العسكرية الإيرانية أمام الأسلحة الأمريكية الإسرائلية بل المهم هو هذا الإصرار الإيراني، وتقاعس أمريكا وعدم رغبتها في خوض حرب قد تكلفها ملايير الدولارات والعتاد والجنود، حرب قد تجد نفسها بعدها وراء الصين والهند وربما حتى البرازيل. أو تجد نفسها مقسمة إلى ولايات فالأزمة ترخي بظلالها والعقل المنطقي ينفتح على كل الاحتمالات. أمريكا لن تخرج للحرب الإيرانية إلاّ والسيف الإسرائيلي فوق عنقها ولن تخرج إلاّ بمساعدة العرب العاربة والمستعربة والبائدة الذين يريدون قطع رأس الأفعى( النظام الإيراني). الخاسر الأكبر هو الإسلام الذي سيضرب في عمق ديمغرافيته الميزة الوحيدة التي يَنْماز بها. ديمغرافية الإسلام تشكل الهاجس الأول للغرب تليها الصين كما أورد المهدي المنجرة وأخرون منذ عقد من الزمن، ديمغرافية المسلمين التي شدد عليها صامويل هنتغتون في كتابه صدام الحضارات وكتب جملة بليغة بخط عريض: الاسلام يتزايد بالتناسل والتحول.. المسيحية تتزايد فقط بالتحول. على المدى البعيد محمد سينتصر. بل إن ما يحصل في العالم الإسلامي اليوم ليس سوى استمرار لتوصيات هذا المفكر حيث كتب:على الغرب أن ينمي ويستغل الخلافات بين الدول غير الغربية . إن قدرة الغرب على متابعة هذه الاستراتيجيات سوف تتشكل حسب طبيعة ومدى صراعاته مع حضارت التحدي ومع قدرته على التوحد مع الحضارت الصديقة،[ صامويل هنتغتون الاسلام والغرب أفاق الصدام]. الحروب الطائفية والأهلية هي أبشع الحروب التي يعرفها التاريخ فهي تأتي على الأطفال والشباب والنساء والحوامل. وبذلك فهي تضرب جوهر الديمغرافيا. والحروب المقبلة التي سيعرفها العالم الاسلامي حروب طائفية وأهلية وتمردات وثورات وعمليات انتحارية ... ستخلف وراءها عالم إسلامي عجوز .. عالم اسلامي يشبه صورة مكبرة للوضع العراقي. شبح الشيخوخة المخيف الذي خيم على أوربا وتركها قابعة مكانها رغم التقدم العلمي والصناعي ورغم ملايين المهاجرين المتدفقين وألف رغم ورغم.. هو الذي سيخيم على العالم الإسلامي المثقل بالديون والسابح في بركة آسنة من الأمية والفساد والظلم،.. ابتداءا من العقد المقبل فكيف ستكون الصورة يا إلهي؟ جسد بلا روح ، فالروح كما كان يعتقد فريديريك هيغل منذ قرنين تهجر الأمة التي لا تخدم التطور التاريخي لتحقيق الحرية أو الروح المطلق لتحل في أمة أعلى تلك هي غاية التاريخ، نحن لسنا أمة لأن الأمة وحدة عضوية متماسكة تشبه العصبية كما عَقَلَهَا بن خلدون، وحدة إذا مرض فيها عضو تداعى لها الجسد كله كما حديث الرسول (ص). ونحن لسنا شعوبا لأن الشعوب لها تاريخ أما تاريخنا فليس سوى سير ذاتية لحكامنا المرضى، فلا داعي للبكاء على حضارتنا الميتة وقد اختفت وتبدَّدَت حضارات كثيرة. بقلم