الجزائر في مواجهة مرآة الحقيقة: أكاذيب الداخل والخارج    تونس تتحول في عهد قيس سعيد إلى ظل باهت لنموذج سلطوي مأزوم    مشروع ورش الدار البيضاء البحري يرعب إسبانيا: المغرب يواصل رسم ملامح قوته الصناعية    تصاعد التوتر بين الهند وباكستان بعد قرار قطع المياه    كندا.. قتلى وجرحى إثر دهس سيارة لحشود في مهرجان بفانكوفر    طقس الأحد: أجواء حارة بعدد من الجهات    فاجعة ابن احمد: الأمن يوقف شخصا ادعى أن "السفاح" قتل أيضا طفلة لا يتجاوز عمرها 12 سنة    "العدل" تستعدّ لإصدار نصّ تنظيمي بشأن تطبيق قانون العقوبات البديلة    "لبؤات الفوتسال" يواجهن أنغولا    جلسة حوارية "ناعمة" تتصفح كتاب "الحرية النسائية" للمؤرخ بوتشيش    احتجاج أمام "أفانتي" في المحمدية    حقيقة قتل "سفاح ابن أحمد" لطفلة    برشلونة يحرز لقب كأس إسبانيا    "المرأة البامبارية" تُبرز قهر تندوف    المديني: روايتي الجديدة مجنونة .. فرانسيس بابا المُبادين في غزة    فوزي لقجع نائب أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    الأمن يصيب جانحا بالرصاص بالسمارة    بنكيران يتجنب التعليق على حرمان وفد "حماس" من "التأشيرة" لحضور مؤتمر حزبه    الدوري الماسي: البقالي يحل ثانيا في سباق 3000 متر موانع خلال ملتقى شيامن بالصين    قتلى في انفجار بميناء جنوب إيران    الكرفطي ينتقد مكتب اتحاد طنجة: بدل تصحيح الأخطاء.. لاحقوني بالشكايات!    المباراة الوطنية الخامسة عشر لجودة زيت الزيتون البكر الممتازة للموسم الفلاحي 2024/2025    الكلية متعددة التخصصات بالناظورتحتضن يوما دراسيا حول الذكاء الاصطناعي    أدوار جزيئات "المسلات" تبقى مجهولة في جسم الإنسان    أخنوش يمثل أمير المؤمنين جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    تتويج 9 صحفيين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    مناظرة جهوية بأكادير لتشجيع رياضي حضاري    جديد نصر مكري يكشف عن مرحلة إبداعية جديدة في مسيرته الفنية    بواشنطن.. فتاح تبرز جاذبية المغرب كقطب يربط بين إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة    المغرب يرسّخ مكانته كمركز صناعي إفريقي ويستعد لبناء أكبر حوض لبناء السفن في القارة    جيدو المغرب ينال ميداليات بأبيدجان    إطلاق مشروعي المجزرة النموذجية وسوق الجملة الإقليمي بإقليم العرائش    مؤتمر "البيجيدي" ببوزنيقة .. قياديان فلسطينيان يشكران المغرب على الدعم    برهوم: الشعب المغربي أكد أنه لا يباع ولا يشترى وأن ضميره حي ومواقفه ثابتة من القضية الفلسطينية    بدء مراسم جنازة البابا في الفاتيكان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    من تندرارة إلى الناظور.. الجهة الشرقية في قلب خارطة طريق الغاز بالمغرب    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" ببني شيكر.. والدرك يفتح تحقيقات معمقة    تتويج الفائزين في مباريات أحسن رؤوس الماشية ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2025    بدء مراسم تشييع البابا فرنسيس في الفاتيكان    اعتذار على ورق الزبدة .. أبيدار تمد يدها لبنكيران وسط عاصفة أزمة مالية    ولاية أمن الدار البيضاء توضح حقيقة فيديو أربعة تلاميذ مصحوب بتعليقات غير صحيحة    ماذا يحدث في بن أحمد؟ جريمة جديدة تثير الرعب وسط الساكنة    المرتبة 123 عالميا.. الرباط تتعثر في سباق المدن الذكية تحت وطأة أزمة السكن    الهلال السعودي يبلغ نصف نهائي نخبة آسيا    وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منهاج الفلسفة والجائحة
نشر في لكم يوم 06 - 04 - 2020


تمهيد:
باحتساب الموسم الدراسي الحالي (2012/2020)، يكون قد مر على برنامج الفلسفة المعمول به في السلك الثانوي التأهيلي بالمدرسة المغربية منذ موسم (2007/2008)، أكثر من ثلاثة عشر سنة. وإذا كان العقد الثاني من الألفية الثالثة قد عرف زلزالا سياسيا تلخصه عبارة" ربيع الشعوب الديمقراطي"، بنجاحاته وإخفاقاته، لم يُخَلِّفْ أي أثر على برنامج الفلسفة، فإننا اليوم أمام زلزالٍ طبي وبيولوجي مس العالم، كل العالم، وفرض تغيرات مست الكائن الإنساني، حيثما وجد، في عيشه وسلوكه وحياته اليومية، دقيقة بدقيقة، وساعة بساعة، ويوما بيومٍ. فهل سيتفاعل العقل التربوي في وزارة التربية الوطنية، على مستوى المناهج عامة، والمنهاج الفلسفي خاصة، مع هذا الزلزال أم سيتجاهله كما تجاهل الرجة التي أحدثها، ولم تنتهي بعد، ربيع الشعوب؟
ثلاثة أسئلة تفرض نفسها علينا هنا:
كيف كنا نتمثل، بشكل صريح أو ضمني، وفي حدود المنهاج الدراسي لمادة الفلسفة المعمول به منذ 2008، علاقتنا بالفكر الفلسفي في امتداده الزمني من جهة، وفي امتداده الجغرافي من جهة أخرى؟
ما هي المظاهر العامة للجائحة؟
ما هي الأسئلة الفلسفية التي تفرضها مظاهر الجائحة؟
-1-
بعض من ملامح الدرس الفلسفي الحالي:
حينما نتأمل "المنهاج الفلسفي"، على مستوى الثانية باكلوريا تأهيلي، نلاحظ أنه اعتمد على مستوى الهيكل، وبشكل ضمني، تقسيما للفلسفة يجمع بين أسئلة كانط الأربعة (ما الإنسان؟ ما الذي يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب علي أن أفعله؟ ما الذي يمكنني أن آمله؟)، وبين التقسيم الكلاسيكي للفلسفة الذي ينظر إليها من خلال ثلاثة محاور هي محور الوجود، ومحور المعرفة، ومحور القيم. ونتيجة هذا التركيب الضمني كان هو: مجزوءة الوضع البشري، أو ما الإنسان؟ ومجزوءة المعرفة أو ما الذي يمكنني أن أعرف؟(محور المعرفة) ومجزوءة السياسة أو ما الذي يجب علي أن أفعل؟ (من محور القيم). ومجزوءة الأخلاق أو، نسبيا، ما الذي يمكنني أن آمله؟ (محور القيم).
على مستوى الديداكتيك، يتناول المنهاج الدروس من خلال ديداكتيك يعتمد المفهوم مدخلا. فالدرس الفلسفي هنا ليس درسا في تاريخ الفلسفة، مذاهبها، ونظرياتها، ومفاهيمها، ومناهجها، بل هو درس يتناول مفاهيم فلسفية بعينها. لا يتناولها تناولا معجميا وقاموسيا، وإن كان من المطلوب تقديم فرشة قاموسية للمفهوم؛ لا يتناولها تناولا تاريخيا، بل يتناولها تناولا إشكاليا. فالمنهاج قد حدد الإشكاليات، أو زوايا التساؤل، التي من خلالها يتم تناول كل مفهوم مفهومٍ، على أن يتمتع المدرس بحرية اختيار الفيلسوف الذي يريد للقيام بهذا التناول الإشكالي للمفهوم، مع ما في ذلك من تتبع للمنعرجات الإشكالية للمفهوم لدى الفيلسوف الذي تم اختياره.
إن المقاربة المفهومية، وبفعل أن المفهوم يخدعنا بطبيعته المجردة والعامة والمتعالية، تُهْمِلُ البعد الزمني. في درس الفلسفة المعتمد على المقاربة المفهومية يغيب التاريخ. إن انتقاد غياب التاريخ لا يعني أن علينا أن نحول الدرس إلى حكاية أو رواية تسافر مع المفهوم أينما سافر. إن المقصود بغياب التاريخ، هو أن المنهاج لا ينص، ومن واجبه الديداكتيكي والرسمي أن ينص، ولا يستحضر المقاربة التي تركز على قيمة المفهوم، القيمة التاريخية، وإلى جانبها القيمة الفكرية. فالقيمة التاريخية للمفهوم تبرز لنا أي دور لعبه في هذا الفضاء الثقافي، وأي دور يمكنه أن يلعبه إذا دخل فضاءنا الثقافي. سؤال التاريخ في درس الفلسفة هو سؤال القيمة التاريخية، وسؤال القيمة التاريخية هو سؤال الجدوى من دراسة هذا المفهوم أو ذاك، أو عدم جدواه، والشروط التي تجعل له فائدة، وتلك التي تنزع منه كل فائدة فتحكم عليه بالجمود.
في ظل غياب بعد التاريخ في ديداكتيك المفهوم، غاب التفاعل مع تاريخ الفلسفة، فحكمنا بالصمت والغياب على الأساليب الإشكالية التي اعتمدتها الفلسفة في بلاد الإسلام، المسلم منها والعبري والمسيحي والزرادشتي. في ظل غياب بعد التاريخ غيبنا حوار الثقافات، فتناولنا المفاهيم على أنها مادة معرفية يجب العلم بها، وكفى، هذا في حين أنه يجب أن نقف على التفاعل الذي ربما يكون قد حصل، أو قد يحصل بين هذه المادة الفلسفية الغربية وبين المنتوج الفكري والفلسفي لدينا. مثلا: كيف تم تلقي الفلسفة السياسية الغربية عندنا؟ كيف تم تلقي فلسفة الأنوار؟ كيف تلقينا فكرة التاريخ؟
-2-
بعض مظاهر الجائحة:
أزعم أن جائحة كورونا قد كرست مظهرا يمكن صياغته فكريا من خلال عبارة وحدة الوجود، الوجود الإنساني والوجود الطبيعي. نعم كان هناك إيمان لدى مختلف شعوب العالم على أن هناك وحدة عملية ذات أشكال متنوعة بين دول وشعوب العالم. كنا نلخص هذه الوحدة في مفهوم "العولمة". وقد انحصر تمثلنا للعولمة في الجانب الاقتصادي، وتمثله منظمة التجارة العالمية، والجانب السياسي، وتمثله منظمة الأمم المتحدة فضلا عن تدخل الدول العظمى واقتحامها بلدان دول أخرى، والجانب المعلوماتي، وتمثل شبكة الأنترنيت.
لم نكن نتمثل هذه الوحدة على مستوى تصنيف البلدان والشعوب والدول. على خلاف إيماننا بالوحدة المفروضة بقوة العولمة، لم نكن نؤمن بأن هناك وحدة تجعل كل دول العالم سواسية تسير وفق إيقاع واحد للنمو والتطور. كنا على يقين، وعلى مضض، بأن هناك دول بلغت مرتبة من التقدم، وأخرى لا زالت في المراحل التي تجاوزتها هذه الدول المتقدمة. وقد رتّبْنا على هذا التمثل سلوكا يقضي بأننا نحن شعوب التأخر التاريخي لازلنا، بالمقاييس الغربية، نعيش القرن الثالث عشر الأوربي، قرن المخاض. فنحن في البرزخ لم نخرج من "القديم" إلا جزئيا، ولم ندخل "الجديد" بعد إلا نسبيا. لهذا فلا يجوز لنا أن نهجو العقل والحداثة والأنوار. لا يجوز لنا أن نتبنى الأطروحات الفكرية التي تنتقد العقل والحداثة والأنوار (فلسفات العدم، فكر الاختلاف، فكر التفكيك، مدرسة فرنكفورت، النزعات الأنثربولوجية)، والتي تجمعها عبارة "ما بعد الحداثة". إن قراءة فوكو (1926-1984)Michel Foucault واستحضار هايدغر (1889-1976) Martin Heidegger جميل في حدا ذاته، لكنه ترف غير مفيد لنا من الناحية التاريخية. فنحن لم نتذوق بعد حلاوة العقل والأنوار والحداثة وشبعنا منها، فحق لنا الانخراط في هجائها. هذا هو الجو الفكري العام. فما هي الرجة التي أحدثتها جائحة كورونا العالمية؟
لقد فرضت علينا الجائحة بطابعها العالمي أن نعيد النظر في أطروحة "توقير العقل" وعدم "هجاء الحداثة" و"التأدب مع الأنوار". تمنينا لو بقينا نحفظ للتاريخ هيبته، ونقر بأن هناك إيقاعات متفاوتة للتقدم لا تسمح لنا بنقد ما يوجد في المقدمة. لكن كورونا لم تترك لنا هذا "الأدب" وهذه "اللياقة" في التعامل مع حركة الفكر.
نعم فرضت كورونا وحدة الجنس البشري. فشخص في الصين عطس، وآخر فقي نيويورك دخل المستشفى، وثالث في باماكو يستعد للأسوأ.
نعم فرضت كورونا وحدة كائنات الطبيعة. فالكائن الحي المسمى إنسانأ لم يعد له ترف أن يعيش دون انتباه إلى الكائنات الأخرى.
نعم فرضت كورونا وحدة الوجود الإنساني ووحدة الوجود الطبيعي. فالإنسانية تمرض معا، وعليها أن تجد العلاج لبعضها البعض. إن فك مدرس معادلة كيميائية في أقصى الأرض قد يكون له صدى في الطرف الآخر منها. على كل فرد أن يتحمل مسؤولية أفعاله أمام ذاته، وأمام الإنسانية، وأمام الكائنات الأخرى. يمكننا القول بأن مضمون عبارة "وحدة الوجود الإنساني والطبيعي" يحيل على مفهوم النسق. فهناك نسق إنساني، ونسق طبيعي. ما هي الأسئلة التي يفرضها النسق الإنساني، وتلك التي يفرضها النسق الطبيعي؟
بينت الجائحة، على المستوى الإنساني، وحدة الجنس البشري. ويمكن التعبير عن هذا المفهوم السوسيولوجي بمفهوم فلسفي هو مفهوم الكونية. من هنا علينا أن نتساءل عن مدى الكونية، وأسسها، ومظاهرها.
إذا كانت الجائحة قد كشفت وحدة بين الجنس البشري، فإن طرق التعامل معها قدِ اختلف باختلاف البلدان. بل نجد أن هناك اختلافا اخل البلد الواحد على المستوى الشعبي، وعلى المستوى السياسي الرسمي. فالنسبة لنا في المغرب، وعلى المستوى الشعبي، هناك من التجأ إلى العلم وحده، وهناك من التجأ إلى الإيمان بمفرده، وهناك من حاول الجمع بينهما. أما على المستوى السياسي الرسمي، وكما حصل في عدد كبير من حكومات العالم، فقد بينت الجائحة أن لا ملجأ إلا إلى الدولة بما هي مؤسسة عمومية، ولا دور إلا دور القطاع العام. لقد اكتشفت النخب الفاعلة، سواء من موقع السلطة السياسية، أو من موقع الإنتاج الاقتصادي أو الحماية الأمنية، أن مكانة الدولة كمؤسسة عمومية قد تكرست بشكل أقوى من أي مرحلة أخرى. إن التفاوت في طريقة التعامل مع الجائحة على المستوى الشعبي يطرح علينا سؤال المعرفة، بما هو تساؤل حول تعدد وتنوع المعارف، وتمايزها على مستوى الموضوع والمنهج والمفاهيم. أما طريقة التعامل مع الجائحة على مستوى الحكومات فقد طرح بقوة سؤال الدولة.
بينت الجائحة، على المستوى الطبيعي، أن كائنا "حيّاً" دقيقا، هو فيروس كورونا، قد أربك حركة الإنسان، إن لم يكن قد أوقفها أو أبطأ من سرعتها، فإن هذا يطرح علينا سؤال تفاعل الكائنات في ما بينها داخل هذا الكوكب. وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال الحياة المتنوعة في هذا الكوكب، وهو سؤال يثير مفهوم الكائن الحي.
-3-
أسئلة فلسفية لزمن ما بعد الجائحة:
رأينا أعلاه أن أربعة أسئلة تفرض، في زعمي، نفسها على الدرس الفلسفي بالمغرب. إنها سؤال الكونية، وسؤال المعارف، وسؤال الدولة، وسؤال الكائن الحي. إنطلاقا من هذه الأسئلة يمكننا أن نقترح التصور الآتي:
على مستوى الديداكتيك، يستحب مواصلة العمل بديداكتيك المفهوم.
على مستوى "السحنة النظرية" للدرس، يجب تطعيم المقاربة المفهومية بالبعد التاريخي عامة، ومبدأ "القيمة التاريخية والفلسفية" خاصة، وهذا تفاعلا مع الطابع النسقي الذي فرضته الجائحة على البشر وعلى الطبيعة.
أما على مستوى الهيكل فأقترح ثلاث مجزوءات بدل أربعة. المجزوءة الأولى هي مجزوءة "الشرط البشري" (وليس الوضع البشري). ويندرج ضمن هذه المجزوءة مفهوم الكونية. ولأن الكونية تستبطن مقابلا لها هو الخصوصية (الفرد) من جهة، والمحلية (الجماعة) من جهة أخرى، فيمكن أن يحضر داخل هذه المجزوءة مفهوم الذات le sujet ، ومفهوم الهوية l'identité . لكن يجب أن يبدأ الدرس بالذات ثم الهوية ثم الكونية، على أن تتم قراءة مفهومي الذات والهوية على ضوء وتحت "رقابة" مفهوم الكونية، وإلا كنا قد ضيعنا أهم درس من دروس كورونا.
إن المبدأ الذي يحكم هذه المجزوءة هو مبدأ التفاعل بحيث أن المتعلم يتخلص من كل موقف انعزالي أو استعلائي. أي أن يكون هناك تفاعل بين الدوائر الثلاث، دائرة ما هو فردي، ودائرة ما هو وطني، ودائرة ما هو إنساني.
أما المجزوءة الثانية فهي مجزوءة المعرفة. وهنا أقترح توليد مفهوم إبتسمولوجي هو "تصنيف المعارف" بدل "تصنيف العلوم". تتوزع هذه المجزوءة إلى ثلاث مفاهيم هي العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية، والعلوم الدينية. وهنا يجب أن نتناول هذه الأصناف الثلاث من المعرفة من خلال التساؤل حول الموضوع والمنهج والمفاهيم. فعلى مستوى الموضوع يمكن أن نحدد الفيزياء(الحركة والمادة) والبيولوجيا (الكائن الحي) كنموذج للعلوم الطبيعي. أما النموذج المقترح للعلوم الإنسانية، فهو السوسيولوجيا(العلاقات والجماعات) والتاريخ (الحدث) نموذجا للعلوم الإنسانية. ويمكن أن نجعل وأصول الدين(كيف نستنبط العقيدة) وأصول الفقه(كيف نستنبط القاعدة السلوكية) نموذجا للعلوم الدينية. أما على مستوى المنهج والمقاربة، فيجب تناول المناهج التي تعتمد على التفسير، وتلك التي تعتمد على الفهم، والتأويل.
إن المبدأ الذي يحكم هذه المجزوءة هو مبدأ المقارنة. فيجب أن تنتهي المجزوءة بمقارنة بين هذه المعارف حتى "نفصل المقال في ما بين المعارف من اتصال" بحيث تتضح للمتعلم أن العلوم والمعارف تتفاوت موضوعا ومنهجان وبالتالي لا يجوز الخلط بين الأجناس.
أما المجزوءة الثالثة والأخيرة، وتفاعلا مع تكريس الجائحة لوحدة الكائنات الحية، فإني أسميها مجزوءة "سياسة الحياة". عماد هذه المجزوءة هو مفهوم الكائن الحي من جهة، ومفهوم الدولة من جهة أخرى. بأي معنى يحضر مفهوم الكائن الحي في هذه المجزوءة؟ إن هذا الدرس هو درس في الفلسفة وليس درسا في البيولوجيا أو الفيزيولوجيا أو الطب. لهذا فلن يكون هنا أي حديث عن الطبيعة الفيزيولوجية للإنسان. سيحضر مفهوم الكائن الحي ليدل على الإنسان ككائن له حاجات غريزية حيوية، وله رغبات نفسية وانفعالية. وللمجتمع أيضا حاجات ورغبات.
يمكننا أن نتحدث عن الإنسان ككائن حي من خلال مفهوم الحاجة والرغبة. وهنا سنجد أنفسنا نتناول صراع الإنسان مع محيطه الطبيعي من أجل تحقيق حاجاته، وأهمها البقاء. كما سنتناول صراعه مع محيطه الإنساني من أجل تحقيق رغباته، وأهمها الرغبة في الاعتراف. إن الصراع الأول يحيلنا على علاقة الإنسان مع الطبيعة والبيئة. أما الصراع الثاني فيحيلنا على علاقة الإنسان بالمجتمعات الأخرى وبالإنسانية.
ما هي الأداة التي يحقق بها الإنسان الحياة؟ إنها المؤسسة. وما هي أشكال هذه المؤسسات؟ إنها مؤسسات متنوعة، أهمها الدولة. من هنا يأتي إقرار مفهوم الدولة. ولأن المجزوءة هي مجزوءة "سياسة الحياة" فإن مفهوم الدولة يندرج من زاوية المبحث ضمن مبحث الفلسفة السياسية، حيث نطرح سؤال الغاية والشرعية، وطبيعة الأدوات التي تعتمد الدولة عليها لممارسة سلطتها. كما يندرج مفهوم الدولة ضمن معارف "البيو-سياسة"، أو "سياسة الحياة" كما يحددها ميشيل فوكو. من هذه الزاوية يكون لزاما علينا، أن نقارن بين مختلف المؤسسات التي عملت على تحقيق "الحياة". ولهذا يجب أن نبين الفرق بين الأسرة والقبيلة والطائفة والدولة. لأن الدولة مؤسسة تسهر على "سياسة الحياة" من خلال إحصاء النفوس، وتوفير وتوزيع الخيرات، والسهر على الصحة العامة، فإنها مطالبة أيضا بحماية الحياة أمام كل تهديد خارجي. على هذا المستوى ننتقل من "البيو-سياسة" ونعود إلى الفلسفة السياسية حيث نثير مسألة العلاقات بين الدول. نجد أنفسنا أمام مفهوم المنتظم الدولي. هذا مفهوم ينتمي غلى العلوم السياسية، ومقابله الفلسفي، على مستوى الإشكالية، هو مفهوم السلم العالمي. إن وحدة الكائن الحي تفرض على الدولة أن تجري "مساومات" مع الدول الأخرى، مثلما أجرى الأفراد تعاقدا اجتماعيا أسسوا بموجبه الدولة. تفرض ضرورة الحفاظ على الحياة أن تعقد الدولة اتفاقات مع غيرها، اتفاقات لا تكون دائما وفق ما يتطلبه الحق ومبادئ العدل، بل تفرضها الحاجة غلى الحياة. تتصرف الدولة هنا وفق المبدأ المشهور باسم "منطق الدولة" la raison d'Etat.
بما أننا المجزوءة تتعلق بالكائن الحي، وبما أن الجائحة كرست وحدة الكائن الحي، فإنه من الواجب أن نقتطع قسما من مفهوم الدولة ومفهوم "السلم العالمي" لنقف عند وظائف الدولة ووظائف المنتظم الدولي في ما يخص علاقتهما بالبيئة وبالكائنات الحية الأخرى. فلا يمكن أن تقوم سياسة للحياة دون أن يكون من غايات المؤسسات ووظائفها حفظ التوازن داخل المجال الذي تتحرك داخله هذه المؤسسات.
إن المبدأ الذي يجب أن يحكم هذه المجزوءة، التي تتكون من ثلاثة مفاهيم هي الرغبة، والدولة، والسلم العالمي، هو مبدأ الحياة، بحيث أن تحقيقها يتطلب مؤسسة الدولة من جهة، ومؤسسة "المنتظم الدولي" من جهة أخرى. لهذا فدرس الدولة يكتسي ملمحا بيولوجيا أكثر منه ملمحا سياسيا. نحن ضمن "البيو-سياسة" أكثر مما نحن ضمن "الفلسفة السياسية" أو ضمن العلوم السياسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.