في هذا النص فاجأتنا رائدة شلالفة بأسلوب جديد من بوح روحها، ولعل مثلي من عرف رائدة صحافية متميزة أولاً، وتابعها عبر ما نشرته خلال الفترة الزمنية الأخيرة من نصوص أدبية، يستطيع أن يلحظ الفارق بين هذا النص ونصوص سابقة لها، ففي هذا النص يلفت العنوان النظر من البداية (مطر و.. تراب)، يعطينا صورة مسبقة حول طبيعة العلاقة الأزلية بين هذه العناصر، فتمازج الماء مع التراب صنع الطين الذي هو أصل الحياة، وفي الأديان السماوية الثلاثة، ففي قصة خلق سيدنا آدم أبي البشرية كانت الإشارة واضحة عن مزج التراب بالماء ليتكون الطين الذي به خلق آدم ونفخ الله فيه الحياة من روحه، ولعل بداية رائدة نصها بهذه الكلمتين، عنصري الخلق، رسالة موجهة إلى القارئ ليجول في مدارات النص الخمسة بعد مقدمة للنص. المقدمة التي استخدمتها رائدة لنصها تحدثت عن قصة (إنانا/ عشتار) كما ورد الاسم في الأساطير وكيف انتقلت من الأعالي إلى (ديموزي/ تموز) الذي اختطفته شياطين العالم السفلي، وتقول الأسطورة إن عشتار كانت متآمرة عليها في عملية الاختطاف، فتوقف الخصب في الأرض، فشعرت إنانا بذنبها فهبطت لتبحث عنه لتعيد الخصب وتكفر عن ذنبها، ولعل استخدام هذه الفكرة كمقدمة للنص توحي لنا إضافة إلى العنوان لما تريد رائدة أن تبوح لنا به من خلال ثنايا النص، هذا النص الذي استخدمت فيه الرمزية كثيراً إلى درجة تجعل القارئ المهتم يعيد قراءة النص أكثر من مرة لفهم المغزى والمعنى والرسالة المستترة وراء الكلمات. لجأت رائدة إلى ممازجة الأسطورة (ديموزي وإنانا) مع الخيال الأدبي (زوربا) وهو الشخصية المميزة التي ابتكرها نيكوس كازنتزاكس والحقيقة العلمية (مطر وتراب) في النص، إضافة إلى ورود كلمات من آية قرآنية (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) وإن كان من المفترض أن تضعها كاتبة النص بين قوسين إشارة للاقتباس، رغم أنها في الاستكمال قالت: (دُونَ أَنْ تَمْسَسْهُ نَارٌ(، فغيرت في سياق النص الآية التي تقول بعد بسم الله الرحمن الرحيم : (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ)، [النور: 35])، فجعلت هذه الممازجة من النص لوحات مثيرة للروح جمالاً وفكرة. نجد الكاتبة قررت من خلال سيدة النص كما إنانا أن تهبط إلى مَن تخاطبه، (إلى العالم السفلي سأهبك .. أبيضي)، فهل كانت سيدة النص قد تسببت أن يُختطف المُخَاطب وشعرت بالندم، فقررت أن تذهب إليه وأن تطلب منه أن يسامحها بحيث أنها قالت: (سأهبك.. أبيضي)؟ وناشدته بالقول: (صبّني إليك!!)، أم أنها شعرت أنه رغم البعاد والمسافة التي تفصلهما، أنه ينتظرها بأشواق ويحلم رغم قسوتها عليه باللقاء فقالت: (فتفوحني رائحة انتظار قبيل.. أوائل المطر)، فنجد من خلال ذلك أننا نعود إلى العنوان: (مطر و.. تراب)، فالتراب يكون متشوقاً للمطر، ولعله أيضاً يشعر أن المطر مهما طال انحباسه لن يوقف شوقه للقائه، فكان تشبيه سيدة النص بالتراب بشكل مستتر وبدون توضيح في الشطر السابق، يعطي التشبيه للمخَاطب بالمطر، وتتواصل هذه الصورة من خلال الأشطر اللاحقة حين تقول: (أي "دغدغةٍ" تلفح وجعي، حين أنتظر موعده، ليهطل قلبي.. رعشات حارة)، فنجد حجم التشبيه بهذه الصورة الجمالية للتراب وهو يرتعش جفافاً بانتظار المطر. في اللوحات الرابعة والخامسة تعبر الكاتبة من خلال سيدة النص عن حجم الشوق ووصف اللحظة التي تنتظر، لقاء روحين وجسدين، كما لقاء التراب مع المطر، فالإشارة إلى لقاء الجسد تتجلى من خلال: (ملحُ جسده فائضٌ(، فلا يفيض الملح من الجسد إلا بالتعرق، والإشارة إلى اللقاء الروحي من خلال: (وارتعاشة المساء في حضنِ الليل، تشبهنا.. إلى حد بعيد)، وإن كانت سيدة النص تعتبر أن هذا اللقاء رغم الشوق له يحفل بالذنب حين تقول: (كي .. أقترفه أجمل الذنوب)، رغم أنها تصرخ بقوة: (لأرتدي جسدي إليه)، فهي تتوق لمعانقة التراب مع المطر لخلق حياة جديدة، حياة يملؤها الخصب من خلال استخدام رمز (تموز)، والشوق والعاطفة من خلال (عشتار)، فهي تريده أن: (يتساقط بين يديَّ نبيذاً حاراً أشربه من بين شفتيه ساعة احتضار). وخاتمة الحديث والتجوال في نص (مطر و.. تراب) لرائدة شلالفة أنه بعض من نزف روحي، نزفته روحها ذات تشرين، حين كان الجميع ينتظر المطر الذي تأخر كثيرا لهذا العام الذي كتبت به النص 2010 وهي تجول دروب عمان الغربية، حيث يسكن أولئك المرفهون الذين قد ينزعج البعض منهم من المطر، لأنه قد يبلل ثيابهم أو يفسد تسريحة شَعرهِم، أخالها تجول الدروب، أفكارها شاردة تحلم بالمطر الذي تنتظره سيدة نصها، كما تنتظره الأرض، فمازجت ما بين أشواق سيدة النص لمطرها، والأرض لمطرها، فسكبت علينا نزفها مطراً وجمال صور، تاركة المجال للقارئ لأن تجول روحه قبل عينيه في أروقة النص ومحراب المطر والتراب ونزف الروح. (رام الله 17/12/2010 مطر.. وتراب .. رائده شلالفه هامش: "إنانا هجرت السماء والأرض وإلى العالم السفلي هبطت نبذت السيادة ونبذت السلطان .." 1 سأهبط إلى علوّك .. "ديموزي" وإلى العالم السفلي سأهبك.. أبيضي !! "ديموزي" .. يا إله المتعبين صبّني إليك !! 2 ترابه يراود حبات مطري فتفوحني رائحة انتظار قبيل ... أوائل المطر! أي "دغدغةٍ" تلفح وجعي حين أنتظر موعده ليهطل قلبي رعشات حارة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء دون أن تَمْسَسْه نَار ! 3 مشبع مسائي بخطواته من ورائي وعلى حافة ثوبي المتوثب أشيح بخاصرتي له .. أن تعال ليراقصني كما يديّ زوربا الثملتين ! 4 أدنو منه فتحملني "طقطقات" أصابعه لتَدُلّني إليّ .. ملحُ جسده فائضٌ.. وارتعاشة المساء في حضنِ الليل تشبهنا .. إلى حدٍ بعيد !! 5 لرائحة فجره "همهمات" أشمّها الآن .. وصرير سرير يدعوني إلى فنجان قهوته كي .. أقترفه أجمل الذنوب !! تدهشني أصابعه العارية .. أيُّ صباحٍ يشتاقُه لأرتدي جسدي إليه ! أطلع منه .. مثقلة به ما أينعه .. حين أعبر بين أصابعه ليتساقط بين يديَّ نبيذاً حاراً أشربه من بين شفتيه ساعة احتضار !! ذات تشرين / عمان .. غرباً / 2010 !!