في سبيل رفع اللبس الذي طال - ولا زال يطال - الامازيغية سيتناول هذا المقال المتغيرات السيوسيوسياسية التي جعلت من الامازيغية ، وبامتياز موضوع الانشغال لدى العديد من الكتّاب و القرّاء. لن أتناول خصوصيات اللغة الامازيغية التي اثبتها التاريخ وأقرّتْها العلوم الإنسانية بشتى فروعها و أقسامها (ربما سيكون موضوع أحد مقالاتنا القادمة) ، لكن سأحاول التركيز على بعدين أساسين ساهما بشكل او بآخر في رسم النموذج الرسمي / الاعلامي للأمازيغية وفي تبويئها مكانة اجتماعية لا ينظر إليها بعين الرضى. البعد الاول يتجسد في البعد السياسي: خلال العقود الماضية تم استبعاد الامازيغية من المجال السياسي بصفة نهائية و تمّ إقصائها من أي دور كان من المفروض ان تلعبه لأسباب تتجسد أساسا في النظرة الأُحادية لدولة ما بعد "الاستقلال" وفي تبني الاحزاب المغربية بجميع أطيافها السلفية والإدارية و اليسارية قيم العروبة و الاسلام والانخراط في برنامج التعريب الشامل للوطن و للإنسان من خلال التنافس على برامج تعليمية تأخذ بجدية ربط المغرب بالشرق الاوسط وهو ما يفسر ان أول درس في مادة التاريخ الذي كان يُدرّس للمغاربة كان يتناول أوضاع الجزيرة العربية ما قبل الاسلام و اثناء الاسلام ومراحل "الفتح" و تأسيس الدول الشريفية بالمغرب. وهو ما رسخ الاعتقاد لدى الاجيال المتلاحقة من المغاربة أنهم عرب أقحاح من خلال شحنهم بمعلومات تخضع لإيديولوجياتهم القومية المبنية على القيم العربية. والسير في هذا المنوال سبقه حدث هام دفعت الامازيغية من خلاله ثمنا باهظا ولازالت ملزمة بدفعه كلما تمّ تناول الحقوق الثقافية و اللغوية للمغرب رغم المتغيرات الجيوسياسية و ظهور حركات تصحيحية احتجاجية التي تداركت الموقف لكنها لا تزال في حاجة إلى تقوية عضدها لتواجه ذلك الارث البئيس. الحدث يتمثل في ظهير 16 مايو 1930 م الذي ما فتئ أصحاب اللطيف ومريديهم يلوحون إليه كلما تم تناول ملف الامازيغية مشيرين إلى "الفتنة" و "عدم الإستقرار و "الإرث الاستعماري" ...إلخ. منذ 1930 والأمازيغية مركونة خارج النقاش السياسي و الحقوقي و الثقافي و اللغوي بدعاوي واهية أصبحت اليوم بحكم الواقع والتاريخ متجاوزة. فبقدر ما تلقّتْه الامازيغية من ضربات وصفعات خلال العقود الماضية بقدر ما قوّت العزيمة و الإرادة في نفوس أبنائها وعزّزت الوعي بذواتهم ورسخت في قلوبهم حب النضال و التضحية. فبدأ الوعي الحداثي الذي يتناول الامازيغية من ابعادها الحضارية و الهوياتية يكتسح الساحة الوطنية وبدأت الجمعيات المدنية تتناسل بالمدن قبل القرى حاملة معها همّ تصحيح المفاهيم السائدة التي روّجت من خلال مؤسسات الدولة من مدرسة و اعلام ومسجد ,,,ألخ، الشيء الذي جعل العديد من المؤسسات الحزبية و المدنية تغير رأيها تجاه الامازيغية – القضية العادلة - وهو ما عكسته المذكرات التي قدمت في إطار تعديل الدستور، فبالرغم من الرجوع من هذا الشرود الذي شكل لبعضها المنطلق الاساسي للمنظور الإيديولوجي الذي تم تبنّيه في عقود ما بعد "الاستقلال"، فإن علقيات بعض الحزبيين و "الوطنيين" لا تزال تحنّ إلى تلك الفترات حيث الامازيغية ترادف الأمية كما عبّر أحدهم عن ذلك. فإذا كان البعد السياسي قد ساهم فيما مضى في رسم النموذج الغير المرغوب فيه للأمازيغية من خلال المعطيات التي ذكرناها أو التي لم نأتي على ذكرها، فإن الفاعل الأمازيغي ملزم باتخاذ موقف ايجابي تجاه الفعل السياسي الحزبي و الانتقال إلى موقع القرار و الاقتراح والمشاركة من خلال مقاربتين لا ثالث لهما: المقاربة الاولى تتجلى في العمل على اقتحام المؤسسات الحزبية الحالية و العمل من داخلها من خلال تقويم اعوجاجها الفكري و تصحيح مغالطاتها الايديولوجية و نعتبر ذلك امرا سهلا بحكم قوة الخطاب الامازيغي وقدرته الإقناعية المبنية على أسس علمية تستمد مصداقيتها من العلوم الانسانية بشتى أقسامها وفروعها وكذا اعتبار الامازيغية بمثابة رأسمال رمزي يعتبر فاقده من الفئة الرجعية رغم ما سيترتب عن ذلك من مقاومة العقليات التي لا تزال تقدس خطاب الأحادية . المقاربة الثانية تتجسد في تأسيس أحزاب سياسية تأخذ بعين الاعتبار الأمازيغية منطلقها ومبتغاها وتتأسس على برنامج مجتمعي كامل يتجاوز التصور النمطي والموسمي لبرامج أغلبية الاحزاب المعروفة على الساحة الوطنية وكذا على قوة/ نخبة اقتصادية تعمل على توفير الدعم اللازم لأنشطتها و تحركاتها في تبليغ رسالتها تحسُّبا لأي مقاومة ظاهرة أو مبيّتة. هاتان المقاربتان تستلزمان القطع مع أساليب الاشتغال داخل الجمعيات المدنية الامازيغية التي شكلت في ما مضى و ستشكل في المستقبل اللبنة الاساس لبناء الوعي بالذات الامازيغية ولبناء المشروع الثقافي النهضوي الذي سيعرف لا محالة القطع مع النسخ المشوهة لثقافتنا على مدى عقود. خلاصة هذا البُعد تتجسد في كون أنّ الأمازيغية أُقصيت و هُمشت بقرارات سياسية ولن يُرد لها الاعتبار إلا بقرارات سياسية. البعد الثاني يتمثل في البعد الاجتماعي والسيكولوجي : منذ الاستقلال ولا أحد تكلم او طرح هل فعلا يفهم الأمازيغ ما يُقدّمُ لهم من خلال وسائل الإعلام و المدرسة والمساجد و الإدارات وما إلى ذلك ؟ منذ الاستقلال و لا أحد تحدث عن ذلك السيل العرم من الاطفال الذين يذهبون إلى المدرسة ويجدون انفسهم غرباء داخل فصل الدراسة لسبب بسيط كونهم لا يتقنون "لغة الأستاذ" لأن لغتهم الأم خارج المؤسسة التعليمية وحسب معاييرهم فإنها لم تلج بعد مستوى اللغات المدرّسة. لا أحد أعْرض عن المنكر المتزايد و المتنامي في الاعلام المغربي حينما يتعلق الامر بتصريف صورة الامازيغي على شكل الإنسان "البدائي" القاطن في اعالي الجبال وتُسوّق محنته إعلاميا أو عن ذلك الأمازيغي القاطن بالمدينة وهو يجسد –في أحسن الأحوال- صورة البخيل "الزقرام" و الذي يتحدث بلكنة الهامش ليصبح سلعة كوميدية للاستهلاك من طرف أهالي "المركز" "أصحاب الحضارة". ان العقد النفسية التي رسخها الاعلام "الوطني" و النظرة الدونية التي ثبّتها وسوقّها النظام التعليمي المغربي والمفاضلة بين الطرفين التي أقرّها المسجد باسم العروبة والخضوع والذل الذي قبله بعض من أبناء جلدتنا والاحتماء وراء وهْم الحسنات كلها عوامل ساهمت في بلورة البعد السيكولوجي لدى أجيال من المغاربة من خلال تبني ردودا سلبية تجاه الامازيغية اعتقادا منهم أن تبني موقف ايجابي تجاهها سيتسبب في تمريغ وجوههم كما مرّغت وجوه آبائهم من قبل أو الشعور بمواطنة ينقصها الكثير(وهو حال الكثير منا). انه البُعد الذي لا يزال رهن القيد في مكنونات اللاوعي لدى العديد من أبناء الوطن الواحد، فأن تكون امازيغيا بهذا المنظور يعني أن تتحمل مجموعة من الأوصاف و الصفات و ان تُحرم من مجموعة من الحقوق إعلاميا، تعليميا، دينيا، مدنيا و اجتماعيا. فليس من الصدفة في شيء ان يستمر الاعلام "الوطني" في سلاسة لسانه دون أدنى إحساس انه يخاطب شعبا غير الذي يتبّناه، وأن يطلق عليه تسميات و مصطلحات لا تمت له بصلة تاريخيا وواقعيا وأن يستمر في إقصاء الامازيغية في البرامج الشبابية التي تعرف نسبة مشاهدة عالية (استوديو دوزيم، كوميديا، للا العروسة...إلخ) و ما لهذه البرامج من وقْع و تأثير في نفوس الشباب. وليس من الصدفة في شيء ان يستمر النظام التربوي المغربي في سياسة التعريب الإثني و التاريخي للحياة المدرسية مع الاقحام الأعوج للامازيغية في هذا الجسم المريض أصلا، وهو ما نتج عنه ما يمكن أن نسميه "رسوب" تجربة تدريس الامازيغية بعد بضع سنوات من تعليمها رغم ما حققته هذه التجربة من مكتسبات مقارنة مع الماضي. فلا يمكن الحديث عن تدريس الامازيغية في غياب معادلة الميز الايجابي : بمعنى ان الامازيغية تعرضت للتهميش و الاقصاء طيلة العقود التي تلت "الاستقلال" فمن الطبيعي ان تقوم الدولة، باعتبارها المُسبّب الرئيسي لوضعيتها الحالية، بمضاعفة جهودها وتسخير إمكانياتها المادية و اللوجيستيكية للنهوض بها في مختلف المجالات و الميادين إيمانا منها برد الاعتبار لها و تبويئها المكانة التي تستحقها. فبالإضافة للميز الايجابي (المعتمد من طرف الاممالمتحدة كآلية قانونية لجبر الضرر) يجب العمل على استثمار العنصر البشري المكوَّن في مجال الامازيغية و بالخصوص خريجو مسالك الدراسات الامازيغية بالجامعات المغربية الذين تم استثناءهم في الولوج إلى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين مما يفسر أن هذا الاستثناء يدخل ضمن استراتيجية سياسة التعريب وغياب نية صادقة من طرف الوزارة الوصية في الدفع بعملية ادماج الامازيغية في النظام التربوي وفي مقابل ذلك نسمع تبريرات بغياب الموارد البشرية المكوّنة في هذا المجال. إن استثمار البعد السيكولوجي و الاجتماعي ايجابيا سيشكّل تقدما نوعيا في عملية رد الاعتبار للأمازيغية وسيساهم لا محالة في التصالح مع الذات وفي بناء المجتمع المتعدد وستسود قيم المواطنة و التسامح بين أفراده و جماعاته ، وأي محاولة لاستثماره سلبيا – كما كان عليه الوضع- سيزيد في قتامة صورة التناقض الموجودة بين السياسة الرسمية للدولة و بين الشعب. تطرّقنا ، باقتضاب كبير ، إلى البعدين السياسي و الاجتماعي اللذان ساهما في بلورة الصورة/ الفكرة التي ينطلق منها معظم المغاربة الذين لا يزال جزء منهم رهن الاعتقال الهوياتي الذي تعرضوا له على مدى عقود، وكان بالإمكان التطرق لكل بعد بشكل تفصيلي واستحضار للأدلة وللمحطات التاريخية التي طبعت تصور الخطاب "الوطني" في تعاطيه مع الامازيغية ، ابنة الارض و التاريخ و الجغرافيا، لكن إيماني بالمستقبل وما سيحمله الغد من تغيير إيجابي في العقليات و المواقف سيعزز مكانة الامازيغية لا محالة و ستستعيد بريقها ومكانتها كلغة وكقيم ثقافية وحضارية و هوياتية بعيدا عن الاسترزاق السياسوي والمصالح البرغماتية الضيقة. طالب بماستر اللغة و الثقافة الامازيغيتين جامعة محمد الخامس أكدال – الرباط هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.