في الواقع، ليس هناك من شيء أعقد من الأزمة السورية ! فإذا كان الجميعُ متفقًا على أنها لن تدوم حتى ولو طالت أكثر مما كان يُعتقَد، فمِمّا لا شك فيه أن لا أحد يعرف كيف ستنتهي: هل على الطريقة اليمنية أم على الطريقة المصرية ؟ على الطريقة التونسية أم الليبيّة ؟ أم أن هناك طريق آخر، لم يخطر بحسبان أحد ؟ والجميع أيضاً عاجزون عن معرفة متى يمكن لهذه الأزمة التي يستفحل خطرُها أكثر فأكثر ويتجرّع السوريون مرارَتها أن تجد لها مخرجا. ما الذي يمنع سوريا من تخطّي مشكلتها العويصة هذه ؟ الجواب موجود بطبيعة الحال في الأبعاد التي اتخذتها الأزمة في سوريا والتي جعلت من السوريّين وليمة يتكالبُ عليها لاعبون سياسيون عديدون. كانت أهداف المحتجين في بداية الانتفاضة السورية قبل عام لها علاقة بمطالب حقوقية وسياسية تنادي بالإصلاح والتغيير، واحترام الحريات والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد الاداري وتحقيق المساواة .. لكنْ، بعد تعامل النظام مع المتظاهرين بالقمع والعنف، أصبحت اليوم مطالبُ هؤلاء " ضحية " استغلال سياسي واضح تلعب فيه قوى محلية وإقليمية ودولية أدوارًا مختلفة. في الحقيقة، تعقدت الأمورُ مع تقدّم الزمن فأصبحت الجرائمُ التي يتعرّض لها السوريون يوميا لا تعدو أن تكون- من جراء مماطلات النظام ومناوراته المتكرّرة، واستمرار انقسامات المعارضة وانشقاقاتها وأيضا تزايد عدد فرقها– مجرد أخبار عادية، تتشابه في مضامينها يوما بعد يوم، ويتخذ عرضُها صياغات وأشكالا تستعمل تقريباً نفسَ الكلمات والصور.. ولم يَعُد الشارعُ العربي (الذي لا يتوفّرُ على العناصر الموضوعية اللازمة لتقييم واقع المواجهة بوضوح، ويفتقر للأدوات الابستمولوجية النظرية والتحليلية الضرورية لقراءة الأسباب الحقيقيّة للفخّ الذي سقطت فيه الأطرافُ المتحاربة) يتجاوبُ مع الأزمة السورية بنفس القوة والوتيرة إذ أصابه المللُ وبدأ اليأسُ يُقوّض أحلامَه الثورية ويتسرّب شيئا فشيئا إلى نفسيته وفكره فينال من مطالبه الإصلاحية والديمقراطية، فيدفعه إلى التقاعس والتراجع بل والاعتقاد بأن لا شيء ينفع ضدّ قهر واستبداد النظام.. وهذا ما تترجمه نتائجُ بعض استطلاعات الرأي (أنظر مثلا العرب أونلاين من 01-04-2012 إلى 15-04-2012) حول النهاية التي ستؤول إليها الأزمة السورية (انتصار النظام– نجاح الضغوط– توسع الفوضى) حيث نُفاجَأ بكون 98.6 °/°من مجموع 173694 من المصوّتين يعتقدون بأن النظام سينتصر في النهاية. قد يقول قائل إنّ قيمة استطلاع رأي تبقى علميًّا وموضوعيًّا نسبية أو إنّ المشاركين فيه متحيّزون أو مدفوعون من طرف الجهات الرسمية للدفاع عن الأنظمة، لكن هذا لا ينفي كون الخطر الكبير الذي يتربّص بالسوريّين هو خطر السطاتيكو Statu quoفي المشهد السياسي السوري والشعور بالروتين عند المواطن العربي والإسلامي. مِمّا قد يؤدّي إذا ما دام الحالُ على ما هو عليه إلى لامبالاة عربية جماعية وتخلي الشعوب والمجتمع المدني عن السوريين وتركهم يواجهون قدرَهم ومصيرَهم وحدهم بالأسلحة والعنف والقتل والدمار. وقد عبّر أخيراً كوفي عنان نفسُه عن هذا "الملل". ماذا يريد طرفا المواجهة في سوريا ؟ هدف النظام هو البقاء في السلطة، وهدف المعارضة هو إسقاط النظام. ويبدو أنّ هذا الأخير لا ولن يقبل بتَرْك السلطة لغيره، وهو مستعد لكلّ شيء حتى ولو اقتضى الحالُ القضاءَ على كلّ الذين يُطالبونه بالتنحّي عن كرسي الحكم. ورغم توقيع وزارة الخارجية السورية الاتفاقَ الأولي مع الاممالمتحدة، يوم الخميس 19-4-2012 ، القاضي بوقف إطلاق النار وفق عدد من الشروط .. رغم هذه الفرصة لدخول مسار الأحداث في منعطف ربما يؤدّي إلى تحقيق "عملية الانتقال السياسي" التي هي هدف بدء الحوار بين الحكومة والمعارضة كما تنصّ على ذلك خطّةُ عَنان للسلام .. ورغم نداء هذا الأخير بالوقف النهائي لاستعمال الاسلحة الثقيلة وقصف الأحياء السكنية، فإنّ لغة العنف والقتل ما زالت مستمرة. ما الذي يحول دون وقف إطلاق النار والدخول في حوار بين الحكومة والمعارضة ؟ المشكلة متعدّدة الأوْجُه ومعقّدة في عناصرها. أولا: لا يعترف طرفا النزاع ببعضهما، ولا توجد ثقة بينهما، ويريد كلّ واحد منهما إقصاءَ الآخر وإنهاءه. الشيء الذي يجعل من الجلوس إلى طاولة الحوار شيئا صعبًا للغاية إن لم يكن مستحيلا. ثانيا: كلا الطرفيْن يتّهم الآخرَ برفض الحوار. فحسب صحيفة لوموند الفرنسية 17-4-2012 في مقال بعنوان"أسانج يحاور زعيم حزب الله على التلفزة الروسية" يؤكد حسن نصر الله على أن حركته حاولت تشجيع الحوار بين المعارضة السورية والنظام. وحسب أقواله فإنّ النظام كان منذ البداية مستعداً لإدخال إصلاحات والقبول بالحوار، لكن المعارضة لم تكن مستعدة، لا لقبول الإصلاحات ولا للحوار. من جهة أخرى، تتهم المعارضةُ النظامَ بأنه يتصرّف بطريقة لا تشجّع على الحوار. إنّه متشبّث بتسميّتها "مجموعات إرهابية" و"عصابات" تعمل لحساب جهاتٍ خارجية عدوّة، وهذا فيه نفيٌ للاعتراف بوجودها ومطالبها. فكيف يمكن لِمن يُنْكِر شرعية وجود الآخر أن يقبلَ نظريًا وفعلياً بالتفاوض معه ؟ ثالثا: يقول النظامُ وأنصارُه وكلّ المدافعين عنه أنه يُمَثّلُ قطبَ الممانعة والمقاومة والوحدة ضدّ الاحتلال الاسرائيلي ومشروع تدمير الدولة وتفتيت النسيج الاجتماعي والديني، ويؤكدون أن سوريا تتعرض منذ بداية الاحتجاجات لحملة إرهاب لها روابط بعدّة جهات دولية (أنظر بالفرنسية: الإرهاب ضد سوريا وشبكته الدولية، روبير مانياني، موقع ميديا بارط 16-4-2012). ويقدّم النظامُ بهذا الصدد تفسيراً للأزمة السورية يبعدها عن المواجهة بين السوريين أي بين النظام والمعارضة، ليجعلَ منها دفاعًا من النظام ليس عن بشار والأسرة الحاكمة بل عن سيادة الدول العربية والإسلامية والصمود في وجه مشاريع التدمير التي تستهدفها. وهذا ما جاء في تصريحات حسّون مفتي سوريا لمّا قال: "إنّ المخطط للأمة العربية والإسلامية أن لا تبقى هناك دولة قوية وأن يقتل أبناءُ الأمّة بعضُهم بعضا(..) وإنّ ما يحدُثُ في سورية اليوم هو ليس عملية إسقاط نظام إنّما عملية إدخال سورية في تفتيت ديني ثقافي عرقي يبقي مئة سنة من الفوضى في العالم العربي". ثمّ أضاف بأنّ بشار الاسد "مستعِدّ للتخلي عن الحكم في حال استطاعت المعارضة أن تأتي ببرنامج مُقنِع للشعب ودخلت في الحوار وقالت (له) إنّنا جئنا بهذا البرنامج والشعب رضي به إما ان تزول وإما ان نحاربك فإن الرئيس الاسد سيتنحى ويذهب ليتابع علمه وعمله "(القدس العربي 25-4-2012). وينفي المعارضون صحة هذه التفسيرات ويردّون على الاتهامات الموجهة إليهم بأنّ موقفهم تؤطّره مطالبٌ منبثقة من الشعب نفسه، ويؤكدون أنهم يسعون لوقف آلة القتل ضدّ الضعفاء والمواطنين، وأنّ حركتهم تبرّرها ضرورةُ حماية المظلومين ونصرتهم، وشرعيةُ الدفاع عن النفس والأهل والأطفال، وهو"الحق البديهي والغريزي الذي تمارسه حتى الحيوانات، عندما تتعرّض لاعتداء يُهدّد حياتَها"، حسب جريدة الحياة اللندنية 29 – 4-2012. ورغم كلّ هذه التفسيرات والتبريرات والاتهامات المتبادلة، وانعدام الثقة بين الأطراف المتنازعة وعدم الاعتراف بالآخر، نُذَكّر ببعض البديهيات بخصوص الحوار، وهو الهدف من خطة عنان للسلام: 1. إمكانيةُ الحوار تبقى رهينة في عمقها بالإيمان بضرورته والاعتقاد بجدواه وفعّاليته. وهنا توجد أمّ الإشكاليات في نظرنا، إذ يستحيل على الأطراف المتنازعة أن تؤمن بجدوى الحوار إذا لم تتوفّر سلفًا على وعيٍ شامل وثاقب بالظروف الجيوستراتيجية واللحظة التاريخية التي تُخاضُ فيها المواجهة. مِمّا يعني بالضرورة وجودَ تفكير نوْعي وناضج قادر على تقييم شروط الوضع الراهن ومعطياته والتلاؤم معها بصورة تعطي الأولويةَ للقضايا المستعجلة والرئيسية . ولابُدّ، لكلّ مَنْ يَسعى لتحقيق هذا المطمح، مِن رؤيةٍ سياسية واضحة، وإرادة تنموية حقيقيّة، ومشروع ديموقراطي حضاري بَيّنٌ في منطلقاته ومعالمه وغاياته. 2. الحوار لا يكون بين الأصدقاء والأحباب ! الحوار يكون بين الأعداء أو جهات متصارعة لا تجمعها نفسُ الأفكار والقيم، والمشاريع والأهداف، وتختلف في المصالح ولا تفكر بنفس الطريقة. 3. لا يعني الجلوسُ إلى طاولة الحوار هزيمة طرف فيها أو غضَّ النظر عن مظالمه أو التقليلَ من جرائمه أو حتى الاعتراف به، وإنّما القبول بوسيلة عقلانية وبراغماتية، ذكية وسلمية تسمح لكلّ واحد بتقديم رؤاه وشروط تحقيقها وموازنتها برؤى وشروط الآخر مما قد يؤدّي إلى فكّ الأزمة أو يدفع بإحدى الجهتين أو كلتيهما بالتنازل عن بعض المطالب أو تعديلها لِتتلائم مع معطيات الظروف المستجدة وتتفادى التدخل الاجنبي والحرب الأهلية .. المشكلة في الواقع تكمن في التعنّت أو التطرف الرافض لكل تفاوض أو حوار لأنه يرى فيه ضعفًا وتخاذلا وتراجعاً، وليس ورقة تنتمي لمحيط الإمكانيات السياسية، والخطط البديلة أو الترتيبات الاستثنائية، ويمكنها أن تكون رابحة. ما من شكّ في أنّ الحوار– خصوصا لما يقترب الوضعُ من نقطة اللارجوع- يبقى ملاذًا يرافقه دائماً بصيصٌ من الأمل، وإنّ إقصاءه بالمطلق من الاستراتيجيات والطاكتيكات البديلة، والتمسك فقط بلغة العنف والسلاح، والاعتقالات والتعذيب، والقصف والتفجيرات، والانقسامات والفوضى، لهو ترجمة عن رؤية ضيقة ومنغلقة على ذاتها، غير واعدة ومُكَرّسة لفشل الوضع الراهن المسدود الأفق. وهذا معناه بوجه من الوجوه تغييبُ المصلحة العامة لفائدة المصالح الخاصة، الحزبية أو الطائفيّة أو الإيديولوجية .. المسؤول الأول عن احترام وقف إطلاق النار وتطبيق خطة عنان للسلام هو النظام، وهو يعرف أنّ لغة القصف والقتل والدمار، ومطاردة المتظاهرين وترهيبهم لم تعد تنفع، بل على العكس تزيد من تمسك المعارضين بمطالبهم والتعاضد فيما بينهم، ولن تدفعهم إلى التراجع أو التنازل عن شيء. وله من هذا المنطلق مصلحة في وقف آلة الحرب والعنف فهي لم تَعُد تخيف أحدًا وقد أصبح واضحًا بما فيه الكفاية أنّ حاجز الخوف قد سقط مع اندلاع الثورات في العالم العربي. وهذا يعني أنّ الاستمرار في استعمال الأسلحة الثقيلة ولغة القمع هو خيار خاطىء وفاشل ، وقد ينتهي بانهيارٍ وانتحارٍ لن ينجو منه أحد.. وستكون بدايتُه تفعيل المادة 7 من وثيقة هيئة الأممالمتحدة. فقد أثار الغربيّون– أمريكا وفرنسا مثلا– إمكانية اللجوء إلى هذه المادة التي ستسمح للتدخل الدولي في الشأن السوري أن يأخذ بعداً يتخطى بكثير حدود المادة 6 التي اتخذت هيئة الأمم بموجبها قراريْ إرسال بعثة أولى من ثلاثين مراقبين، تتبعها بعثة ثانية من ثلاثمائة. فإذا كانت المادة 6 تقول بالعمل على أيجاد حل سلمي باتفاق وتفاهم مع الدولة المعنية بالأزمة، فإنّ المادة 7 كما يشرح ذلك جان باتيسط جانجين فيلْمِر J-B Jeangène Vilmer تسمح بتجاوز وخرق سيادة هذه الدولة28-4-2012) (Le Point.fr . أما الاعتماد على الموقفيْن الصيني والروسي الرافضيْن لأي تدخل أجنبي في سوريا والمتمتعيْن بحق الفيتو في مجلس الأمن، فهو صادر عن رؤية سياسية تغفل أو تتناسى الدورَ الفعّال الذي يلعبُه تبادلُ المصالح بين القوى الكبرى في اتخاذ القرارات وتعديلها أو تغييرها. فيما يخص الصين، فقد تلقّى المجلسُ الوطني السوري برئاسة برهان غليون دعوةً من معهد السياسة الخارجية للشعب الصيني لزيارة بكين من 6 ماي إلى 9 من نفس الشهر حيث سيلتقي بالعديد من المسؤولين في وزارة الخارجية وسيكون موضوعُ عدم عرقلة التدخل الأجنبي، بشكلٍ من الأشكال، في سوريا هو الطلب الذي ستتقدّم به المعارضةُ للصين. ويُحتمَل أن يقع تراجعٌ ما في الموقف الصيني في الأيام أو الاسابيع الآتية مقابل عدم التدخل في شؤونها الداخلية من طرف أمريكا، والمسّ بمصالحها في السودان وبعض الدول الإفريقية مثلا. أمّا فيما يخصّ موسكو، فكما يقول جان بيير برّان في ليبيراثيون 27-4-2012 "بالتأكيد سيأخذ التغيرُ في موقف روسيا بعض الوقت، لكنه سيكون رهينا بتنازلات أمريكا لموسكو، أثناء قمة أوباما– بوتين في 20 ماي، ويُحتمَل أن تتعلق بنظام الدرع الصاروخي". هذه حقائق لا غبار عليها، ولابُدّ للنظام أولا والمعارضة ثانيا، إن كانا فعلا يفكّران في المصلحة الجماعية لسوريا ويريدان الخير لوطنهما، من أخذها بعين الاعتبار والدخول في حوار فعلي وشامل تلعب فيه هيئةُ الأمم دورَ الوسيط المؤطّر المسهّل حتى يُمكنَ للسوريّين تفادي أخطار التأويلات والتفسيرات العديدة التي ستخضع لها المادة 7 من إعلان هيئة الأمم إنْ بدأ العملُ بها ودخلت حيّزَ التنفيذ. فهل سيستجيب أبناءُ سوريا الذكية لصوت العقل والحكمة قبل فوات الأوان ؟ كاتب عربي يقطن بفرنسا