في تدوينة لأحد الأصدقاء كتب يقول إن المغرب يحتاج على الأقل إلى ثلاثة قرون ليلحق بركب الحضارة، فكتبت تعليقا عليه وقلت: إن المغرب يحتاج فقط إلى عشر سنوات ليبدأ الفارق في التقلص، فسرعة زمن التغيير اليوم لا تقاس مطلقا بسرعة زمن التغيير بالأمس، وكل ما نحتاجه اليوم هو فقط حضور الإرادة، هذه الأخيرة التي افتقدها البلد منذ الاستقلال وإلى اليوم، فالقائمون على شؤون الحكم يعاكسون باستمرار إرادة الشعب المغربي في القيام، بل ويخططون باستمرار لتوجيه كل شيء لشكل الدولة التي تخدم مصالحهم وذرياتهم ، وهو الأمر نفسه الذي قلته إبان الحديث والضجة المثارة حول الكفاءات، فالكفاءة بمنظور من يحكمون ويوجهون ليس معناها ما يفهم من اللفظ كما يصطلح عليه في الأوساط العالمية المعرفية عند أمم الأرض، ولكن الكفاءة بمنظور من يحكمون تعني إعمال الفكر والنظر في جعل الأمور تستمر على معادلة قلة مستفيدة نافذة، وأكثرية محرومة صامتة مغشي عليها، وهذه المعادلة تحتاج فعلا إلى كفاءة من نوع خاص، لا أراها ممكنة في من يجتبيهم المخزن اليوم . إن الوضع في المغرب لم يكن في يوم من الأيام على ما يرام، ولم يستطع الحاكمون والقائمون على رؤوس الأشهاد، والجاثمون على صدورهم تحقيق شيء ذي قيمة، فالفشل والبؤس والخساسة والنخاسة هي أكثر ما يقدرون عليه، ومنذ الاستقلال وإلى اليوم يحاول الجاثمون إيهام الجمهور أن شيئا ما ينقصنا، وأن حائلا ما يحول بين النموذج التنموي المنشود للحاق بركب الحداثة والتمدن، فيختلقون المبادرات ليغتني منها موالوهم، ويروجون لثقافة الزلازل والغضبات والحملات ذرا للرماد في العيون، يفعلون كل شيء إلا ما يخلق وطنا حقيقيا بإصلاح حقيقي عبر الاهتمام بالمواطن وتفعيل القانون، فالقانون إذ يتخذ مجراه الطبيعي، والحكامة الجيدة إذ تقضي على التسيب والكسل؛ قادران على القيام بكل شيء، ولكن الحاكمين الجاثمين لا يريدون دولة الحق والقانون حيث يسري كل شيء بلا بمعقب كما يسري الدم في الجسد السليم فيتعافى، ولكنهم يريدون القانون الذي يسري ويتوقف ويتعطل حيث مصالحهم وذرياتهم ومواليهم. وهذا ما يجعل الحديث عن الإصلاح شبه مستحيل. تقوم شؤون الحكم في المغرب على أدبيات، أو ما كنت أسميته في مقال سابق بالثقافة الموازية التي تحل محل القانون، هذه الثقافة التي تجعل كل شيء فاسدا، بل إنه لا يوجد قطاع من القطاعات لم تنخره سوسة الفساد؛ ففي كل قطاع رؤوس يعينها المخزن تكون وظيفتها بالأساس الحرص على تجسيد ثقافة الفساد، والسرقة، والنهب، والكسل، حيث تقوم مصالح الأفراد وتتعطل مصالح البلاد والعباد. فحتى الحصول على فرصة لزيارة بيت الله الحرام لابد أن تمر ويشوبها الفساد، بل حتى الحصول على وظيفة لإمامة الناس في المسجد لابد له من وساطة ورشوة سمينة. وإذا كان هذا حال هذا القطاع فما بالك بكل القطاعات. فالفساد في المغرب بنية وثقافة، تحركه السربسة والأعراف والسمسرة أكثر مما تحركه روح مساطر القانون؛ بل إن كثيرا من القطاعات المحسوبة على المخزن بشكل مباشر أو المناصب داخل القطاعات الأخرى التي تمر عبر رضا وأعين المخزن؛ يصبح من الواجب على المسؤول أن يفسد ويغتني، وإذا ما حاول الظهور بمظهر الفضيلة فإن مصيره الإبعاد لا محالة. فعون سلطة لا حول له ولا قوة في ظرف سنة واحدة فقط؛ يصبح بإمكانه تحقيق ما يعجز عن تحقيقه موظف حكومي في السلم العاشر. والفاسد في المغرب تجده مضطرا لإظهار ولائه للمخزن من أجل أن يغطي على جرائمه وشططه، وهذا راجع بالأساس إلى أن الفساد وثقافة الفساد ارتبطا تاريخيا بشراء الولاء، والولاء والتظاهر بالولاء الزائف للوطن والملك والثوابت كان دائما علامة على فساد مدعيها. ولا غرابة أن الفاسد أو الحزب الفاسد أو الجمعية الفاسدة هي أكثر تظاهرا بالولاء لما ذكرنا، بينما يكون من السهل جدا تلفيق التهم، والإقصاء، والمصادرة، في حق من يحلمون بالوطن حقيقة، فمنطق الجاثمين يقول: كن مواليا، وتغنى بالوطن والوطنية والملكية، وأفسد ما تشاء من هذا الوطن. لم نقل ولم نخلص إلى هذه الخلاصة من باب العبث، بل إن إطلالة صغيرة في الواقع، أو حدثا بسيطا يقوم مقام العادة يمكن أن يلخص القصة كلها. وأنا اليوم قادم إلى البيت وعمال الحفر لا تنتهي أشغالهم في هتك عرض الفضاء العام عندنا، وعندما ينتهون يتركون كل شيء وينصرفون كأن شيئا لم يقع، وتبقى الحفر عراقيل تكتسي ترابا إلى حين تعريتها في فصل الشتاء، فالشركات فوق القانون، أو هي شركات مواطنة كما يفهم من لفظ المواطنة على طريقة الجاثمين . لم نقل ولم نخلص غلى هذا من باب العبث، ولكن كل المشيرات تقول إن الإصلاح بعيد في هذا البلد السعيد، فالفساد ليس عارضا ولكنه اختيار وله إرادة تحميه، بل يقوم مقام العادة يتأرجح في كل القطاعات بين الجواز والوجوب. إنها إرادة الفساد وتراتب الخدام والمصالح والولاءات التي تجعل البلد يعيش الأزمة القلبية باستمرار؛ مما يجعل الحديث عن نهضة اقتصادية أو حتى اجتماعية ضربا من المستحيل، فالإصلاح والنظر في مشاكل العموم هو بالضرورة مساس بمصالح تلك الأقلية الفاسدة التي تتظاهر باستمرار بالوطنية. لم نتحدث اليوم فقط وفي هذا المقال، بل تحدثنا بما فيه الكفاية مديدا هنا وفي فضاءات أخرى، وقد كنا أكثر تفاؤلا من اليوم بوطن ممكن، لكن النظر إلى الواقع باستمرار يجعلنا نخلص في كل نهاية إلى أن الإصلاح لا تظهر له بوادر بالمطلق، حيث الأجهزة الفاسدة على الدوام هي هي، وثقافة الفساد هي هي، بل إننا نعود باستمرار للخلف، وما حدث مقتل الشاب عزيز العسالي وما أحاط بالحدث من تحرشات، إلا إشارات بليغة تقول إننا ما نزال نعيش زمن التلفيق والتهديد، وطغيان المنتخب الأمي الذي يفسد وتحميه إرادات الفساد من فوق وتزكيه تحت مسمى الوطنية. لقد بات الحديث عن إصلاح قريب ضربا من المستحيل مادام الواقع هو هو لا يتغير، فالمافيات الانتخابية هي هي مدعومة من فوق، ومازال المخزن يحرص على وضع الرجل غير المناسب ليخدم مصالحه ويضيع مصالح الناس، وأن الإدارات ما تزال يسكنها غول الفشل والفساد والأشباح تحت مسميات، ومادامت إرادة الفساد لا تريد مواطنا ولا أحزابا مواطنة مستقلة تخطط للمغرب القادم، فإرادة الفساد ما تزال تخطط وتوجه بتكوينها القديم العتيق، وترسم الخرائط السياسية والاجتماعية وصناعة الأزمات والزعامات والأحداث الفارغة، حيث تفكير المافيات وصناعة المواطن الذي لا يصح لشيء. إن الإصلاح الحقيقي لا يكون إلا بإعادة الاعتبار للإرادة الشعبية في الإصلاح والانتصار للوطن والوطنية من منطلق دولة الحق والقانون والمصلحة العامة لا مصلحة المافيات والأفراد، فالولاء يجب أن يكون للوطن والقانون ومبادئ الدولة الحديثة؛ حيث المواطن الصالح هو الذي يحرص على الامتثال للقانون وليس لغير القانون، وهذه سنة لا يمكن الوقوف أمامها مهما طال الزمن، والتاريخ شاهد على تاريخ الشعوب وإرادة الشعوب، وشاهد أيضا على مآلات الجاثمين، ففي التاريخ ألف عبرة، ولكن الجاثمين في غيهم وعيهم يتخبطون، ظل سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.