يجلس سكان قرية "بني بوكيدارن" على ناصية الشارع الرئيسي الذي يخترق سكون القرية الهادئة. مجموعة من الشباب ورجال القرية التي تبعد 10 كيلومترات عن مدينة الحسيمة (شمال المغرب)، يتبادلون أطراف الحديث، ويتداولون في آخر لقاء لهم مع السلطة، والخطوة المقبلة لنضالهم الذي تحول إلى اضراب مفتوح، أقرب إلى العصيان المدني الذي يشل كل نشاط في القرية التي طالما اشتهرت بمحلات شواء اللحم ومقاهيها التي كانت تظل مفتوحة حتى ساعات متأخرة من الليل. هز اللحم... حط اللحم كانت قد مرت تسعة ايام على الإضراب المفتوح الذي يخوضه سكان البلدة للضغط على السلطات من أجل الاستجابة لمطالبهم. وعلى رأس تلك المطالب إطلاق سراح المعتقل الوحيد من ابناء القرية، محمد الدوهري (16 سنة)، وتعويض أصحاب المحلات الذين يقولون إن قوات التدخل العمومية كسرت امتعتهم وسرقت بضاعتهم، ورفع العسكرة عن القرية والمنطقة بصفة عامة. يتجول يوسف أمغار، المهاجر العائد للتو من اسبانيا هربا من جحيم أزمتها الاقتصادية، بين خراب مطعمه، الذي كان يقدم اللحم المشوي، ويقول بأن قوات التدخل السريع قامت بمهاجمة محله الذي استثمر فيه كل ما كان يملك (70 ألف درهم) وكسرت أثاثه وسرقت بضاعته. ويتذكر السكان أن قوات التدخل قامت بسرقة اللحم وشيه قبل مغادرتها للقرية، لذلك أصبح أحد شعارات المتظاهرين يقول في مواجهة قوات التدخل "هز اللحم.. حط اللحم.. حقي حقي ولو بالدم". كمين طبيعي في هذه المنطقة الجبلية التي تشبه الكمين الطبيعي تم استدراج جيوش "بوحمارة" (عمر بن إدريس الجيلالي الزرهوني الروكي، الذي تمرد على حكم السلطان في فاس)، والقضاء على طموحها في التوسع شمالا. حدث ذلك عام 1906، ومنذ ذلك التاريخ سميت البلدة ب "بني بوكيدارن"، أي ارض الخيول نسبة إلى خيول جيوش بوحمارة التي استدرجها دهاء "امغارن" (شيوخ وحكماء) الريف. تقول كتب التاريخ إن "امغارن" اجتمعوا في منطقة امزورن وقرروا إغراق سهول وادي النكور عند المنطقة التي ستسمى منذ ذلك التاريخ ب "بني بوكيدارن"، حتى إذا ما نزلت جيوش "بوحمارة" من شعاب الجبال المحيطة بالمنطقة غاصت حوافرها في الوحل وأصبحت عاجزة عن الحركة فيصبحون تحت مرمى رجال المنطقة المختبئين وراء الجبل. وكذلك كان. ومنذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة في مجرى الوادي، قبل أن يبنى عليه سد عبد الكريم الخطابي، نسبة إلى بطل الريف التاريخي. ومنذ عام 1980 لم تعد سهول المنطقة معرضة للفيض. لكنها تعرضت لأكثر من ذلك: التهميش الذي عانت منه كعقاب جماعي منذ انتفاضة اهلها ضد جيوش الحسن الثاني وجنراله محمد أوفقير في نهاية خمسينات القرن الماضي. الجمر تحت الرماد ورغم مرور كل هذه السنين، ورغم محاولات الدولة في عهد الملك محمد السادس التصالح مع سكان المنطقة، فإن الجرح ما زال لم يلتئم. فالجمر مازال يرقد تحت الرماد، وكلما هبت ريح إلا وتوهج الجمر مثل بركان يمكن أن يقذف بحممه في كل لحظة. رياح ربيع الشعوب، والحراك الذي أججته في كل شبر من تراب المملكة، أذكى توهج الجمر الخامد بين شعاب جبال الريف. ورغم تراجع الحراك في جل مناطق المغرب، إلا ان شباب ورجال جبال الريف في بني بوكيدارن وإيمزورن وبني بوعياش ما زالوا لم يسلموا بأن "العاصفة" مرت وإلى غير رجعة كما تعتقد السطلة. مطلب واحد: الكرامة فطيلة السنة الماضية عرفت المنطقة أكثر التظاهرات نشاطا وتوهجا، وقدمت أكبر عدد من الضحايا (6 شهداء حسب قول سكان المنطقة، 5 من بنهم عثر على جثتهم محروقة داخل وكالة بنكية بالحسيمة يوم 20 فبراير 2011)، مازال الجميع يطالب بالقصاص لدمائهم من خلال كشف حقيقة وفاتهم، ومحاسبة المسؤولين عن وفاتهم. لذلك عندما يتحدث حميد بوزعدلة، الإطار البنكي في "بني بوكيداران"، عن مطالب السكان يلخصها في كلمة واحدة "الكرامة". وعندما يستعيد سكان القرية ماجرى يوم 13 مارس الماضي، يقولون بانهم تعرضوا للإهانة والسب والشتم من قبل عناصر قوات الأمن الذين وصفوهم ب "أبناء الصبليون". لم يسلم أي من سكان القرية من الهجوم الذي طال حتى البيوت. يتذكر منير ولقاضي، ابن شيخ القرية أن عناصر من قوات التدخل هاجمته في بيته في ساعة متأخرة من ليلية 13 – 14 مارس الماضي، ولم يشفع له كون والده هو شيخ القرية، مما دفعه إلى إخراج قنينة غاز وتهديد المهاجمين بتفجير البيت إن هم اقتحموا حرمته! اغلب بيوت قرية "بني بوكيدارن" مغلقة فسكانها من المهاجرين في الخارج، والذين بقوا في القرية ظلوا يواجهون التهميش لعدة عقود، وابنائهم اليوم يواجهون البطالة. والطريق السيار الذي أعطى الملك الإشارة لبنائه من أجل كسر عزلة المنطقة ليربطها مع مدينة تازة، مازال مجرد ورش مفتوح. تنطلق في الأشغال به كل صيف عندما تشعر السلطات بأن الملك الذي يفضل قضاء جزء من عطلته الصيفية بشواطئ المنطقة سيحل قريبا عليهم، وما إن يغادر المدينة حتى تختفي الآلات الكبيرة من حفارات وبلدوزرات وشاحنات... فتبقى طرق القرية شبه معطلة. أما المصانع التي كانت تزدهر بالمنطقة وتستوعب بعضا من عمالتها فقد أغلقت أبوابها، والمصنع الوحيد في القرية اليوم هو تعاونية الحليب. انتقام تاريخي غير بعيد عن منطقة "بني بوكيدارن"، تقع قرية "بني بوعياش"، أو "أيت بوعياش" كما يصر أهل المنطقة على تسمية قريتهم. البلدة باتت اليوم اشهر من نار على علم بسبب الاحتجاجات التي تعرفها، وعدد المعتقلين الذي قدمتهم (6 معتقلين)، و"شهيد" القرية "كمال الحساني" الذي أطلق النشطاء اسمه على الساحة الوحيدة داخل القرية. يقول حليم البقالي، أحد أعضاء لجنة المتابعة بالقرية، إن تعامل السلطات مع الحراك الذي تعرفه قريته كان قاسيا وبدون مبرر سوى "مبرر الانتقام التاريخي" على حد قوله مما فعله الآباء والأجداد. يجلس البقالي، وهو شاب طويل القامة نحيف البنية، بلحية تشبه لحية الثوار، وسط رفاقه بالصالة الخلفية لإحدى المقاهي يخططون للخطوة النضالية المقبلة. فالمظاهرة المقبلة ستبدأ في الساعة الثالثة بعد الظهر، والإخبار هنا يتم بطرق تقليدية عن طريق "راديو المدينة"، أي الإخبار الفردي. يقول حليم إن "استشهاد الرفيق الحساني كسر هاجس الخوف عند السكان، لذلك اصبح الكثير منهم يستجيبون لنداءات التظاهر، فقد شارك في مسيرة التشييع أكثر من 40 ألف متظاهر من داخل القرية ومن نواحيها". وبالنسبة لباقي رفاق البقالي فالمشكل الأساسي يعود أصلا إلى فساد المجلس البلدي بالقرية. فرئيس هذا المجلس يقطن بالرباط ويدير المجلس من خلال هاتفه النقال. وبالنسبة لرفاق حليم فإن أعضاء هذا المجلس تواطئوا مع قوات التدخل السريع ودلوهم على بيوت النشطاء للتنكيل بهم واعتقالهم. ولا يستبعدون أن يكون أعضاء نفس المجلس متورطون في جريمة القتل التي تعرض لها كما الحساني، الذي يتهم والده محمد الحساني "المخزن" بقتله. يقول الوالد المكلوم "أنتظر الإعدام لقاتل إبني، فقد غدره من الحلف، ولاشئ سيشفي غليلي سوى إعدام قاتله في الساحة العامة للقرية". أحكام قاسية يقول علي بنعبد الله أحد شباب المنطقة العطل عن العمل، وعضو لجنة المتابعة، "مطالبنا ليست سياسية، مطالبنا كانت ومازالت اجتماعية، لكن عنف النظام هو الذي رفع سقفها". ويضيف بنعبد الله "المنطقة مورس عليها إقصاء تاريخي وثقافي، فما المشكل ان يكون لمنطقة لريف تاريخ، وهوية، ووعي، وعقل جمعي يستحضر المحطات التاريخية التي عاشتها منطقتنا دون باقي مناطق المغرب؟ فذلك لايعني أننا أصحاب مطالب سياسية خاصة". ما يغيض بن عبد الله والبقالي، هو سعي السلطات إلى تشويه نضالهم، فمرة يصفون مطالبهم بأنها ذات طابع انفصالي، ومرة بأنهم من دعاة إحياء جمهورية الريف، ومرة بأنهم مجرد قطاع طرق وأصحاب سوابق. وبهذه التهمة الأخيرة تمت محاكمة 6 من نشطاء القرية وصدرت في حقهم أحكام قاسية بلغت 27 سنة سجنا نافذا موزعة على المعتقلين الستة. وهي أقسى أحكام تصدر حتى الآن على نشطاء الحراك الشعبي الذي عاشه المغرب. يقول بشير بشعيب، أحد أعضاء لجنة المتابعة، إن الهدف من الحملة الإعلامية التي تشنها السلطات ضد نشطاء المنطقة هو تشويه حركتهم والتشويش على مطالبهم الاجتماعية، والإساءة إلى رموز الحركة لتنفير الناس منهم. لكن، يضيف، بشعيب، فالسكان أدركوا الحقيقة، والفضل كما يقول إلى العنف غير المبرر الذي مارسته قوات التدخل على جميع السكان بدون تمييز، مما جعلهم يتوحدون حول المطالب الذي يرفعها النشطاء. المخزن وحدنا أحد النشطاء يشبه ما حدث ليلة 8 مارس، عندما تدخلت قوات الأمن بعنف مستعملة خراطيم المياه، ولجأ عناصرها إلى اقتحام البيوت وإهانة النساء وضرب الرجال، بالأحداث التي شهدها الريف عام 1958، مع فارق واحد هو أنه في الأحداث الأخيرة لم يستعمل الرصاص الحي. وعن رد فعل السكان العنيف تجاه قوات الأمن، يرد بنعبدالله، قائلا: "هم من فرضوا على السكان المواجهة للدفاع عن أعراضهم وحماية بيوتهم...". لذلك يقول بنعبد الله إن "الزخم الشعبي المؤيد لمطالب النشطاء أكبر اليوم مما كان عليه قبل تدخل ليلة 8 مارس". أما رفيقه البقالي فيقول بلغة الواثق من قضيته "المخزن هو من وحدنا، وصمودنا في مواجهته في الصفوف الأمامية زاد من ثقة الناس فينا". --- تعليق الصورة: 1- ناشطو بني بوعياش مع موقع "لكم. كوم". 2 - مظاهرة هز اللحم..حط اللحم... 3- سهل النكور. 4 - نشطاء بني بوكيدارن. 4 - الأمن يحاصر مظاهرة ببني بوعياش