ثمة أسباب متنوعة تضافرت لتزوير صورة جماعة الاخوان المسلمين في وعي جمهور مختلف يملك حساسية تاريخية معينة حيال السياسات ذات المنشأ الديني، تأصلت في وعيه الجماعي، لا الفردي، وجعلته يتخذ مواقف لا عقلانية ومسبقة من «الجماعة»، رغم انخراط أطياف مختلفة فيه تتكون من أقليات دينية ومذهبية سورية، ومن مسلمين ينتمي معظمهم إلى الفئات البينية والوسطى، فإذا ب«جماعة الاخوان المسلمين» السوريين، التي لم تقلع يوما منذ تأسيسها في أواخر الثلاثينيات وحتى الثماينيات عن أن تكون حزبا سياسيا دأب على العمل كتنظيم سلمي وعلني، تتحول إلى جماعات مسلحة، عنيفة وسرية، بعد تغذيتها المكثفة بدعاية تلقينية تلقاها هؤلاء وأولئك بصورة يومية منذ عام 1970، نجحت في أن تحدث شيئا من التشويه في صورة الاخوان، الذين أطلق النظام عليهم لقب «العصابة» طيلة حوالي نيف وأربعين عاما، شحن خلالها صدور أجيال متتابعة بالحقد عليهم. واليوم، ونتيجة للصراع الدائر في سورية بين شرائح وقطاعات واسعة من المجتمع وبين السلطة، وللضغط الأمني غير المحدود الذي أحدث انزياحا في الحراك المجتمعي نحو العسكرة تصاعد كثيرا خلال الأشهر الأخيرة، ولما ترتب على العنف الرسمي والمضاد، وعلى رغم الفارق الهائل بينهما، من مخاوف ووساوس تجددت لدى قطاعات من المواطنين، أوهمتهم أن البعبع الإسلامي سيلتهمهم إن سقط النظام أو فشل في التصدي لما يسميه الاخوان، يؤيد اليوم قطاع من الشعب النظام وخياراته الأمنية، ويوافق على ما يمارسه من عنف ضد القسم الأكبر من الشعب، ويسهم في الأعمال القتالية أو يتسلح بانتظار تكليفه بدور ما ضد الحراك، مثلما حدث بالأمس في حمص، ويمكن أن يحدث غداً في مناطق تماس مذهبي ذات رمزية وطنية مؤثرة كمنطقة الغاب المتنوعة المذاهب والأديان. في أجواء كهذه، تشتد الحاجة إلى أن تبين «الجماعة» بكل الوضوح اللازم موقفها من مسألتي العسكرة والعنف، إظهارا للحقائق، وإراحة للناس، وكشفا للأكاذيب، ورداً على ما يروجه النظام ضدها خصوصاً، وضد المعارضة عموماً. أطالب بهذا لاعتقادي أن الإسلاميين عموماً و«الاخوان» خصوصاً، لم يفعلوا ما فيه الكفاية للحيلولة دون ابتعاد الحراك عن نهجه السلمي، ولمنع أو كبح انزلاقه نحو السلاح ثم العسكرة، ولم يولوا المشكلة الطائفية الاهتمام المكثف الذي تستحقه، ولم يلعبوا دورهم الكبير في إطفاء نيرانها، التي يعرفون أن النظام حرص على بقائها مستعرة خلال نيف واربعين عاما، ضاربا عرض الحائط بنتائجها الخطيرة، التي تعارض وتقوّض اليوم أي جهد لإقامة دولة ديموقراطية في سورية، وتسهم في طي صفحة النضال المجتمعي الجامع، وتفتح عوضا عنها صفحة اقتتال داخلي إجرامي الأسس والنتائج، قد يقلب الحدث السوري إلى حرب إقليمية تتخطاه، بينما يضمر احتمال انفجار دولي قد يطاول المشرق العربي ويدوم لسنوات عديدة. لا يجوز أن يخرج الموقف الإسلامي هذه الاحتمالات من منظوراته، ولا يجوز ان يفتقر إلى تصور واضح حول الإرادات والخيارات الدولية يعينه على بلورة سياساته الداخلية والخارجية. ومع أنني لا اتهمه بالافتقار إلى تصور كهذا، فإنني ألح على حاجة «الإخوان»، والمعارضة عموماً، مهما اختلفت معهم أو تباينت عنهم، إلى لغة تخلو من الغموض في كل ما يخصّ السلاح ودوره في نضال الشعب السوري من أجل بديل ديموقراطي يطالب به؛ لغة يتوقف تأثيرها المطلوب جداً على وضوحها وصدقها وقدرتها على بعث الارتياح والطمأنينة في قلوب وعقول المواطنين، وخاصة من لديهم أحكام مسبقة غرسها النظام في رؤوسهم حول «الجماعة»، جعلت منها جزءاً من تنظيم القاعدة أو حليفاً مقرباً منها، ليس ما تصدره من عهود ومواثيق وتتبناه من برامج وتقوله من مواقف، معتدلة وعقلانية جميعها، غير تغطية تضليلية لنياتها الحقيقية، التي لن تظهر إلا بعد استيلائها على السلطة وإقامة نظامها المذهبي المتشدد والمغلق، المعادي للأقليات والعازم على تطهير المجتمع منها. الحاجة ماسّة إلى موقف واضح من السلاح تصدره «الجماعة»، وهي التي أصدرت «عهدة وطنية» تضمنت الأسس التي يجب أن ينهض مستقبل البلاد ودولتها الحديثة والمدنية عليها، والتي لا تريد فرضها على أحد، وإنما ترغب في مناقشتها مع السوريين إلى أية جهة سياسية او مذهبية انتموا، كما تريد مشاركة المعارضة والمواطنات والمواطنين جميعهم في مناقشتها وإقرارها، لأنها تريد لها أن تتحوّل بالتطوير والإضافة إلى أرضية جامعة تلزم الجميع بنهج وطني/ سياسي حديث وشامل، يعرفه الشعب مسبقاً ويعتمده دليلاً عن إقامة النظام ولمحاسبة الإسلاميين من أهله، إن هم حادوا - أو تخلوا عنه، أو فعلوا ما يخرج عن خطه نصاً وروحاً. إذا ما استجاب «الاخوان» لهذه الدعوة، وأعلنوا موقفاً واضحاً من السلاح، فإنهم يكملون عملياً ما تقوله العهدة نظرياً، ويعالجون مسائل مهمة جداً بالنسبة لعامة المواطنين ولمسائل الحراك وسورية بأسرها، مثل عسكرة الحراك، والتدخل العسكري الأجنبي، وتحويل صراع الداخل السياسي إلى قتال مسلح لن تكون الاستجابة له غير وقوع في فخ استراتيجي نصبته السلطة من أجل نقل نضال الشعب الديموقراطي إلى أعمال عنف خارجة عن أية رقابة أو أخلاق وطنية أو ضرورات نضالية، فتتكامل عندئذ رؤيتها وتكتمل سلمية السياسة التي تحدد العهدة الوطنية ملامحها المستقبلية بالعمل من أجل سلمية الحراك، وتتحدد رؤيتها للمسائل الفائقة الخطورة، التي نقف عندها، وتمثل انعطافاً قاتلاً في مسار شعبنا، وفي مقدمها العسكرة والتدخل الخارجي، فيزول بذلك الخوف والغموض اللذين أحدثتهما تصريحات صدرت عن قادة مسؤولين في الجماعة كالمهندس رياض الشقفة مرشدها العام تدعو إلى تدخل عسكري تركي ل«أسباب إنسانية»، بذريعة أنه سيكون تدخلاً إسلامياً وليس أجنبياً، أثارت في حينه قدراً كبيراً من البلبلة والقلق، وألقت بظلال من الشك على أقوال مغايرة قالها هذا المسؤول أو ذاك من مسؤوليها وقادتها. لا مفر من اتخاذ موقف واضح لا لبس ولا غموض فيه حيال هذه المسائل، التي تدور حول محورين رئيسين: السلاح والعسكرة من جهة، والتدخل العسكري الأجنبي من جهة أخرى، علماً بأن وجود تيارات إسلامية غير إخوانية في الحراك ولجوء بعضها إلى السلاح، يجعل التوضيح المطلوب ضرورياً، أقله من أجل فرز المواقف وطمأنة المتخوفين والمتشككين، والرد على تهم السلطة، ودحض فكرة ترى أن بعض الإسلاميين يصارع على مرحلة ما بعد النظام الحالي، لذلك يركز سياساته على إحداث تحول يكون لمصلحته داخل المعارضة والشعب، بغض النظر عما ينجم عن مواقفه من نتائج سلبية بالنسبة إلى الحراك، قدر ما يوجهها ضد النظام، ولو كانت غير ذلك لتبدلت مواقفه، ولما وقع ما نراه من ضرر فادح بالحراك، لعب دوراً خطيراً في انحرافه عن أهدافه وتحوّل قطاعات واسعة منه إلى العنف، مع أن جميع إنجازاته تمّت بفضل نزعته السلمية، التي يتمّ الآن التخلي عنها بل ورفضها، حيث يكون لهذه الجهات الإسلامية حضور أو نفوذ. أعتقد جازماً أن هذه التوضيحات ستكون لفائدة الحراك عامة و«الاخوان» والإسلاميين خاصة، وأن صدورها سيترك أثرا شديد الإيجابية داخل سورية وخارجها، وسيلعب دوراً لا يستهان به في سحب أوراق مهمة من يد خصوم «الجماعة» والمغرر بهم والموتورين والنظام. هل ستجيب الجماعة على هذه الأسئلة، وهي التي عودتنا أن تتفاعل بإيجابية مع أية اسئلة توجه إليها، أم ان مواقفها من القضايا المطروحة ستبقى دون ما هو مطلوب من وضوح، في لحظة تبدو فيها الخيارات جميعها، التي اعتمدت إلى اليوم، وكأنها ستأخذنا إلى هاوية لا نريدها لبلادنا وأنفسنا، فيها إنقاذ النظام واستمرار الأوضاع السلطوية، التي كشف الحراك طبيعتها الحقيقية ومدى ما هي عليه من عداء للشعب وعنف، ولا نتيجة لها غير هلاك سورية؟