تطرح رواية “فاطنة البيه” سؤالا مركزيا كيف يكون مصير من يحلم بوطن ورغبته القصوى أن يتخلص من بقايا التبعية وذيول الاستعمار أن يكون مصيره السجن والمنفى؟. فاطنة البيه.. تكتب بصوت لم ينكسر بأعماقها… ولم تنهزم حبائلها وظلت تبتسم في وجه السجان والجلاد معا… فاطنة بعبارة صغيرة هي “امرأة تسكن فوهة البركان، امرأة لا تنحني، لا تقول نعم، فاطنة ليست بنتا، إنها رجل حديدي…” كما تصف نفسها. فاطنة اغتصبت أنوثتها.. هويتها … وهي ذاك الجسد الرقيق المرهف الذي يحمل في نوازعها دفاعا لا يستكين عن الدفاع عن فعل الحرية مهما كان الثمن… وهذا ما تخطه عن تجربتها في” حديث العتمة “. حصارات العتمة تصيح فاطنة بكل قوتها ” أنا امرأة ولست رجلا “.. ذاك هو التحدي داخل ردهات العتمة… لكن كيف يمكن أن تثبت أن الربيع القادم والمؤجل يحفل بكل أنواع الزهور والخصوبة في حصار ذكوري مضروب بعناية وإحكام. تحمل الشخصيات معاناتها وواقعيتها معها.. والوصف واقعي بالنعت والمنعوت.. فالشخصيات بمرجعيات ثورية : وداد ، مارية، وغيرها. وفاطنة تود الخروج عن العتمة إلى نور النص كتابة وتخليدا لفعل مشين حتى لا يتكرر. تحضر الذاكرة بقوة في الرواية.. بالتفاصيل الدقيقة والمؤلمة.. عن عالم من العتمات والظلام يجرد من انسانية الكائن البشري.. والكتابة هنا احتفاء واحتفال بهذا الكائن المجرد من كل شيء .. من انسانيته وهو فقط مجرد رقم.. لا عنوان ولا هوية له.. وهو عالم مظلم يهوي في الجب السحيق للألم ونحر الذوات.. فاطنة تحمل كل هذا وأكثر.. ومعها حصارات العتمة. بين زمن الكتابة وزمن الاعتقال.. هناك مسافة تتمدد بجسد يطوي الأحزان برحلة عشرين عاما.. ذاك سؤال الذاكرة و وهي تسترجع التفاصيل ولعبة الحكي.. في عمليات الإسترجاع والبوح بما حفلت به النفس والذات من مرارات ومن عنف ومن اغتراب ومن أيام فرح ومرح ومن حلم جيل أجهضت كل أحلامه وما تبقى منها وطمس تفاصيلها جملة وتضليلا. سبع رفيقات وحكاية سبع رفيقات يحكين هوان الجلاد وفاطنة ساردة تتقن جمع التفاصيل وترويها بشكل انسيابي… . لطيفة، والنكية وخديجة ووداد ومارية… تقول لطيفة: “قضينا أربعة أشهر بهذا المعتقل السري، كنا سبع فتيات من بين أزيد من مائة معتقل، كنا ننام في الممر، بينما ينام الذكور داخل القاعات. وللتمويه على وجود إناث داخل المعتقل، كان ينادى علينا بأسماء الذكور، فكنت أدعى سعيد أو الطويل أو الدكالي” ص123 ، يكبر صوت الحزن بذات فاطنة صارخة: “جردوني من اسمي و أسموني رشيد” قالت وداد: .”مع ملاحظة أن الحراس عينة من البشر، تنعدم لديهم أدنى المشاعر الإنسانية، قال أحدهم مرة لصاحبه، أرأيت هؤلاء الفتيات، يردن أن يدخلن عالم السياسة، وأن يقمن بأعمال الرجال، اختر معي أسماء رجال لهن. وهكذا اختاروا لكل واحدة منا اسم رجل” ص115.. وحده القهر يعوي بين النفوس.. ووحدها ذكورية تمارس ساديتها بغنج.. ومعتقلات تختلف حيطانها وعنابرها بين الضيق وضيق الضيق.. ووحده القهر يعوي في النفوس يترك مخالبه بين الرفس والصفع والماء القذر لكل من حاولت أن تصدح بممانعتها. عمر الرفيقات لا يكاد يتجاوز اثنان وعشرون عاما.. في عمر الزهور.. جميلات يحملن رائحة الأرض وعطر الربيع ويعشقن سعي الأطفال الى المدارس وعودة العمال من المعامل والفلاحين من الحقول ومشروعا يحبل بالثورة وبالحرية.. نساء يحملن في أحشائهن ذاكرة مفعمة بصوت الجماعة والكرامة الانسانية ومعها سادرة تأبى النسيان….. ذاك هو حديث العتمة. فظاعات التفاصيل من أقبية إلى مجاري مهترئة.. إلى سجون تحكي زمن الاعتقال..عن صورة الجلاد الذي لا يتغير إلا قليلا ليصنع من نفسه جلادا قويا بأقعنة مختلفة.. وعن الأجساد الضعيفة المنهكة.. اللواتي حولن الصمت إلى درجات عالية من القهقهات ومن برد الزنازن دفئا يسري في شرايين الرفيقات وهن يصدحن “على العهد صامدات “.. و”على درب الرفيقات مكافحات”. ووحده الحديد كما وخز الجلاد يصدئ ووحدها القطبان تبصر على ترجيديا المأساة.. والقمل الموغل في الجسد يسافر.. والفئران والصراصير تصبح صديقة تقتات على ما تبقى من الأجساد المنهكة.. ووحده الألم يغلف فظاعة التفاصيل..ولاشيء ينشر فرحة إلا بقرب الزيارات يعكرها عبوس حارسات يعشن تجربة الاعتقال ويعتقدن أنهن في مصايف الحرية وربيعها. بطلات العتمة لم تكن فاطنة البيه وهي تكتب تمجد نفسها كبطلة أسطورية خالدة.. بل قاسمت فعل البطولة مع معتقلات أخريات تذوقن من لهيب تجربة الاعتقال.. عن رفيقات دربها بين مخافر الشرطة.. كانت شاهدة عما عاشوه من أهوال..وكان نص العتبة حافلا ومعبرا وشهادة صادقة عما عاشوه من أهوال يندى لها الجبين. حديث العتمة هو عتمة مرفقة بالصمت وعن مشاهد من تفاصيل الذل بدقة متناهية.. عن يوميات القهر والاذلال..عن أمية حارسات ينفذن الأوامر دون نقاش يذكر….تتخطى فاطنة المشاهد اليومية لتغوص في عمق المشاهد البائسة بعمق ونفس سوسيولوجي مرفق بتحليل عميق… من تكون هي وسط هذه العتمة؟؟. تحكي فاطنة عن معتقلة تلد طلفة اسمها ” إلهام ” وقدر الطفلة أن تتذوق مرارة العنابر.. وعن اغتصاب مزدوج لطفولة وجدت نفسها بين مصيدة السجان… تحكي فاطنة زحمة العنابر.. وقيظها.. عن طقوس الأفراح الصغيرة والمؤجلة.. وعن الأحزان المكلومة في النفوس والخواطر.. وعن استغلال جهدهن وطاقتهن.. كل ذلك في تسلسل دراماتيكي وعن غربة قاتلة بين عنابر الاذلال. لأنها ترفض القهر وصور المسكنة تحكي فاطنة عن واقع النساء ضمن ردهات السجن.. بين السرد المفصل أسلوبا وبلغة شاعرية تحكي عن الضرب والرفس وصور الاضطهاد على امرأة حامل.. عن سيدة يأتيها المخاض على حين غرة في المرحاض.. تقدم صورا من المعاناة ومن ظلم لا ينتهي.. كان كل حلمها أن تخطه حديثا على شكل سيرة شخصية وجماعية عن حلم جيل بكامله تحمل الكثير من أحزانها ومن ظلم الجائرين.