مرحبا بالأستاذ القاص البشير البقالي في بوابة قصر السوق. من هو البشير البقالي؟ ** البشير البقالي، من مواليد 05 ماي 1970بطنجة. ترعرعت في حي بنديبان الشعبي المثقل بألوان الحياة والعفوية الإنسانية والتناقضات. حصلت على الإجازة في الأدب العربي من جامعة عبد الملك السعدي، كلية الآداب بمرتيل/ تطوان. تخرجت من المدرسة العليا للأساتذة بتطوان سنة 1997. ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش في بلدة گرّامة. أكتب في الشعر والقصة القصيرة والنقد وقضايا التربية. نشرت أعمالا متفرقة في صحف ومجلات مغربية وعربية ومواقع إلكترونية. وصدر لي كتابان: * حين سقط الجسر (مجموعة قصصية). * صورة الإنسان في رواية السفينة لجبرا إبراهيم جبرا (دراسة نقدية). لدي أربع مخطوطات تنتظر الطبع: * رواية الملحمة وملحمة الرواية (دراسة نقدية). * جراح وأملاح (ديوان شعري). * ماء.. وظمأ (مجموعة قصصية). * المعجم التربوي في لسان العرب. وأنا الآن بصدد الاشتغال على السمات التكوينية لروايات الفتيان والفتيات، من خلال أربعة نماذج.
*كيف تورطت في عالم الكتابة؟
** الكتابة ليست خيارا.. إنها لوثة تصيبك من غير استئذان. هي لوثة جميلة؛ عنيفة ووديعة، مأتاها علاقة حميمة مع الأشياء والكائنات.. وجوهرها وثبة إنسانية غير مرئية.. إنها سفر دائب في الذات والآخر والوجود، سفر لا ينتهي نهاره ولا ينبلج ليله القائظ... بداياتي كانت هوسا مبكرا بالكلمة الشعرية، ونشرت أولى محاولاتي الشعرية سنة1987بصفحة الشباب لجريدة الميثاق الوطني. هناك شقت الكلمة طريقها، ومع مرور الوقت أحسست بذوق نقدي صقلته بالبحث والمراس، وفي السنوات الأخيرة تلمست في ذاتي ميلا عجيبا إلى السرد،، كانت الرؤى جاهزة ومختمرة، طاوعها القلم بانسيابية ودفق، فكانت الثمرة الأولى مجموعتي القصصية "حين سقط الجسر".
*"حين سقط الجسر'' هي باكورة إصدارك القصصي. ترى أي جسر ذاك الذي سقط؟
** كل الجسور؛ بين الحياة و الموت، بين الماضي و الحاضر، بين السلطة و المجتمع، بين المربي والطفل، بين الأب والإبن، بين الرجل والمرأة، بين المرء و ثوابته، بين الزمان والمكان... بين البشر... كل الجسور، بل حتى بين الإنسان و ذاته. ألا تعتقد معي أن الوجه ليس كالمرآة؟؟..
*جاءت مجموعتك القصصية محملة برؤية عميقة لإشكالات المجتمع المعاصر... لقد لفت انتباهي في قصة "الگراب" أن هناك رؤيا استباقية لما حصل في تونس، ألا ترى معي أن الگراب هو البوعزيزي؟
** قصة الگراب كتبت فعلا قبل أحداث تونس، وصورة الگراب في القصة، وتحديدا في صراعه مع رئيس الدائرة، جزء من رؤيا عامة وشاسعة تلامس أبعادا إنسانية عدة إذا ما تناولناها في إطارها الكلي. أحداث تونس أكدت واقعية الرؤيا، وهي رؤيا انبثقت على أساس ما يلي: إذا أبت السلطة إلا أن تكون جهازا للمطاردة والعقاب، وإذا لم ترق إلى مستوى السلطة الضامنة، فحتما سيسقط الجسر ذات حين بين السلطة والمجتمع وسيقفان على طرفي نقيض. ليس في تونس فحسب، وليس في حدود الوطن العربي، بل هي جدلية طبيعية... قد يكون الگراب، في قراءة البعض، صورة استشرافية للبوعزيزي ولكثير من شرائح المجتمع، في ظل سلطة تكيل بمكاييل عدة . لكنه (أي الگراب) شخصية خاصة وفريدة، محملة بأبعاد أخرى مغايرة وشاسعة... إنه في العمق صورة فكرة...
*يلاحظ القارئ لمجموعتك القصصية، أن كل قصة تتضمن صورتين متقابلتين. هل يمكن أن نتحدث من خلال تجربتك عن قصة مركبة؟
** من المبكر جدا الحديث عن قصة مركبة، وإن كانت في الحقيقة إحدى رهاناتي الجمالية الخفية . كثيرون لاحظوا هذا التركيب، وهناك من معارفي من قال لي إنني تجاوزت ما تتحمله طاقة القصة القصيرة، على اعتبار كونها ترصد لقطة لا أكثر، قد نختلف في مفهوم اللقطة وحدودها. لن نخوض في ذلك الآن، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل أضر التركيب بالحبكة؟ وهل فتّت وجهة النظر التي قُدّمت بها القصص؟ لا أظن. ثم إنني لم أصطنع ذاك التركيب، طبيعة المضامين والمواقف الإنسانية التي رصدتها هي التي أملت التصوير المركب، من منطلق قناعتي النقدية بأن التقرب من مراوغات المضامين السردية وبلورة غزارتها يستدعي بالضرورة شكلا ملائما ومنسجما. تأمل معي مثلا: أليس سقوط الجسر يعني أننا أمام ضفتين أو قطبين متقابلين؟ إذاً، ألا يستدعي ذلك، تقنيا وفنيا، أن تعكس القصص هذا التقابل؟... إن تقابل صورتين لم يكن ترفا فنيا بقدر ما كان ضرورة بنائية وجمالية. وأؤكد لك أن التركيب يتجاوز القصة الواحدة إلى مدى أبعد.
* على ذكر قناعتك النقدية، نحن نعلم أنك ناقد. ألا يمتزج وعي الناقد بوعي القاص أثناء الإبداع؟
** لحظة الإبداع هي ليست لحظة النقد، الإبداع فاعلية فنان منبثقة عن لحظة انصهار في العالم والناس والكينونة والرؤى. أما النقد فهو فاعلية أخرى مغايرة منبثقة عن احتراق في ذات الآخر. لذلك فأنا أكتب بفطرة الكاتب وقلق الإنسان في الوجود. هذا لا يعني أن وعي الناقد لا يحضر، بل قد يحضر أحيانا بشكل عفوي لتقويم اختلال ما. وكثيرا ما تدخل وعي الناقد ليحسم في خيار جمالي ما أو إهمال خيار آخر، لكن مع ذلك فمعركة الإبداع يحسمها المبدع أولا وأخيرا.
* لقد دخلت مجال النقد الأدبي من خلال مؤلفك الأخير "صورة الإنسان في رواية السفينة لجبرا إبراهيم جبرا". حدثنا عن تجربتك في هذا الميدان.
** لم يكن هذا الإصدار أول أعمالي النقدية، فقد احتككت بالنقد منذ 1990 حين نشرت مقالة حول: "الشخصيات في رواية رفقة السلاح والقمر". وكنت آنذاك ما زلت تلميذا في الثانوي. أعقبتها مقالات أخرى كان آخرها "تشكيل السمات في رواية صابر.. المغفل الماكر لأحمد عبد السلام البقالي"، نُشرت في مجلة "مجرة" صيف 2009. لكن يبقى هذا الكتاب الأبرز حتى الآن، وقد حظي بتغطية إعلامية واسعة نظرا لثرائه وجدته وجديته، على اعتبار أنه يناوش إشكالين؛ إشكال الصورة الروائية، وإشكال صورة الإنسان، علما بأنه أول كتاب يواجه إشكال صورة الإنسان بشكل صريح وموضعي. إنه كتاب يقارب الرواية العربية من خلال رواية "السفينة" مقاربة بلاغية تستند إلى مفهوم الصورة الروائية، بوصفه تصورا بلاغيا بادي المعالم الجمالية. وهي مقاربة منطلقاتها جمالية وغاياتها جمالية وإنسانية، تحاور النص الروائي بعيدا عن أية مقصدية براغماتية أو أيديولوجية، رهانها جمالي وغاياتها الظفر بالأصالة الفنية والإنسانية للعمل الروائي وصورته الموسومة بأبعاد خاصة مغايرة للصورة الشعرية. وقد باح التحليل بالصورة بكثير من الأسرار الجمالية لرواية "السفينة"، وكشف جدية ورجحان المعايير الجمالية التي وضعها الناقد محمد أنقار.
* ركزت كثيرا في مجموعتك على إنجاز صورة دقيقة ومتحركة للشخصيات. هل هذا التركيز صادر عن تأثرك بالاشتغال النقدي على الصورة الروائية؟ **من الصعب أن ننجز صورة الشخصية أو أي مكون آخر في القصة القصيرة بناء على مقومات الصورة الروائية، بالنظر إلى الاختلاف النوعي الشاسع بين الفنين. وإذا جاز لنا أن نتحدث عن صورة قصصية، فأكيد ستكون مغايرة. فالقصة القصيرة تأخذ من علم النفس شخصياتها، ومن الرواية لحظتها، ومن اللغة الشعرية كثافتها، ومن الرسم ألوانها، ومن الشعاع ديناميتها... هذا يجعلنا نفترض أن الصورة في القصة القصيرة يصعب القبض عليها أو توخيها بوعي. لأنها شديدة التعقيد، تمتاح من حقول شتى، تتسم بالاستلاب والتركيب والنقص والفجائية والأسر والمراوغة والحفر والانسياب والمواءمة والمفارقة، وغير ذلك من السمات التي تجعل التفكير في الصورة القصصية محفوفا بكثير من المزالق والتعقيدات. إذا كانت هناك صورة في القصة، فهي نابعة من حدس المبدع وعفويته الإنسانية، وليس بالضرورة من الوعي بمقومات الصورة الروائية، فكثير من سمات السرد هي في الأصل سمات إنسانية، تتقمص في كل نوع أدبي شكلا ووظيفة مغايرة في إطار حدود النوع.
*هل القصة القصيرة، رغم كثافة مضمونها وقصر حجمها، قادرة على استيعاب الأسئلة المطروحة في اللحظة الحضارية الآنية؟
** حين نقول كثافة، فنحن ضمنيا نقول شساعة. القصة جرعة مركزة من كل شيء في الحياة.. ذاك سحرها ودأبها، وتلك طاقاتها وفعاليتها. هي على قصر حجمها تحاكي حيوات وليس مجرد حياة، إنها تلتقط الشخصية والأشياء والكائنات في محيطها الإنساني المتفاعل. صحيح أنها ترصد لقطة، لكنها لقطة ليست معزولة عن ديناميتها الإنسانية العامة، وصحيح أنها تتناول لحظة، لكنها لحظة هائمة في الناس.. تائهة في الزمن، يصعب تحديدها لأنها، ببساطة، عصية عن أي تحديد.. لحظة زئبقية تهرب من كل شيء إلى كل شيء. لذلك، هي بالفعل قادرة على استيعاب الأسئلة الحضارية الكبرى والمشكلات الكيانية والوجودية للإنسان المعاصر، ولن تفقد تلك الطاقة وذاك السحر، لأنها أصلا سليلة الأسئلة الكبرى...
*ما رأيك في مقولة أن القصة القصيرة في المغرب وحتى في المشرق سائرة في تراجع مستمر لصالح الرواية؟
** من الناحية النظرية، فإن القول بتراجع القصة القصيرة لصالح الرواية، معادلة متوازنة ومظهر صحي، بالنظر إلى علاقة هذين الفنين بالواقع. لأن الرواية ابنة المدينة والقصة ابنة الجماعات الصغيرة. وطالما أن المجتمعات سائرة باستمرار في التمدن، فإن ذلك يفرز، جدليا، تراجع القصة لصالح الرواية. ولكن؛ هل هذه المعادلة تسقط على الواقع العربي؟ هذه مسألة فيها نظر. لأن المدنيّة العربية غير متوازنة، نتجت عن منطق الطفرة وليس الصيرورة. ترتب عن ذلك مدنية على مستوى الشكل والمظهر والشعارات، أما الجوهر والعقلية فشيء آخر مُفارق. وأرى أن ذلك أسفر عن مسخ الفنين معا. إن القصة العربية في تراجع، ولكن ليس بالضرورة لصالح الرواية. إنها في تراجع لأنها في مفترق طرق، لا تدري ذاتها ولا وظيفتها ولا هويتها، نتيجة الاندفاع المُبالغ في التجريب الذي أفقدها شعاعها وكينونتها، وانحرف بأصالتها الفنية وغاياتها الإنسانية...
*هل نفهم من كلامك أنك ضد التجريب؟ **القول بأننا ضد التجريب ينطوي على كثير من المجازفة والمغالطة، لأن من أبرز سمات السرد عموما التجريب. كلنا نجرب، والتجريب ليس حكرا على أحد وليس ميزة، ولا يقبل أن يكون مجالا للمزايدات العقيمة. لكن، ينبغي التمييز بين التجريب داخل حدود النوع والتجريب الذي يخرق تلك الحدود. الأول قد يثمر أثرا جماليا يحدسه القارئ ويتذوق وظيفته الجمالية، بناء على ميثاق ومرجعية مشتركة بين المبدع والمتلقي، هنا يكون التجريب ذا قيمة لأنه ينم عن أثر. أما التجريب الذي يخرق القواعد، فيقطع حبل التواصل ويدير ظهره لكل المواثيق، يركب نزوة إبداعية قد تصير نشازا ولغوا غير مبرر فنيا، مبرره الوحيد مواكبة مرحلة ما بعد الحداثة ومشايعة التحول والتغير الذي نفى وهم الحدود بين كل الأشياء. وبالتالي يرى مناصرو هذا الخط التجريبي أن على الأدب أن ينخرط في صميم نبض التحول والتغير وتحطيم الحدود. هذا، في رأيي، يُدخل الأدب في مرحلة الاستلاب والتبعية، ويُسلم كنهَه الجمالي والإنساني لطقس غير أصيل، علما بأن الأدب لا يمكن أن يتنفس إلا برئته الأصيلة. * في القصة الأخيرة نسجت حوارا بين البطل والطائر. أليس في ذلك خرق للواقعية التي طبعت المجموعة برمتها؟ ** قد أتفق معك في أن ثمة الكثير من سمات الواقعية، بل هي نوع مخصوص من الواقعية. لكني في ذات الوقت أنفي أي مظهر للخارق على الإطلاق. اللحظة التي حضر فيها (الطائر) كانت أشبه بعنق الزجاجة، والقصة كانت تحتضر جماليا، لأنها توخت الجمع بين حدثين متباعدين مكانيا لكنهما منسجمين دلاليا وروحانيا. المأزق الذي واجهته لحظة الإبداع هو: كيف نتعالى على فوضى الاعتراف الذاتي غير المتوازن ونوائم بين الحدثين بشكل مقبول سرديا ومتوازن؟ كان من الممكن أن أستدعي شخصية بشرية بدل (الطائر)، إلا أن ذلك كان سيفقد اللحظة جوهرها الروحاني وانسجامها السياقي. وكان من الممكن أن أفسح مجالا للمونولوج ويأتي الحدث الثاني في شكل استرجاع، لكنه كان سيكون مفروضا على القارئ بدون تبرير سياقي أو جمالي كما أنه لن يكون بمقدوره خدمة الرؤيا العامة للقصة ، وهي رؤيا متسمة بالتركيب والروحانية والغوص في الذات والفردانية والتصوف... في ظل هذه الظروف، ارتأيت أن استدعاء الطائر قد يكون ذا فعالية وأثر أكبر. أما المبرر الواقعي لهذا الطائر فهو قول الله عز وجل: «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه». أعود وأقول؛ إن النبش في دلالة الطائر لن يكون مجديا إذا تم عزله عن السياق العام وعن الأجواء التي شكلت خلفية الصورة. لماذا لا نبحث مثلا في دلالة العملة البالية؟ والأنغام؟ والمغارة؟ والعدد غير المعروف للأشخاص المتواجدين بها؟ وتلاقح الموت والحياة؟... إن الطائر جزء من بنية أو فكرة متواشجة ومتكاملة يصعب تجزيئها، وهو بالتأكيد ليس خارقا... *كلمة أخيرة.. **التحية والمودة إلى كل متصفحي "بوابة قصر السوق". هذه البوابة التي أعتبرها ذاكرة أصيلة لمدينة الرشيدية العزيزة.. أثمن فيها تنوعها وتفاعلها الإيجابي مع القضايا الوطنية، وانفتاحها على القضايا الإقليمية والكونية. وتحية خاصة إلى مدينة الرشيدية التي تبوح بصوت جهور بطاقاتها ومخزونها الثقافي والإنساني المتميز، من خلال منابر عدة. والشكر موصول إلى طاقم البوابة وإلى الأستاذ مبروك السالمي على هذه الاستضافة الجميلة... ولطنجة الغائبة / الحاضرة باستمرار أقول: (...) أيا طنجة ما لعهدك يخبو كلما حل المطر؟ ما لثغرك يحجب الومْض عني كلما اعتذر القمر؟ وأظل أغازل ضوءك التائه في كبد العراء.. وأراك وجها بلا عينين وأراك ليلا بلا شطآن *** أنا ما سرقت النار من عينيك لا، ولا سرقت الصخر من جوف المغاره وأراني أنوء بثقل الحجاره كالرحى تطحنني وتدك بقلبي كل بشاره ألا يا سيدة الهجر والغوايه بعيدا عنك أذوب ها هنا في ربى الأدغال في ضجرٍ بلا قراره ها هنا لا نوارس تهفو، لا أطيار لا رجع قيتاره إلا صخورا تحمحم ونسورا تنهش في جوفي بلا هواده.. وهرقلُك ما عاد يشق صخورا وهرقلك ما عاد يبيد نسورا من قصيدة: " لواعج هرقلية النفحات"- البشير البقالي