لا يجادل اثنان في كون مدينة القصر الكبير الواقعة في الشمال الغربي المغربي هي من أقدم الحواضر المغربية، وهو ما أكدته مجموعة من الأبحاث التاريخية والأركيولوجية التي أجريت بالمدينة من طرف مجموعة الباحثين، مثلما تؤكده معالم لازالت شامخة بها رغم الزحف والتشويه الإسمنتي اللذان ما فتئا يحاولان طمس معالم المدينة التي تدل على تاريخيتها وعراقتها. إن عمق مدينة القصر الكبير التاريخي يؤهلها بدون شك لأن تندرج ضمن لائحة المدن السياحية بشمال المغرب، خصوصا وأن تراثها الثقافي وخاصة التراث المعماري الذي تتوفر عليه يعتبر من بين الأغنى على صعيد الشمال المغربي، وهي تتوفر على تخطيط عمراني بتفاصيل جمالية قلما نجدها في مدينة مغربية أخرى، مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول المانع من أن تتحول إلى قبلة للسياحة الثقافية، خصوصا وأن هذه الأخيرة أصبحت لها مكانة مهمة في أوساط السياح وأصبحت تدر مداخيل كبيرة جدا على اقتصاديات دول كثيرة نجد على رأسها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، بفضل ما تتوفر عليه من مدن عتيقة أحاطتها هذه الدول بالعناية الفائقة والترميم المتخصص، بما يحفظها من الاندثار وفي نفس الوقت يحافظ على جماليتها وجاذبيتها التي تجعل الزائر منبهرا بها مثلما يجعله يكون فكرة عن تاريخها وهو ما يعطي بعدا آخر للتوظيف التنموي للتراث من خلال التعريف بحضارات تلك الدول. لقد أصبح الحديث اليوم عن استثمار التراث الثقافي بمدينة القصر الكبير في السياحة الثقافية، ضرورة اقتصادية ملحة إلى جانب الضرورات الأخرى المتمثلة في المحافظة والترميم والاهتمام بعناصر الهوية المحلية، مثلما أصبح ضروريا إعادة النظر في الزاوية التي يناقش منها التراث المعماري القصري وطرح الأسئلة الضرورية في هذا الصدد، فما الذي يمنع المدينة العتيقة للقصر الكبير من أن تكون كمثيلاتها في شفشاون وتطوان مثلا؟ أليس للمدينة رصيد معماري عتيق غني ومتنوع ينقصه فقط الاهتمام والتنسيق والتنظيم وإصلاح ما أفسدته أيادي العابثين بفعل الجهل بقيمة الثروة التي تحتضنها في كنفها؟ وما الذي يمنعها من أن تكون محطة أساسية في خريطة السياحة الثقافية في الشمال؟ إن نظرة بسيطة وعابرة من طرف باحث متخصص تكشف عن أنماط عمارة متميزة بالمدينة العتيقة للقصر الكبير، فمن العمارة الدينية إلى المدنية والعسكرية، وبتفاصيل جمالية وتخطيط عمراني يحيل على مجموعة من الخلفيات الدينية والثقافية والطبيعية والأمنية، كل هذه العناصر تجعلك تتجول في المدينة العتيقة وكأنك تتنقل بين مراحل التاريخ، فها هي المنازل اليهودية والأندلسية والمغربية والإسبانية تعطي الانطباع على أن المدينة كانت مركز تلاقح ثقافات متعددة، وتجعلها في خانة الحواضر التي تتوفر على رصيد تاريخي يجذب إليها السائح المهتم من جهة ويحقق للمدينة مصدرا للرواج الاقتصادي من جهة أخرى بعيدا عما أصبحت المدينة العتيقة مرتبطة به من إجرام وترويج للمخدرات واحتمال الانهيار في أي لحظة. إن للسياحة الثقافية بمدينة القصر الكبير مستقبلا زاهرا إذا تم التفكير في تراثه الثقافي من هذه الزاوية، والشروع في أقرب وقت في بلورة التصورات الملائمة وأجرأتها على أرض الواقع، وإلا فإنه بإهمال التراث الثقافي لمدينة القصر الكبير ستفقد المدينة عنصرا تنمويا مثلما ستفقد رصيدا تاريخيا لا يمكن تعويضه بأي ثمن.