(1) لا يهم إن كنت استقلاليا أم لم تكن. لا يهم إن كنت تمارس السياسة أم لا. لا يهم إن كنت تمتدح حزب الاستقلال أم تذمه. لا يهم إن كنت تحب حزب الاستقلال أم تكرهه. فحزب الاستقلال، كما أعرفه، كالشمس يسطع على الجميع. و حزب الاستقلال كما أعرفه ليس فقط إطارا للممارسة السياسية، بل هو تجربة حياة بكل ما فيها من مد و جزر و وهج و مشاعر متناقضة، فحزب الاستقلال كما أعرفه هو أكبر بكثير من مجرد حزب فهو عائلة مغربية كبيرة تضم كل المغاربة بدون استثناء، و ككل العائلات المغربية فهي في سجال دائم مع بعضها البعض و في تسامح دائم و حب فطري متأصل نابع من هويتها المغربية. فحزب الاستقلال كما أعرفه، أكبر منا جميعا و مهما اعتقدنا أننا امتلكناه نكتشف أنه هو من يمتلكنا و ليس نحن، و مهما اعتقدنا بأننا لا ننتمي إليه أو رفضنا الانتماء إليه نكتشف أنه الحزب المغربي الأقرب إلى النزعة "التمغربتية" فينا و التي تميزنا عن باقي شعوب العالم و تجعلنا نشعر بالفخر أحيانا و بالسخرية أحيانا أخرى و لكننا في كلتا الحالتين ندرك بأننا لن نكون إلا نحن و نرفض قطعيا أن نكون شيئا أخر. لهذا أريد أن أحكي إلى كل المغاربة عن المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال الذي سينعقد في الأشهر القليلة المقبلة. في الحقيقة لا أريد أن أحكي على المؤتمر، و لكن أريد أن أحكي بالضبط على الطريق إلى المؤتمر. ماذا سيصادف الاستقلاليون في طريق العبور؟ و كيف سيتجاوزون المنعرجات؟و كيف سيتعاملون مع الصعاب؟ و هل سيستمتعون بمنظر الأزهار على الطريق؟ و كيف سيتعاملون مع الأشواك؟ و كيف سيمشون مع بعضهم البعض؟ هل سيتدافعون؟ هل سيستمتعون؟ هل سيساعدون بعضهم بعضا؟ هل سيمارسون المكر و الخديعة مع بعضهم؟ و كيف سيصلون إلى المؤتمر؟ منهكون؟ أقوياء؟ممزقون؟ متماسكون؟ أكثر إنسانية و تجربة و تبصر؟ أكثر أنانية و توحش؟ كيف سيقطعون الماراطون للوصول إلى المؤتمر السابع عشر؟ إن هذا هو بالضبط ما أريد أن أحكي عنه عبر سلسلة من المقالات حول المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال كما عشته و أعيشه و سأعيشه. فالسياسة يمارسها الإنسان، و لهذا من الغباء إقصاء البعد الإنساني عن الممارسة السياسة و الاكتفاء بترديد الشعارات. و من الحيف اختزال مؤتمر يشارك فيه أكثر من خمسة ألف مؤتمر يعرجون من كل جهات و أقاليم المملكة و من كل الفئات و من كل القطاعات و من مختلف الأعمار و بحكايات و ثقافات و خلفيات مختلفة إلى مجرد أرقام أو نتائج. فخمسة ألف إنسان يتفاعل فيما بينه لا يمكن إلا أن ينتج كيمياء نادرة. ربما أغلب الناس، كل ما يهمهم هو سماع النتيجة. من انتصر؟ و من انهزم؟ فهم لا يدركون بأن النتيجة لا تهم إلا إذا استطاعت فعلا أن تمنحك بعضا من الصلابة و السعادة و التوازن و الاكتفاء الذاتي على حد سواء لمواصلة مسيرة الحياة بحظوظ أوفر للمستقبل. فما جدوى الانتصار في المعركة إذا كنت ستصل مثقلا بالجروح و تنزف و على حفا الاندحار؟ و ما جدوى الانتصار أيضا إذا كنت بالمقابل ستقضي على منافس قوي بالضربة القاضية و ترديه قتيلا؟ هذا المنافس الذي لم يكن لك خصما أو عدوا بل كان حليفا و أخا. فما جدوى الانتصار إذا كنت ستواصل مسيرة الحياة وحيدا و مقزما؟ فالانتصار و الهزيمة لا معنى لهما إلا إذا أسقطناهم على المستقبل. و الانتصار الحقيقي هو انتصار جميع الأطراف على حد سواء، لأن هذا يعني أنك استطعت الحفاظ على إنسانيتك و يعني أيضا بقاؤك قويا و متماسكا. فالمؤتمرات في الأحزاب هي منعطف حاسم، لأن بعض الانتصارات اللحظية تتحول مع الوقت إلى هزائم نكراء للحزب برمته. فالمؤتمر قد يساهم في تقوية الحزب في المستقبل و قد يساهم في تمزيقه و تفكيكه. و لهذا السبب المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال محوري و لا بد من تأريخه كتجربة استثنائية لعل الكتابة عنه تساهم في إنجاحه. الطريق إلى المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال... (2) و ينطلق الحلم... و سيتحقق... لم أكن أعرف بأن الزمن السياسي لا يقاس بالأيام و الشهور و السنين، و لكن يقاس بتعاقب و تسلسل الأحداث و المواقف. و لم أكن أعرف أن سبعة أيام في الزمن السياسي قد تصبح دهرا، و قد تحدد مسار حزب بأكمله. فالكتابة بأمانة و صدق على مؤتمر حزب الاستقلال ، يتطلب أن تكون تشبه راعي البقر " لوكي لوك" في سرعته، هو يطلق رصاصته أسرع من ظله و أنت عليك أن تطلق قلمك أسرع من توالي الأحداث التي تتغير في ثواني و دقائق. و إلا ستعيش أثناء الكتابة زخم المشاعر المتناقضة بين ما كنت تفكر فيه قبل أسبوع أو قبل ساعة أو ساعتين و بين ما تفكر فيه اللحظة و ما قد تفكر فيه غدا. و قد تجتاحك في ظرف وجيز مشاعر متباينة، من التفاؤل إلى التشاؤم و من التشاؤم إلى التفاؤل. و من الأمل إلى القنوط و من القنوط إلى الأمل، و من الحماس إلى الفتور و من الفتور الى الحماس. و ربما هذا ما حصل معي بالضبط. فأصابني بعض الاضطراب. لا أعرف هل سأكتب عن مشاعر الحماس و الفرحة التي عشتها السبت الفارط؟ أم عن مشاعر الخوف و الريبة التي اجتاحتني فجأة هذا السبت بدون سبب واضح؟ فقبل سبعة أيام، في يوم السبت، في مدينة طنجة، مدينة الخبز الحافي، و مدينة أكبر ميناء متوسطي بشمال إفريقا، و المدينة التي دشن فيها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله أكبر مدينة صناعية بشمال إفريقيا، عشت لقاءا سياسيا جدد الأمل الراكد في أعماقي. حيث اجتمعت قيادات استقلالية من جهة الشمال لتدعم ترشيح الأخ نزار بركة للأمانة العامة لحزب الاستقلال. عندما أخذ الأخ نزار بركة الميكروفون و تحدث، انتابني شعور مبهج بأن المغرب بخير، و بأن المغرب به رجالات قادرون على قيادة تغيير ناعم و شمولي و قادرون على فهم أصل المشاكل التي نتخبط فيها فجعلتنا نعيش في وهم و زيف الصراعات التي أنهكتنا و أدخلتنا في حالة من الإحباط و القنوط، هذه الحالة التي لم يستثنى منها أغنياؤنا و فقراؤنا، رجالات أعمالنا و موظفينا، سياسيينا و فئة العازفين، الشباب و الشيوخ و الأطفال، الفقهاء و أصحاب الحانات ... هذا الاحتقان الاجتماعي الداخلي الذي لمسنا أثره بحالات الانتحار المرتفعة في السنوات الأخيرة. فأخذنا لأول مرة في المغرب نسمع بأطفال ينتحرون و بموظفون و مسئولون ينتحرون و برجال أعمال ينتحرون و بأمهات تنتحرن و بشباب ينتحر و عجزة ينتحرون و فقهاء ينتحرون و أصحاب حانات ينتحرون... يسقطون أرواحهم اتباعا و يخلفون وراءهم أكثر من سؤال بدون جواب. لهذا، تأثرت كثيرا بخطاب الأخ نزار بركة عندما استعرض مشروعه السياسي بهدوء و بمعطيات دقيقة بعيدا عن منطق الصراع و الشخصنة ، مؤكدا أكثر ما مرة بأن حزب الاستقلال كبير و يجب أن نراه كبيرا و لا ينحصر في أشخاص أو تنظيمات، و لكنه حزب يقدم حلولا لجميع المغاربة على حد سواء دون أن يقصي أي طرف. و عندما أكد الأخ نزار بركة بأنه لا و لن يشخصن و ليست له عداوة مع أحد و بأنه يراهن على أن يدخل حزب الاستقلال إلى المؤتمر قويا و موحدا و بأنه يحترم الأخ حميد شباط كأمين عام و لكن من حق الجميع المشاركة في تقييم المرحلة بإيجابياتها و سلبياتها في نقاش حر . و عندما أكد الأخ نزار بركة بأن التحدي الذي سيواجهه حزب الاستقلال هو في تموقعه بالمشهد السياسي المغربي مستقبلا خاصة أن حزب العدالة و التنمية ألة انتخابية منظمة و له إمكانيات مادية هائلة و يشتغل بانتظام، و حزب الاصالة و المعاصرة له موقعه في الساحة السياسية، و السيد عزيز أخنوش عازم على هيكلة و تقوية حزب الأحرار. و عندما أكد الأخ نزار بركة بأن حزب الاستقلال له الكثير من المؤهلات و الكفاءات التي ستمكنه من احتلال الصدارة مستقبلا، و عندما أكد الأخ نزار بركة بأنه مشاكل الحزب الداخلية و مشاكل المغرب الاجتماعية و الاقتصادية لا يمكن حلها إلا بالانكباب في العمل و عبر توحيد جميع الطاقات و تشجيعها في مشروع واضح و عبر تغليب مصلحة الوطن، أما تبادل الاتهامات و القذف و خطابات التخوين فإنها لا و لن تحل مشاكلنا بل هي جزء من المشكل. منذ سنوات، لم أسمع خطابا سياسيا يتضمن مشروعا و أفكارا نعمل من أجلها جميعا. كما أنني كنت مقتنعة تماما بأن الصراعات و التصادمات و الخلافات هي مضيعة للطاقات و أن المغاربة في النهاية متشابهون و يعانون جميعهم من نفس المشاكل مهما اختلفت مواقعهم في الظاهر، و بأن المغاربة ليسوا أعداء لبعضهم البعض و آن الأوان لخطاب يوحد الطاقات و يدعو إلى العمل و تشجيع بعضنا البعض من أجل بناء مجتمع و مغرب قوي بدل سياسة التحطيم و الإقصاء و " زرب علي نزرب عليك". و قد يكون هذا هو منطلق الاختلاف مع الأخ الأمين العام حميد شباط. فلا أحد ينكر بأن الأخ حميد شباط مناضل صبور و قوي، و أنه جاب المغرب طولا و عرضا من أجل تنظيم حزب الاستقلال، و بأنه و إن كان لم يحصل على نتائج ايجابية فلا أحد يستطيع أن يطعن في روحه الاستقلالية و في تضحياته من أجل الحزب. و لكنه اشتغل بمنطق تصادمي صرف، فخلق عداوات و ولاءات و جماعات و تكتلات في قلب الحزب، فعاش مناضلو الحزب في تصادم دائم مع بعضهم البعض، فانتقلوا من منطق التعاون إلى منطق الإقصاء و الصراع. كما خلق عداءات و تصادمات مع مختلف الأحزاب مما جعل حزب الاستقلال و لأول مرة يسقط في سجال عقيم مع محيطه مما أفقده هيبته و رزانته التي كان معروفا بها. و لهذا من الطبيعي أن يقول لسان حال الاستقلاليين للأخ الأمين العام حميد شباط: " بركة". خطاب الأخ نزار بركة لم يلق الترحيب من القيادات الاستقلالية فقط، بل حتى من القواعد. و يظهر ذلك جليا من اللقاء الذي نظمه غده الأحد بمدينة تطوان بحي التقنية، في منزل أحد المناضلين الاستقلاليين أبناء العائلة الاستقلالية، و الذي حضره أكثر من ستين مناضل و مناضلة. إذ تجاوب الجميع مع خطاب الأخ نزار بركة و هم يرددون بأنهم اشتاقوا لخطاب سياسي هادئ و عقلاني يعكس روح حزب الاستقلال و فكر علال الفاسي. لحظتها، شعرت بالتفاؤل، و بأن حزب الاستقلال سيأخذ مساره الصحيح، و بأن الممارسة السياسية سيصبح لها معنى، و بأن حزب الاستقلال سباق لإعطاء الدروس و النموذج حول فن التدبير السياسي للمراحل لمختلف الفرقاء السياسيين. و بأن مختلف الاستقلاليين سيفكرون في سمعة حزبهم و قوة حزبهم و في وحدتهم و سينخرطون في حملات انتخابية تهم البرامج و المشاريع و ما نريده من حزب الاستقلال و كيف نراه بدل الانكباب في شتم و تقزيم و إضعاف الآخر. و لكني اصطدمت بحرب البلاغات و البلاغات المضادة التي أصدرتها القيادات الاستقلالية فيما بينها، و بالكم الهائل من المقالات الصحفية السلبية على صفحات الجرائد و هي تتنبأ بانفجار البيت الداخلي لحزب الاستقلال، و بالحرب الفايسبوكية بين المناضلين على صفحاتهم و في أغلبها تفتقد لأبجديات الحوار و الاحترام المتبادل، فشعرت بالقنوط، و بدا لي بأن مشروع الأخ نزار بركة لم يلتقط من طرف الكثيرين، و بأن الحلم الاستقلالي مازال بعيدا و بأن الطريق إلى المؤتمر ما زال شاقا، و لكن و مع ذلك، لي الثقة في أبناء المدرسة الاستقلالية و أراهن على فطنة المناضل الاستقلالي و غيرته على حزبه. و غدا لنا لقاء. الطريق إلى المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال... (3) أين الحقيقة؟ ما الذي يحصل في حزب الاستقلال؟ و هل هناك من يعرف حقيقة ما يقع؟ و هل يمكن أن نتنبأ بمستقبل أعرق حزب سياسي بالمغرب؟ هل سيضعف و يدجن كحزب الاتحاد الاشتراكي؟ أم سيخرج قويا كنسر و لد من جديد بعد مرحلة مخاض عسيرة؟ عندما تسأل بعض المناضلين الاستقلاليين الذين عاشوا مختلف المحطات و النكبات التي مر منها حزب الاستقلال، يصرحون بأن ما يحصل اليوم في حزب الاستقلال أمر عادي، و في كل المؤتمرات يحصل التجاذب و التعارك. و العراك بالكراسي و الأيادي شيء مألوف بحزب الاستقلال شريطة أن يتكلف به المناضلون الأشداء بدون المساس بالمناضلات الاستقلاليات. بل في إحدى المرات، وصل الصراع أشده حد استعمال الكلاب المفترسة. و لكن في النهاية ،لا العراك و لا الصراع و لا مسلسل الانقلابات المستمر أثر على حزب الاستقلال. لأنه غالبا ما ينتهي الصراع بالصلح و التوافق فتدبر المرحلة السياسية بالحكمة و التبصر لينتصر منطق الحوار فيصل الاستقلاليون موحدون إلى المؤتمر بقلب لا يحمل ضغينة و لا خصومة. و لكن فئة أخرى من الاستقلاليين يرون أن ما يحصل حاليا في حزب الاستقلال شبيه بالأزمة التي عاشها سنة 1959 فأدت إلى انشقاقه ليخرج حزب الاتحاد الاشتراكي من رحمه. و يرون بأن الحزب يتعرض لمؤامرة خارجية و بأن هناك أيادي خفية تعبث بالحزب و تريد إضعافه و الاستحواذ عليه. و لكن الشيء الأكيد هو أن حزب الاستقلال لم يصل يوما إلى هذه المرحلة من التخبط فاختلط الحابل بالنابل، فأصبح الاستقلالي يقرأ عن حزبه من الصحف بدون أن يهتدي إلى الحقيقة أو يفهم ما يجري. و لم يتم يوما إضعاف مؤسسة الأمين العام و إفراغها من كل معنى كما حصل اليوم، حيث أصبحت بعض القرارات و البلاغات توقع باسم أعضاء اللجنة التنفيذية. المغاربة يعتقدون بأن ما يحصل بحزب الاستقلال هو شأن داخلي لا يعنيهم. و يعتقدون بان الصراع بحزب الاستقلال هو صراع بين أشخاص يغلب عليه تضارب المصالح المادية الضيقة على الحسابات السياسية. و لكن من يعرف التركيبة المركبة و المعقدة للحزب سيدرك بأن الصراع بحزب الاستقلال أكبر بكثير من صراع أشخاص. فحزب الاستقلال هو ذاك السهل الممتنع. لأنه الحزب الوحيد في المغرب الذي يمنح لمناضليه هامش كبير من حرية التعبير و النضال الفعلي، و هو الحزب الوحيد الذي يؤطر سياسيا و بتجارب ميدانية بعيدا عن الديماغوجية و الشعارات و غسل الدماغ أو اختلاق قصة العدو الوحيد و إلهاء المناضلين في صراع سياسي دونكيشوطي. فحزب الاستقلال هو الحزب الوحيد الذي يجمع مختلف شرائح و بنيات المجتمع المعقدة و يمنحهم إطارا متناقضا مبني تارة على التعايش و تارة على التصارع و التجاذب تاركا للتاريخ و لظروف المرحلة و لقوة النضال اختيار القرار السياسي الملائم . و لهذا، ما حدث في المؤتمر السادس عشر و ما قد يحدث في المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال يهم مستقبل المغاربة على حد سواء. لأن من اعتقد أن الهدف في المؤتمر السادس عشر هو إسقاط هيمنة آل فاس من حزب الاستقلال فهو واهم لأن الغرض كان أكبر من ذلك و هو إضعاف الطبقة الوسطى، هذه الطبقة التي تمثل ركيزة الاستقرار في أي مجتمع. فالجزء الأكبر من الكتلة الناخبة لحزب الاستقلال كان يتكون من الطبقة المتوسطة المتمثلة في النخبة المثقفة و الأطر و الموظفون و البورجوازية المتوسطة من فئة التجار و المقاولات. كما أن جزء كبير من الطبقة الشعبية كان يصوت على حزب الاستقلال لأن الحزب من خلال برامجه كان يضمن لها صعودا آمنا إلى الطبقة المتوسطة لتتوسع هذه الطبقة أكثر و أكثر. و هكذا، و إلى حدود المؤتمر الخامس عشر، كانت دائما الطبقة المتوسطة الممثلة بالأطر الحزبية تتحد مع الطبقة الشعبية الطموحة إلى مستقبل أفضل الممثلة في شبيبة الحزب، فيختارون أمينهم العام بتوافق. حيث أصوات هذين الفئتين كانت تمثل أغلبية مريحة، و لهذا الأمين العام المنتخب كان مضطرا لسماع صوتهم و إشراكهم في القرارات التي كانت بالضرورة تنصب نحو مصلحتهم. و لكن في المؤتمر السادس عشر، تخلخل هذا التوازن، لتدعم طبقة الأعيان و الرأسماليين بحزب الاستقلال، الذي كان لها حضور تنظيمي باهت بحزب علال، ترشيح الأخ حميد شباط للأمانة العامة سابقا، فتنقسم و تتعارك الطبقة المتوسطة مع الطبقة الشعبية بالحزب ولتستغل طبقة الأعيان و الرأسماليين هذا الصراع فتقتحم القوة التنظيمية لحزب الاستقلال التي ظلت لعقود عدة حكر على المناضلين الحزبيين المتدرجين في دواليب الحزب. و اليوم و بعد أن تمكنت هذه الفئة من الوصول إلى الهيكلة التنظيمية لحزب الاستقلال باستغلالها لطموح شباط ، هاهي تنقلب عليه في حرب شرسة للإطاحة به. و السؤال اليوم ليس فقط هو من سيكون الأمين العام القادم لحزب الاستقلال، بل السؤال الحقيقي هو من سيصوت عليه؟ و إلى أي حد ما زالت الطبقة المتوسطة مؤثرة في حزب الاستقلال و يمكنها أن تقرر فعليا في أمينها العام؟ الطريق إلى المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال... (4) "نداء من استقلالي" و درس النبل السياسي: لا يهمني عبر سلسة المقالات حول مؤتمر حزب الاستقلال التأريخ للمؤتمر السابع عشر، بقدر ما يهمني فهم واقعنا الاجتماعي و السياسي المعاش و من تم فهم أصل الصراع الذي يفرق و يفقر المغاربة على حد سواء. لأن تحليل و مناقشة ما يحدث بحزب الاستقلال و الذي هو ليس بمعزل عن المجتمع المغربي، سيجعلنا نعي تماما الخيارات السياسية و الإنسانية المتاحة لدينا لتجاوز أزماتنا و من تم التفوق على ذاتنا و المضي قدما نحو مجتمع أكثر إنسانية و أكثر رقيا و أكثر ذكاء. فأمام كل أزمة تعترض الإنسان، لا يكون أمامه الكثير من الخيارات، ففي الغالب يتأرجح بين خيارين أو ثلاث أو أربع خيارات على أكثر تقدير. و عندما يعترض الحزب أزمة، فإن مناضليه و قيادييه أيضا في الغالب لا يكون لديهم الكثير من الخيارات. فعليهم أن يختاروا في أكثر الأحوال من بين أربع سيناريوهات و خيارهم سيحدد مستقبل و مصير الحزب. و لهذا السبب، المسئول أينما كان موقعه سواء كرب الأسرة أو كزعيم حزبي أو مدير مؤسسة أو على رأس الدولة ، يحمل أمانة ثقيلة على عاتقه و يصبح لديه ضغط أخلاقي كبير لأن القرار السياسي أو الخيار الاستراتيجي الذي سيتبناه و طريقة تعامله مع الأزمة، سيحدد مستقبل و مصير المؤتمن عليهم. في الحياة، الإنسان هو بطل المشهد، هو صانع الأحداث و هو المتفاعل معها و هو ضحيتها في الوقت نفسه. و هو يتحرك على مستويات عدة، تارة بالأحاسيس و العواطف الذاتية و تارة بالعقل و تارة بالحس الجماعي و تارة يمزج بين جميع المكونات. و لهذا يصعب الرهان على الخيار الصائب إذا لم نراهن في الأصل على إنسان ناضج حكيم متزن متبصر قادر على أن يضيء مناطق الظلام في المجتمع ليجعل الجميع يرى بشكل صحيح. و ما نعيشه حاليا في حزب الاستقلال من تراشق و تبادل الاتهامات هو نفسه ما يعيشه المجتمع برمته. فيتحول مستقبلنا و مستقبل أبنائنا إلى مجرد كرة من سب و شتم نقذفها فيما بيننا دون أن يحاول أي طرف عمل أي شيء حيال إيقاف هذه اللعبة السخيفة و هذه الكتلة الرهيبة من الحقد و الكراهية التي تدمرنا جميعا. و لهذا الأغلبية العظمى فينا للأسف تتحرك بدافع الكراهية و الانتقام، و ليس بمنطق الاصطفاف مع الصواب و مع المصلحة الكبرى للوطن أو للحزب أو للمؤسسة أو للأسرة. فتجد الصحفي الراضي مثلا عندما شعر بالظلم لأن التلفزة المغربية لفظته انتقم عبر الاشتغال في إعلام أجنبي معادي. و المهندس أحمد بن الصديق عندما شعر بظلم المخزن قرر الانتقام منه و الاصطفاف مع معارضيه. و الصحفي رضا بنشمسي عندما ضايقه المخزن هاجر إلى أمريكا ليسبه كما يحلو له. و الأمثلة كثيرة من واقعنا المعاش ممن اختاروا الاصطفاف مع أحد الأطراف فقط بدافع الانتقام من أحد الأشخاص الذي سبب لهم الأذى في وقت ما أو جعلهم يشعرون بالحكرة، بدون حتى أن يتساءلوا عن معية الجماعة التي ينضموا إليها أو أهدافها أو من يحركها و هل تنصب في المصلحة العليا للوطن أم لا؟ فمنطق الانتقام يعمي الأبصار و الأفئدة. فخيار الانتقام سهل، و ستجد دائما من سيمد يده إليك و يستغل حقدك ليوظفك ليضعف الأخر، هذا الأخر الذي كنت تتشارك معه نفس هموم الوطن أو نفس قضايا الحزب أو نفس استراتيجية المؤسسة. هذا الأخر الذي في الحقيقة ليس سوى أنت لأن الطرف الأخر في الغالب لا يهمه إضعاف خصمك بقدر ما يهمه إضعاف الوطن أو الحزب أو المؤسسة التي تنتمي إليها فيستغل حقدك كمطية يركب عليها. لهذا عندما وجه زعيم حزب الاستقلال الأخ عبد الواحد الفاسي، نداء إلى كل الاستقلاليين يناشدهم بتوحيد الصفوف و تحكيم العقل بدل منطق الانتقام، فهو في العمق لم يوجه نداءه إلى الاستقلاليين فقط بل قدم درسا في النبل السياسي إلى كل المغاربة، فهو نداء أيضا إلى كل المغاربة على حد سواء. فجميعنا يتذكر الأذى الذي ألحقه الأستاذ حميد شباط بالأخ عبد الواحد الفاسي و كيف طرده من حزب أبيه الذي نشأ و ترعرع فيه. و لكن الأخ عبد الواحد الفاسي عندما شعر بأن هذا الصراع المعلن من طرف بعض أعضاء اللجنة التنفيذية و الأمين العام، قد يقسم و يضعف حزب الاستقلال اختار منطق العقل و الحكمة و تجاوز الصراعات الشخصية، و لم يصطف مع أي طرف، هذا مع العلم أن الطرف الأخر صرح أكثر ما مرة بأنه يدعم ترشيح الأخ نزار بركة الموالي لجناح الأخ عبد الواحد الفاسي. ولكن بدل ذلك، اختار المصلحة العليا للحزب، مؤكدا بأنه يجب ألا نجعل من التدافع لإبراز طموحات الترشيح أداة التفرقة التي يكون فيها الخاسر الأكبر هو حزب الاستقلال و مستشهدا ببيت شعري للزعيم علال الفاسي رحمه الله: إنا سواء ليس فينا واحد إلا و يجدر أن يكون من الأول. و هذه هي الزعامة الحقيقية التي نأتمن فيها على حزبنا و وطننا و أرواحنا بكل ثقة.