هوية بريس – د. محمد ويلالي يأتي اهتمام المسلمين في هذا الشهر المبارك، شهر ربيع الأول، بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وقت تشتد فيه الحاجة إلى ضرورة إعادة التعريف بسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وبيان منهجه في الحياة، وطرائقه في التعامل مع المسلمين وغير المسلمين، بيانا لسماحة ديننا العظيم، ونبل منهجه القويم، وسلامة نهجه المستقيم، وردا على شبه من انبروا لتشويه سمعة هذا المنهج الأبهج، والاستنقاص من شموخ ذاك النهج الأبلج، ممن لم تخالط قلوبَهم بشاشة الإيمان، ولم يشرح الله صدورهم لفهم حقيقة الإسلام. غير أن هذا الاهتمام بنبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، يجب أن لا يقتصر على يوم دون يوم، أو شهر دون شهر، بل يجب أن يكون بمثابة الهواء الذي نتفسه، لا يمكن العيش للحظة واحدة بدونه، لأن منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهج حياة، وليس منهج مناسبات معينة، أو لحظات محددة. قال الله تعالى : "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ". وقال -صلى الله عليه وسلم- : "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ. مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" صحيح سنن ابن ماجة. وحقيقة تعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره، لا تتعلق بالشعارات اللفظية، ولا بتحريك العواطف المناسباتية، إنما التوقيرُ الاتباعُ. قال -تعالى-: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ". قال الحسن البصري رحمه الله : "زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية". وقال ابن كثير رحمه الله :"هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدينَ النبوي في جميع أقواله، وأفعاله، وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: [من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد]". إني أرى حب النبي عبادة***ينجو بها يوم الحساب المسلم لكن إذا سلك المحب سبيله***متأسيا ولهديه يترسم ليس متبعا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا محبا له، من يعصيه في أمره، ويتمرد على سنته، وينقلب على ثوابت رسالته. وليس متبعا له ولا محبا له من يرى صلاح الأمة في منهج غيره من المخلوقين، وقوانين عقول البشر القاصرين، الذين أضمر كثير منهم عداوته الدفينة للمسلمين، وأشهر كثير منهم مداهنته للغافلين، حتى ظن بعض المتذبذبين أنهم بحضارتهم هاته على الحق، وببريق تقدمهم يقصدون سعادة الخلق. وليسوا كذلك. جاء في البروتوكول الثاني من المقررات اليهودية السرية ما يأتي: "إن الطبقات المتعلمة ستختال زهوًا أمام أنفسها بعلمها، وستأخذ -جزافًا- في مزاولة المعرفة التي حصلتها من العلم الذي قدمه إليها وكلاؤنا، رغبة في تربية عقولهم حسب الاتجاه الذي توخيناه". ويقول المبشر الجاسوس ويليم بَلْكْرَاف: "متى تولى القرآنُ ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية، بعيداً عن محمد وعن كتابه". ويقول كبيرهم صمويل زويمر: "على المبشر أن يذهب ومعه فتاة من أوروبا، فإن العربي إذا رأى الفتاة انهارت قواه، ونسي محمداً". هذه بعض أقاويلهم المسمومة، ومواقفهم المأفونة، والله -تعالى- يقول: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ". في ظل هذه الصيحات العدائية للمسلمين وشبابهم، وجب زيادة تعظيم رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ومضاعفة توقيره واحترامه، بالسير على هديه، والنسج على سنته، والائتمار بأوامره، والغيرة على حرماته، وحفظ حقوقه. إن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقتضي بذل المال في سبيل نشر سنته، وتشجيع الدعوة إليه، والإنفاق في كل ما يخدم منهجه، ويوطد طريقته. فقد اختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أرضا ليتيمين، لتكون مكانا لبناء المسجد النبوي، فقال لهم :"يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم (ببستانكم). قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" متفق عليه. وفي لفظ للبخاري: "ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغلامين، فساومهما بالمِرْبَد ليتخذه مسجدا، فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله". فلما أتانا واستقرت به النوى *** وأصبح مسرورا بطَيبة راضيا بذلنا له الأموال من حِل مالنا *** وأنفسَنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذي عادى من الناس كلِّهم *** جميعا وإن كان الحبيبَ المصافيا وإن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقتضي كمال التوقير له والإعظام، وجميل التقدير والاحترام. قال عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حين بعثته قريش للتفاوض مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوجده بين صحابته: "إِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ". ثم رَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُحَمَّدًا" البخاري. وقال البراء: "خرجنا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطيرَ من السكون والهَيبة والصمت، إجلالاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام ". وإن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقتضي شوق النفس إليه، وهَفْوَ القلب إلى لقياه، والتحسرَ على فوت التملي بالنظر إليه. هذه عائشة رضي الله عنها تقول: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيَك، فأنظرَ إليك. وإذا ذَكرتُ موتي وموتَك، عرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيين، وإني إذا دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)" الصحيحة. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ" مسلم. أنتَ الذي حنَّ الجمادُ لعطفهِ *** وشكا لك الحيوانُ يومَ رآكا والجِذعُ يُسْمَعُ بالحنين أنينُه *** وبكاؤُه شوقًا إلى لُقياكا إن الغيرة الحقيقية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى سنته، هي أن توالي من يحبه، وأن تعادي من يبغضه، فلا محبة بدون غيرة. قال ابن القيم رحمه الله : "فمحب الله ورسوله، يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنه من المحبين. فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله، وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت، ولا لحقوقه إذا ضيعت؟". فما بال قلوبنا اليوم باردة تجاه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عصية على الاقتداء به، مزورة عن الاهتداء بهديه؟ نسمع النصيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا نعيرها اهتماما. نستمع إلى الموعظة فيها حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يزيد تأثرنا بها عن لحظة سماعها. نُواجَه بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أخطائنا وزيغنا، فلربما أخذتنا العزة، وتأولنا لفعالنا بلا مسوغ سديد، ولا فقه صحيح، معارضةً بلا دليل، وتبجحا بسوء التأويل. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : "إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا". وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذَنَّكُم إليها". فقال ابنه بلال: "والله لَنَمْنَعُهُنَّ". فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط -وفي لفظ: فضرب في صدره- وقال: "أخبرك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقول: والله لَنَمْنَعُهُنَّ" مسلم. قال النووي -رحمه الله-: "فيه تعزير المعترض على السنة، والمعارض لها برأيه". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتما من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم الذهب، فألقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمه وقال: لا ألبسه أبدا. وألقى الناس خواتيمهم" متفق عليه. امتثال كامل، واتباع شامل. فإن أبي ووالده وعرضي***لعرض محمد منكم فداء