إن أكبر زعم، وأخس دعوى سمعناها كجيل قرأ عن ظلم الغرب للأسلاف، ثم عاش وتذوق هذا الظلم الذي مارسه ويمارسه الغرب اليوم على الأخلاف، هو زعم هذا الغرب وتصدره ورفعه في صلف وترف لشعارات حماية ورعاية حقوق الإنسان وكرامة جنسه. وكم هو مهم مع هذا الزعم أن يعلم المرء أنه تحت دعوى هذه الحماية والصون والرعاية المنتحلة تم إطلاق أيدي المجرمين والمفسدين والعابثين والمترفين من أنواع اللصوص وقطاع الطرق والقتلة، كما ترسل الذئاب الجائعة المسعورة في السائبة التي لا حماة لها ولا حراس. وربما لم نكن في حاجة إلى التوجيه الذي مفاده تحديد جنسية هذه الأيدي المرسلة في بغي وعبث، بعدما قام الغرب نفسه بتدجين واستنساخ صور وأشكال محلية تتنفس برئته وتقوم بدوره وتترجم نوايا ركزه بحماية محلية من كيانات مدنية مهمتها الدفاع المتقدم عن هذا الفساد أو ما نراه نحن فسادا، وكذا عن رواده وصناع جوقته، إذ تبدو في هذا المقام الحاجة الملحة في شوق وتشوف كامنة في الوقوف على السر المتواري في تقية وراء هذا الحرص الغريب المريب الذي يبديه الغرب عن طريق مؤسساته الحقوقية والمدنية بل والعسكرية تجاه حقوق الإنسان العربي والمسلم على وجه الخصوص. مع واجب التحفظ على كلمة "الإنسان"، وجعل هذا التحفظ هو قاعدة الانطلاق الصحيح السليم في سياق فهم هذا الإقعاد والجنوح السلوكي الذي صار المجتمع المغربي ومعه العربي عموما يعج به ويعيش تحت ضنك شقوته ويئن تحت جفوة تداعياته. فالغرب كان ولا يزال يعلم أن مشاريع تحديد النسل ونهج سبيل سياستها لم تفلح في التصدي إلى هذا السيل العرم الذي تجود به الأرحام الودودة الولودة في الوطن العربي الإسلامي، وهو ما يعني عنده ويرسخ لديه الإحساس والشعور بالخطر في مواجهة كتلة ديموغرافية كبيرة الحجم متعاظمة الرقم، ربما بل أكيد كان ترشيدها وتخليقها وتحليتها وتوظيفها في سياق تحقيق المقاصد العليا للأمة من شأنه أن يشكل عقبة وحائلا طبيعيا شرسا يمكنه أن يحرز المفاوز ضد المشاريع التي تروم وتبغي وتأمل في أن نحيا ونظل نحيا في كنف الغرب ووصايته في ذلة ومساءة، لا نُجاوز تراقي دركة الاستهلاك الذي يستعبد عقولنا ويحجر على أهليتنا تحت طائلة مطالب أمعائنا وحاجات معداتنا. وهل كانت هذه الثروة البشرية وهي تنعم بكامل أهليتها وتفزع إلى عقولها وأفئدتها كل وقت وحين، بل وتمتلك كل مقومات الإنتاج والإبداع والتميز، لتقبل بهذه الوصاية وتحيا في قدرة وضنك عيش هذا الضيم الصارخ، وتترادف على وجودها المآسي والآلام والكلوم والجراح التي باتت تثخن جسدها المتهالك؟ ولنرجع لذلك التحفظ الذي جعلناه قاعدة انطلاق سليمة لفهم ما وصلت إليه الأمة من ضعف ووهن وذلة وصغار، منبهين ابتداء مع هذا الرجوع على حقيقة أن الغرب عندما أسس لفلسفة سيادة الشعوب وسمو حقوق الإنسان وغلبة الكوني على الشرعي، لم يكن في حقيقة الأمر ليسمح لنفسه ولا لشعاراته أن تفهم من سواه وغيره في السياق الذي يجعل مثلا الإنسان الغربي أو السيد الأبيض ومن ثم الشعب الفرنسي أو الألماني، من جهة ما يتمتع به وما يجب أن يتمتع به وما يحلم ويتمنى أن يتمتع به من حقوق وامتيازات على درجة واحدة وفي منزلة مشتركة بينه كجنس متفوق، وبين الإنسان الإفريقي كشيء وضيع ومعه شعوب العالم الثالث برمته، إن هذا عنده لشيء مستحيل عُجاب!! وقد يصدق حقيقة هذه المفارقة علمنا علم اليقين أن ما نعيشه من مأساة ومغلوبية وضعف وجهالة هي نتائج مباشرة لتخطيط الغرب وإنفاذ سياسته الجائرة في محيطنا بالنار والحديد والتهديد والوعيد… ولذلك فإن هذا التحفظ يدفعنا من جهة المنطق والتناسب الحكيم العادل إلى واجب وضرورة تحرير مسمى الإنسان ونوعه في إطار المشروع الحقوقي الغربي، وذلك من أجل الوقوف على ما يحمله من اعتساف وتلبيس وإجمال مدخول على مستوى المفهوم وتجلياته وساديته وعدوانيته الطافحة، ولا شك أن كل الأوراق على الطاولة وفوقها تشرح بالصوت والصورة والرائحة على أن الإنسان المستهدف في دائرة الاهتمام المتزايد للغرب بأرضنا ومن عليها من النفوس المنفوسة، ليس هو كما نعتقد في سذاجة وغباء ذلك الإنسان الذي من شأنه ودأبه الصلاح والإصلاح، ومراد ركزه في مناكب الأرض هو تحقيق الكفاية والعناية والرعاية لشؤون الأمة والمجتمع والوطن، فهذا على فرض واحتمال رجحان وجوده والتحقق من فرط نبوغه، فالمستفيد منه أو المسموح له بالاستئثار بنبوغه ومردوديته هو الغرب نفسه ولا أحد سواه… وإنما المستهدف بهذه السياسة الحقوقية الغربية هو ذلك الإنسان الموبوء الغرائز الشائه السرائر، والذي ديدنه الفساد والإفساد في الأرض والسعي فيها من أجل إهلاك الحرث والنسل، ويصدق هذا الذي ذهبنا مذهبه دفاع الغرب المستميت والوافي الجرعة عبر منظماته الحقوقية ومؤسساته السيادية عن الحقوق الإنسانية للمجرمين والقتلة واللصوص وقطاع الطرق والمغتصبين للأعراض في جرائم متسلسلة، ووصايته على أنظمة القضاء المحلية من جهة فرض قوانينه الوضعية، في مقابل تعطيل الأحكام الشرعية وإبدال فلسفتها الردعية المتجلية في القصاص والعقوبات التعزيرية. إضافة إلى فرض سياسته من خلال تحويله تحت مسمى "حقوق السجين" السجون المحلية من أماكن ذات خصوصية تأديبية ردعية، إلى فضاءات ورحاب تعج بأنواع من التوسعة والرغد والرفاء الذي يمرر تحت رفع شعار الإصلاح وإعادة الإدماج، ليستفيد من أنفالها من قتل وسفك ودمّر وقطع واغتصب وسرق و… تُصرف على إقامته الأموال الطائلة ليعيش في رحاب زنزانته الحضارية يمشي في بياض ويأكل في بياض وينام في بياض وينظر في بياض.. تقتحم عليه خلوته النعم المحصية في كد وتعب، ليعيش في جلوة وطيب عيش ربما تمناه حاملو الشواهد العليا، بل وتمنى ما يحظى به من رعاية أدنى سقوفها الإطعام من جوع والأمن من خوف والتطبيب من سقم، من يعيشون وراء أبواب منازلهم الحديدية من بسطاء الأوطان ممن يعيشون الضيق والقدرة على مستوى الطعام والأمان والتطبيب، وربما أتت عليهم الساعة التي يتمنون فيها الالتحاق بسجون الأوطان ونيل عين الحظوة التي يتمتع بها المجرمون إن سلمت عبارة التمني وتجاوزت قنطرة المجاز والاستعارة. وكيف لا تسلم العبارة وتستقيم كواقع ليس له دافع، ونحن نرى كيف أن خريجي السجون والإصلاحيات قد أعادوا الكرة والكرات فبغوا بالمدية والسيف والساطور، وباتوا يهددون السلم والأمن الاجتماعي، ولعلها محادة لم ينفرد بشذوذها الوطن بل اطردت قواعد بغيها وصور تجاوزاتها سائر الأمصار والبلدان الإسلامية مع استثناء لا يرقى للذكر إعمالا لقاعدة أن النادر لا حكم له، وقد رأينا بل اكتشفنا كيف أن بعض الأنظمة الاستبدادية كانت توظف وتستثمر وتراهن على آليتي التشبيح والبلطجة. ويبقى أن نقول أن تحميل أجهزة الأمن مسؤولية مواجهة هذا السيل العرم من الجرائم والمصائب والرزايا لوحدها، وفي انفكاك وحل من واجب إعادة النظر في كثير من الكيانات التي فقدت وهجها وفلسفة تأسيسها الأول، بدءا بإعادة الهبة والقداسة الردعية والزجرية للمؤسسات الموكول لها شأن العقوبة والتأديب والتعزير، وعطفا بالوقوف في وجه العاديات والوافدات الصقيعية الغريبة عن هويتنا وديننا وأعرافنا وجنسنا وتاريخنا، كما الوقوف في وجه هذا الضجيج المحلي المتنامي في تحامل ومأجورية وعمالة واضحة جلية من طرف من اختار أن يقف إلى جانب الجلاد على حساب الضحية، والقاتل على حساب المقتول، والغاصب على حساب المغتصب، ضدا في إرادة الشعوب المنيبة في إخبات لربها، والراغبة في شوق وحاجة إلى تطبيق وتحكيم الشريعة في رقاب الخلق وتصرفاتهم.. شريعة الأرحم والأحكم والأعدل جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته. مع واجب التنبيه في الأخير حتى لا نحمِّل أحدا ما لا طاقة لنا وله به -والإنصاف كما يقال عزيز-إلى أن الشأن والكلمة في هذا الخصوص هي ليست لنا بالكامل المطلق، كما أن عبء إقرار الأمن وتحقيق الأمان في أوطاننا على امتداد جغرافيتها، لا تقع مسؤوليتها على عاتق المؤسسات الوطنية المختصة على اختلاف درجاتها، ما لم نعمل جميعا من أجل إعادة السيادة الكاملة والمتحررة للقرار المحلي وتحقيق السمو للخصوصية المحلية، وذلك في حل وتحلل من التزامات الغرب ومواثيقه الظالمة الغاشمة العابثة بمصاير الشعوب المستضعفة، ذلك العبث الذي لم تعشه ولم تشهده الإنسانية حتى في ظلامية القرون الوسطى ولا في شر وجاهلية ما قبل البعثة النبوية الشريفة. وما لم نُسكت هذه الأصوات النشاز التي تصطف في صفاقة وفي غير تجرد ولا سوية إلى جانب مستعمر الأمس مستصرخة بمشاريعه، وهزيمتها الهزيمة الفكرية التي تجعلها تنسلخ عن مهمتها المقدسة، مهمة الإنكار والاستدراك المستمر الدائم على إسلامنا، وممارسة الطعن والتجريح القاسي في أصول وفروع الشريعة الغراء، وإرجاعها في مغلوبية لتعلن توبتها في قطيعة مع كبيرة الانغماس الكامل في إتراف الإفادة الغربية، والانسراب مع نزواتها البهيمية، التي اكتوت بنارها هناك الشعوب الغربية، بينما هي اليوم تعيش انقلابا وتمردا على هذه المفاهيم الحقوقية التي اكتشفت بعد حين زيفها وحقيقة أنها بريق لا يخرج عن كونه من المغريات التي ظاهرها الرحمة وباطن واقعها العذاب والعتمة.