الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: بلغني فيديو للدكتور الفايد تضمن كلاما أَلَحَّ عليَّ بعض الكرام أن أعلق عليه، من باب النصيحة الأخوية للدكتور الفايد خاصة، وللمسلمين عامة، ولولا أن الفيديو قد شاع وذاع حتى بلغ مشاهدوه الآلاف لكان الأنسب تقديم النصيحة للدكتور على الانفراد، أَمَا وقد صار الخطأ متعديا لعموم الناس، فلم يكن بُدٌّ من أن تكون النصيحة علانية، شاملة للخاص والعام، وذلك حتى لا يضل بسبب كلام الدكتور الفايد كثير من الناس، فيتحمل هو أوزارهم جميعا… – قال الدكتور الفايد مستنكرا: "هل تريد من الأمة أن تعيش بتفسير ابن كثير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟! هل هذا معقول؟! هل هذا كلام؟!" إلى أن قال: "…يريدون أن يبقى الناس هكذا، زمن القرن الأول، لم تكن طائرة، ولا سيارة ولا قطار، ولا ساتيلايت…". – أقول -وبالله التوفيق-: ينبغي أن نعلم أن القرآن الكريم ينقسم إلى قسمين: أخبار، وأحكام، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدۡقاً وَعَدۡلاً﴾ (الأنعام115)، قال أهل العلم: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام… فالقرآن أخبار صادقة، وأحكام عادلة. ويدخل في قسم الأخبار: – العقيدة: كالأسماء والصفات، وبقية أركان الإيمان… – والقصص: كقصص الأنبياء، وأخبار الأمم السابقة… ويدخل في قسم الأحكام: العبادات والمعاملات والأخلاق… أما قسم الأخبار، فمثل آية الكرسي مثلا، فإنها تضمنت جُمْلَةً من أسماء الله وصفاته، فلا أدري ما الذي سيزيده اختراع الطائرة على القرون الأولى، في تفسير قوله تعالى: ﴿0للَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ 0لۡحَيُّ 0لۡقَيُّومُ﴾ مثلا، أو تفسير: ﴿لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوۡمٌ﴾ مثلا؟! ومن جملة الأخبار قصة أبينا آدم مثلا ، فلا أدري ما الذي سيزيده اختراع السيارة والقطار على القرون الأولى في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ 0سۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ ﴾ الآيات؟! وأما قسم الأحكام فمثل آية الوضوء مثلا، فلا أدري ما الذي سيزيده الساتيلايت على فرائض الوضوء في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم…" الآية… وإن كان يقصد الدكتور الآيات التي فيها إشارات لبعض العلوم كعلم الطب والفلك… فينبغي أن نعلم أن القرآن الكريم هو بالأساس كتاب هداية، كما قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ 0لۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَ فِيهِ هُدًى لِّلۡمُتَّقِينَ﴾، أنزله الله لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: ﴿ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ 0لنَّاسَ مِنَ 0لظُّلُمَٰتِ إِلَى 0لنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ 0لۡعَزِيزِ 0لۡحَمِيدِ ﴾… وليس القرآن كتاب فيزياء ولا رياضيات، ولا كتابا متخصصا في علم الطب أو علم التغذية والبكتيريا، وإنما وردت في القرآن آيات معدودات فيها إشارات إلى بعض الحقائق التي لها تعلق ببعض هذه العلوم، وهي على قِلَّتِها ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود منها خدمة الغاية العظمى من تنزيل القرآن، والتي هي هداية الناس إلى توحيد الله وطاعته… فما نسبة هذه الآيات التي من أجلها يريد الدكتور أن يُزَهِّد الناس في تفسير ابن كثير، وتفسير القرون الأولى؟! ثم هل ما ورد عن القرون الأولى في تفسير تلك الآيات يتعارض مع ما جاءت به هذه العلوم الحديثة؟! أم إنها جاءت بتفاصيل تؤكد عموم كلام الأولين في تفسير القرآن… ولنأخذ مثالا من تفسير ابن كثير له تعلق بعلم الطب والتغذية، وهو قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَ0شۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ 0لۡمُسۡرِفِينَ﴾ (الأعراف 31). قال ابن كثير رحمه الله (3/406) في تفسير هذه الآية: "قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خَصْلَتَانِ: سرَف ومَخِيلة". * قلت: هذا جزء من تفسير ابن كثير لهذه الآية، نقل فيه كلام السلف، وكلام ابن عباس من أهل القرن الأول. ولست أدري ما الذي لا يعجب الدكتور الفايد في مثل هذا الكلام، الذي يمكن أن يدعمه الطب الحديث بذكر بعض التفاصيل المتعلقة بالأمراض الناجمة عن الإسراف في الطعام، ولن يَعْدُوَ أن يكون كلامُ الطب الحديث مزيدَ توضيح وتأكيد لما قاله أهل القرن الأول، فما الداعي لتزهيد الناس في تفاسير القرون الأولى؟! وهل من العدل أن تُهدر علوم الأولين؟! وهل من الإنصاف أن يُزَهَّدَ فيها الناسُ بدعوى أنهم لم تكن عندهم سيارة ولا طيارة ولا ساتيلايت؟! وهل هناك أمة عاقلة تُهَوِّنُ من شأن تراثها وتزدريه، وتريد أن تحطمه، وأن تفصل الناس عنه؟! أم إن الصواب أن نستفيد من تراث أمتنا، وأن نجعله أصلا نبني عليه علومنا ومعارفنا، فنواصل من حيث وقفوا، ونشيد على ما شيدوا، وأن لا نسعى لهدم بنيانهم لنبني على حطامه -بزعمنا- مَجْداً لنا؟! – يقول الدكتور الفايد: "…هذا يبين عجز العلماء؛ ولذلك قلت: ليس هناك علماء، العجز التام… ولماذا تريدني أن أعود إلى ابن كثير؟! ولماذا تريدني أن أعود إلى تفسير القرن الأول… لماذا؟! " – قلت: هذا كلام خطير يؤدي إلى تزهيد الأمة في علمائها، ويُفْضي إلى فصل عوام الناس عن العلماء المعاصرين، بعد فصلهم عن ابن كثير، وعن القرون الأولى… يا دكتور! هدانا الله وإياك!: تزهيدك في العلماء والطعن في مصداقيتهم يؤدي إلى صد الناس عن العلماء والدعاة إلى الله، وإلى تركهم فريسة سهلة لشياطين الإنس والجن… – والعجيب في كلام الدكتور أنه يقول ويكرر : "ليس هناك علماء" ثم يقول بعد ذلك:".. ثم نحن ليس لدينا حظ، يعني القرون الثلاثة فقط، أما نحن فليس لدينا حظ…والله غريب…" – قلت: الغريب والعجيب هو كلام الدكتور، يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على معنى لم يقل به أحد، ثم يستدرك عليه، ومن قال إن كلام النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن العلم والعلماء محصورون في القرون الأولى؟! هل قال بهذا عالم أو حتى عاقل؟! الذي يقوله العلماء والعقلاء والمفسرون عبر القرون هو عدم إهدار كلام القرون الأولى، بل يسوقون كلامهم ليستنيروا به في فهمهم وتفسيرهم لكتاب ربهم، ثم يزيدون على تفسير الأولين ما يزيده توضيحا، وما يقربه لأهل زمانهم، مما يفتح الله به عليهم، فإن القرآن لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى أسراره… ثم إنك تتناقض تناقضا عجيبا في أقل من دقيقة، تقول: "ليس هناك علماء"، ثم تقول بالدارجة: "وحنا ليس لنا حظ؟! الله غادي يظلمنا ما يكونش فينا علماء، ما يكونش فينا فقهاء، ما يكونش فينا ناس يفسروا القرآن؟!.. تصف الواقع بقولك: "ليس هناك علماء" ثم تزعم أن الله سيكون ظالما لنا إن لم يجعل فينا علماء؟! لا تقصد بذلك –طبعا- اتهام الله بالظلم، وإنما تقصد أنه لا بد أن يكون فينا علماء ومفسرون؛ لأنه يلزم من خلاف ذلك اتهام الله بالظلم..!!! هذا التناقض يدل على أحد أمرين: – إما أنك تقصد نفسك بقولك: "ونحن ليس لنا حظ؟!"، وأنك بقية العلماء في هذا الزمان، بعد أن حكمت بانقراض العلماء، – وإما أنك تريد أن يتكلم في القرآن الجهال بغير علم، لأن العلماء بزعمك قد انقرضوا… – وأما قوله: " ثم نحن ليس لدينا حظ، يعني القرون الثلاثة فقط، أما نحن فليس لدينا حظ" – فالجواب عنه أن يقال: فضل الله ليس منحصرا في القرون الأولى، ولكن الله قد فضل أهل تلك القرون على من جاء بعدهم، و﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ 0للَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَ0للَّهُ ذُو 0لۡفَضۡلِ 0لۡعَظِيمِ﴾، وكما قالت الرسل لأقوامهم: ﴿إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ وَلَٰكِنَّ 0للَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِ﴾. فلا يمكن لمثلي أو مثل الدكتور الفايد أن يدرك فضل الصحابة الكرام، ولا فضل القرون المفضلة، لأسباب ظاهرة، وإذا كان ذلك يحتاج إلى بيان بينته… ولا يمكن لمثلي أو مثل الدكتور الفايد أن يفهم القرآن الكريم فهما صحيحا من غير استنارة بفهوم الصحابة وأهل القرون المفضلة؟ّ! وأما تفسير القرآن بالجهل والهوى فهذا يستطيعه كُلُّ أَحَد. * وفي الختام: أنصح الدكتور الفايد بالتواضع، واجتناب تلك النبرة الاستعلائية، التي يتحدث بها، والتي تدل على اعتداد كبييييير بالنفس، وتعظيم للذات، مما زهد فيه كثيرا من محبيه السابقين، ومما أَوْهَمَ السُّدَّج من الناس أنه لا يوجد في الأمة علماء، ولا أطباء، ولا دكاترة ناصحون إلا الدكتور محمد الفايد، وأذكره بقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، أَوِ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (صحيح الأدب المفرد427). فالتواضعَ التواضعَ… يرحمك الله يا دكتور… لِيَرْفَعَكَ الله. وإني لأرجو أن تكون من الذين يقبلون النصيحة، ومن الذين يعترفون بالخطإ، ولا يصرون على الباطل؛ فإن الاعتراف بالخطإ يرفع صاحبه، ولا يضعه، بل يزيده عزا ومكانة عند الله، وعند العقلاء من الناس.