تُسائل إشكالية اللغة الفرنسية في المغرب الدولة، حكومة ومؤسسات وإدارة عامة أو عمومية، حول الأسباب الحقيقية التي تجعلها تمتنع عن حل هذه القضية، التي باتت تمس جوهر حقوق الإنسان، بل وتصر على التعامل معها بنفس أساليب الماضي في مظهر بائسٍ لم يعد يواكب تطور الزمن وتغير المجتمع وذهنيته، فاللغة الفرنسية تشكل عائقا يعرقل تنفيذ القوانين والتشريعات المستحدثة، ويمكن تلخيص هذه المساءلة في المبادئ الأساسية التالية: 1.. مدى انسجام الشعارات الرسمية حول احترام مبدأ دولة القانون والمؤسسات. 2.. مدى أهمية المواطن المغربي؛ فقيمة لغة المواطن في بلده من قيمة المواطن نفسه، وإقصاء وتهميش لغته ينعكس بالمثل عليه. 3.. مدى احترام الحكومة ومؤسسات الدولة للقضاء وأحكامه والالتزام بها. 4.. مدى شفافية الحكومة والإدارة في تصحيح الاختالات التي تعد انتهاكا للقانون وللمقتضيات الوطنية. إن الحديث عن انسجام الشعارات المرفوعة من لدُن الحكومة، يضعنا أمام سؤال كبير حول دوافع إصرار الإدارة وبعض الوزارات على مخاطبة المغاربة بلغة أجنبية، لا يعترف بها دستورهم، سواء عبر الوثائق الورقية أو الرقمية أوالمواقع الإلكترونية التابعة لها. فرغم الانتقادات والشكاوى الموجهة للحكومة، غير أن هذه الأخيرة تصر على الدوس على التزاماتها الخاصة بمعالجة شكاوى المواطنين وملاحظات الهيئات الأهلية التي كفلها الدستور كحقوق غير قابلة للمساس، فنحن في المنظمة العربية للتعريب والتواصل رفعنا خلال عامين أكثر من ثلاثة عشر شكوى إلى وزارة الاقتصاد لوحدها، وأقل ما يمكن أن يقال عن ردودها أنها لا تليق بوزارة أوكلت لها مهمة إصلاح الادارة وإصدار التشريعات. إن قيمة المواطن في أي بلد من القيمة التي توليها دولته للغته الوطنية، ولنا في جميع البلدان المتقدمة خير مثال في هذا الشأن، ذلك أن المواطن المغربي، ورغم الشعارات الجوفاء التي ترفعها الحكومة، بل ورغم التشريعات والدوريات الحكومية المتعلقة بإلزامية اللغة الرسمية، ورغم المكتسبات التي تتغنى بها الحكومة، لا يزال مقصي محروممن حقه في عدد كبير من الخدمات بسبب العائق الذي تشكله اللغة الفرنسية الاستعمارية. فالحديث هنا عن لغة أجنبية غريبة عن المجتمع صعبة الاكتساب، وهذا أمر طبيعي طالما أنه لا يربطها بالهوية الحضارية لهذا المجتمع أي رابط، سوى أنها أريد لها أن تحافظ على شكلها الذي دخلت به أول مرة إبان فترة الاحتلال كآلية لطمس هوية هذا المجتمع وإخضاعه ذهنيا ومعنويا لفرنسا، وليس مجرد لغة أجنبية تدرس داخل المدرسة وتكتسب لغاية ملموسة وهي التواصل مع فرنسا ومحيطها الثقافي، إذ خطط مفكرو الحملة الاستعمارية ودبروا الخطط والنظريات لمغرب ما بعد الاستعمار، وذلك حتى تظل هذه اللغة مفروضة على المغاربة في حياتهم اليومية خارج النطاق الطبيعي لأي لغة أجنبية في العالم، وبهذا ضمن المستعمر السابق، أداة اختراق لفرض هيمنته على المغرب اقتصادا وسياسة، وإبقاءه سوقا مفتوحا لسلعه منغلقا على العالم، ذلك أن مجال اللغة الفرنسية لا يتعدى فرنسا إلى دول معظمها جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا تصنف كأكثر بلدان العالم تخلفا. فالنشأة الحديثة للفرنكفونية كتوجه فكري استعماري، والتي لم تظهر إلا في الربع الأول من القرن العشرين، وكمنظمة إقليمية محتوية سياسية واقتصادية وثقافية، والتي تأسست مباشرة بعد انتهاء الاستعمار الفرنسي بأفريقيا، جميعها أدلة تؤكد الطابع والهدف الاستعماري من وراء هذه السياسة اللغوية، الهادف لعرقلة بناء دول مستقلة استقلالا تاما وذات سيادة مطلقة على قراراتها وتوجهاتها، ولتسهيل إخضاعها، تحت راية هوية موحدة وفقيرة من كل عناصر الهوية الطبيعية، هي الفرنكفونية، التي هي نتاج للحضارة الفرنسية وثقافتها، من خلال باب اللغة التي تحولت لبديل للحماية الاستعمارية، وهناك الكثير من الأدلة على الغاية الحقيقية من تعزيز فرنسا لحضور لغتها في مستعمراتها السابقة، وتوريط هذه الدول في اتفاقيات وارتباطات داخل نادي المستعمرات الفرنسية السابقة والحالية أو "المنظمة الاقليمية للفرنكفونية" وهي كلها تثبت خداع وتضليل وأكاذيب، بل وحقارة الساسة الفرنسيين، عندما يدعون أن دعم الفرنكفونية هو لغايات سامية ونبيلة وإنسانية. ففي دوريته الشهيرة، بتاريخ 16 يونيو 1921م، إلى ضباط المخابرات ورؤساء المناطق العسكرية والمدنية المغربية، يقول الجنرال هوبير ليوطي المندوب العام المقيم: "ليس علينا أن نعلِّم العربية لمجموعات من الناس استغنوا عنها دائماً (في إشارة إلى البربر)، إن العربية عنصر أسلمة لكونها لغة القرآن؛ أما مصلحتنا فتفرض علينا أن نجعل البربر يتطورون خارج إطار الإسلام، ومن الوجهة اللسانية علينا أن ننزع إلى المرور مباشرة من البربرية إلى الفرنسية، ولهذا نحتاج إلى عارفين بالبربرية، ويتوجب على ضباط مخابراتنا أن ينكبُّوا بعزم على دراسة اللهجات البربرية، كما يلزم خلق مدارس فرنكو-بربرية حيث نعلم الفرنسية للبربر الشباب". وبخصوص السياسة اللغوية في الجزائر، يقول «دي روفيكو»: «إني أنظر إلى نشر تعليمنا ولغتنا كأنجع وسيلةٍ لجعل سيطرتنا في هذا القطر تتقدم في إحلال الفرنسية تدريجياً محل العربية؛ فالفرنسية تقدر على الانتشار بين السكان خصوصاً إذا أقبل الجيل الجديد على مدارسنا أفواجاً أفواجاً». وبشأن المغرب يقول (بول مارتي) في كتابه: (مغرب الغد): "إن كل تعليم للعربية، وكل تدخل من الفقيه، وكل وجود إسلامي، سوف يتم إبعاده بكل قوة؛ وبذلك نجذب إلينا الأطفال الشلوح (البربر) عن طريق مدرستنا وحدها، ونبعد، متعمدين، كل مرحلة من مراحل نشر الإسلام". الحكومة المغربية، أصدرت قانونا يمكن المغاربة من حق الولوج إلى المعلومات، ومؤخراً قانوناً لتبسيط الإجراءات الإدارية، غير أن جميع هذه الإجراءات لا يستفيد منها المغاربة، إلا تلك القلة المحظوظة التي كانت دائما محط عناية. فالمغرب الحديث بني على نسق طبقي، حيث معظم الطبقة المتمكنة من اللغة الفرنسية تندرج ضمن الفئة التي تتوفر على القدرة المادية التي تساعدها على تعلم اللغة الفرنسية بطرق فعالة ودقيقة في المدارس والمراكز الثقافية الفرنسية أو في المؤسسات التعليمية المفرنسة المكلفة ماديا. وهكذا، فنحن أمام استمرارية لعملية صياغة ذات المجتمع الطبقي وفق نمط أكثر حداثة، وهو المجتمع الذي أرادت فرنسا أن تبنيه على أنقاذ المجتمع التقليدي القائم على الفلاحين والقبيلة وزعاماتها في الأرياف، وعلى العمال والتجار والبرجوازية البسيطة المتعاطفة المتضامنة في المدن، وُظّفت فيه اللغة الفرنسية كوسيلة سياسية لتقسيم البنية الشعبية إلى طبقتين ضمن منظومة طبقية عنصرية، تكون فيها سياسات وقرارات البلاد خاضة لطبقة رأسمالية مفرنسة غربية التوجه، ومن خلال منظومة تعليمية، غير وطنية، طبقية، تتدخل فرنسا في تحديد مسارها وعلى مدى مراحل تطورها، أخذت هذه اللغة شكل أداة للاقصاء الممنهج للشعب المغربي وحرمانه من أبسط حقوقه، والتي تبدأ بحقه في الشعور الوجداني العام بالانتماء الفعلي لهذا الوطن، والتصديق بأنه بالفعل مواطن يملك القرار والسيادة وتتوفر له الشروط الطبيعية للمواطنة. *رئيس مجلس ادارة المنظمة العربية للتعريب والتواصل