كنت نشرت هذه الصورة للعلامة الدكتور مصطفى بنحمزة، مرفوقة بخبر إهدائه لمكتبة كلية الشريعة بفاس كتبا قيمتها مائة ألف درهم مكافأة منه للكلية التي درس فيها ولها عليه فضل كبير كما قال هو. ولكن بعض الناس تركوا جوهر الخبر وراحوا يسألون عن حكم الرسم وحكم تعليق الصور، وأن العالم فلان الفلاني قد حرم كذا وكذا.. مع أن المنشور لا يوجد فيه رسم ولا يوجد فيه ذكر لحكم تعليق الصور، ولا توجد فيه إشارة لأفضلية عالم على عالم ولا مقارنة بين العلماء. إنني أقدر غيرة هؤلاء الشباب الذين يثيرون مثل هذه الأسئلة، وأعلم دافعهم وصدقهم.. فقد أتى علي زمان كنت أفكر فيه مثل تفكيرهم، وكنا نبخس علماء المغرب فضلهم ومكانتهم، لأننا بكل بساطة ما كنا نعرفهم، وإذا عرفناهم فلا نقرأ لهم، إذ كيف نقرأ لمن نعتقد أنهم ليسوا على شيء من العلم، ويوجد في اعتقادنا من هم أفضل منهم علما ومواقف. ثم شاء الله بفضله وكرمه أن يرحم جهلنا، فأخذنا نقرأ لعلماء المغرب ونجلس بين أيديهم ونسمع لهم، فاكتشفنا عظيم ما كنا فيه من جهل بحالنا وحال علمائنا، وما كنا نقع فيه من ظلم لأنفسنا ولعلمائنا.. فنسأل الله العفو والعافية. وإني أطلب من هؤلاء الشباب أن يقرأوا لعلماء المغرب، ويسمعوا منهم ويخالطوهم، وستتغير نظرتهم ويبدلون أحكامهم السابقة بخصوص هؤلاء العلماء. وأنا أذكر لكم قصة وقعت لي مع كتاب (النبوغ المغربي) للعلامة عبد الله كنون رحمه الله. فقد كنت أعتقد أن هذا الشخص لا يعدو أن يكون مثلنا، وربما نحن أفضل منه لأننا نحمل عقيدة صحيحة ومنهجا سليما.. ثم شاء الله يوما أن استدعيت للحراسة في امتحانات البكالوريا في أول موسم لي في العمل بسلك التعليم بإقليم الدريوش، ووجدت نفسي في لائحة الانتظار، وكنا يومها نجلس بمكتبة المؤسسة طيلة حصة الامتحان ولا يسمح لنا بمغادرتها تحسبا لأي طارئ، فاهتبلت الفرصة ورحت أفتش بين عناوين الكتب المعدودة عن كتاب أمضي به ساعات الانتظار، فما وجدت شيئا يغوي بالقراءة؛ فقلت إذا لا مفر من أن أقلب صفحات هذا (النبوغ).. فوالله ما كدت أنهي مقدمة الكتاب حتى صدمت من هول ما قرأت، وأخذت الكتاب معي للبيت وعكفت على قراءته كلمة كلمة وجملة جملة، ويشهد الله كم احتقرت نفسي حينها، إذ كيف أحرم نفسي من هذا الإبداع الأدبي والتميز العلمي وهو مطبوع متداول، وأنا الحريص كل الحرص على اقتناء وقراءة كتيبات صغيرة الحجم وقليلة النفع، كيف استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وكيف غفلنا عن علماء بمنزلة العلامة عبد الله كنون؟ لماذا لم يدرس لنا هذا الكتاب في مراحلنا التعليمية؟ ورحم الله أمير البيان الأمير شكيب أرسلان إذ قال: "إن من لم يقرأ كتاب (النبوغ المغربي في الأدب العربي) فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي".. وإنه لعار كبير وعيب عظيم أن لا يطلع المرء على تاريخ بلده العلمي والأدبي والسياسي… وأن يجهل علماء بلده ومكانتهم العلمية، ودورهم الكبير في التربية والتعليم والدعوة والجهاد. لقد كان موضوع محاضرة الدكتور مصطفى بنحمزة بكلية الشريعة بفاس عن مكانة علماء القرويين، ونبه إلى التغييب الذي طال هؤلاء العلماء، ودعا طلبة كلية الشريعة إلى البحث عن هؤلاء العلماء وقراءة سيرهم ونشر كتبهم، وأنا أذكر لكم طائفة من هؤلاء العلماء الذين ذكرهم الدكتور بنحمزة: _ أبو المحاسن الفاسي. _ أبو شعيب الدكالي وتلميذه محمد العتابي. _ محمد بن إبراهيم الكتاني. _ محمد القري. _ محمد المختار السوسي. _ عبد الله كنون. _ المنوني. _ المكي الناصري. وقد ذكر الدكتور مصطفى بنحمزة بعض مواقفهم وكتاباتهم وذكرياتهم.. فمن أراد الاستزادة فعليه بالمحاضرة. كما ختم الدكتور محاضرته بالدعوة إلى جمع جميع كتابات ومؤلفات علماء القرويين ونشرها ليستفيد منها الجيل الصاعد، وأنه مستعد للتعاون ماديا مع رئاسة جامعة سيدي محمد بن عبد الله وعمادة كلية الشريعة بفاس في هذا الموضوع، كما دعا طلبة الكلية إلى تخصيص جزء من بحوثهم الجامعية في هذا الباب. فمن ينصف علماء المغرب، ومن يظهر فضلهم ويبرز مكانتهم ويحيي أيامهم إن لم يكن طلبة كلية الشريعة وطلبة العلم الشرعي بهذا البلد؟