أكد الدكتور إدريس لكريني، مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، أن "البحث العلمي البنّاء والإبداع الخلاق لا ينتعش إلا في مناخ تطبعه الحرية والديمقراطية"، مشيرا إلى أن "أجواء الاستبداد في المنطقة العربية أرخت بظلالها القاتمة على أداء منظومتي التعليم والبحث العلمي". وأفاد لكريني، في مقال توصلت به هسبريس، أن "الأوضاع المزرية التي يعيشها البحث العلمي في المنطقة لا يعني غياب كفاءات بحثية وعلمية، بقدر ما تعود أساسا إلى تهميش منظومتي التعليم والبحث العلمي، وتراجع مستوى الحرية الأكاديمية، والحجر والتضييق على هذه الكفاءات وعطاءاتها". وفيما يلي نص مقال إدريس لكريني كما توصلت به هسبريس: البحث العلمي وتحولات الحراك أضحى حجم الاستثمار في قطاعي التعليم والبحث العلمي والاهتمام بهما، مؤشرا أساسيا لقياس مستويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية.. بل إن الدول المالكة للعلم والمعرفة أصبحت هي المتحكمة في شؤون العالم المعاصر. وإذا كانت العديد من دول العالم قد راهنت على البحث العلمي في تحقيق التنمية؛ فإن هناك مجموعة من الإكراهات تقف حجر عثرة أمام بلورة تنمية حقيقية في عدد من الأقطار العربية؛ ويظل مدخل البحث العلمي خيارا استراتيجيا رابحا؛ لتجاوز مختلف هذه الصعوبات والاختلالات المطروحة في هذا الشأن. ومن منطلق أن مساهمة البحث العلمي في تطور المجتمعات وتحسين الإنتاج في شتى المجالات؛ لن تتأتّى إلا من خلال وجود هامش مقبول من الحرية الأكاديمية المحفزة على الإبداع والاجتهاد والممارسة الديمقراطية؛ فإن المناخ السياسي في الكثير الدول العربية أسهم بصورة واضحة في تدني مستوى البحث العلمي وتراجع صدقيته؛ فقد حرصت كثير من الأنظمة في المنطقة على بقاء الأوضاع السياسية على حالها؛ ورفضت أي تغيير تساهم فيه النخب المثقفة والأكاديمية؛ الأمر الذي كانت له انعكاسات وخيمة على مستوى تضييق هامش الحرية الفكرية. وقد أعادت أجواء الحراك والاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مختلف الدول العربية الأمل للشعوب نحو غد أفضل، وإذا كانت هذه التحولات تفرض اعتماد إصلاحات جذرية تروم تحقيق الديمقراطية والتنمية داخلياً، فإنها تحيل أيضاً إلى أن واقعاً عربياً جديداً يمكن أن يتشكل إذا ما تم استثمار هذه التحولات والفرص للخروج من المأزق الذي تعيشه مختلف هذه الأقطار، على مستوى فتح آفاق واعدة أمام البحث العلمي ومواجهة تحديات العولمة، واستثمار الإمكانات البشرية والطبيعية والاقتصادية المتاحة لبناء نظام إقليمي متطور ووازن، كفيل بإيجاد موقع بين الأمم في عالم متغير.. لا ينتعش البحث العلمي البنّاء والإبداع الخلاق إلا في مناخ تطبعه الحرية والديمقراطية؛ وإذا كانت أجواء الاستبداد في المنطقة العربية قد أرخت بظلالها القاتمة على أداء منظومتي التعليم والبحث العلمي؛ ذلك أن المركزية المفرطة في تدبير الشؤون العامة انعكست بشكل كبير على أدائهما داخل المجتمع وهمشت إسهاماتهما المفترضة في تنوير المجتمع وتحقيق التنمية؛ عبر سياسات وتشريعات تهمّش منظومة التعليم بشكل عام وتكرّس علاقة الشكّ والحذر بين صانع القرار والباحث، فإن ما يجري في المنطقة من تحولات اجتماعية وسياسية يسائل بحدّة واقع البحث العلمي؛ ويطرح أهمية استحضاره وبلورة جهود سياسية وتشريعية وتقنية تدعمه؛ بما يمتّن ويقوّي مسار التحوّل داخل البلدان التي شهدت مظاهر متباينة من الحراك. شكلت مختلف الجامعات في مناطق مختلفة من العالم مصدرا لكثير من العطاءات الفكرية والفلسفية التي كان لها انعكاس كبير على تطور الإنسانية ونهضتها وتنميتها وعلى مسار حركات التحرّر العالمية. إن ربح رهان تنشئة وتكوين مواطن يمارس التفكير بحرية ويشعر بالانتماء والمواطنة؛ وقادر على طرح الأسئلة وتوجيه النقد البناء؛ يتوقف في جزء كبير منه على دعم المعرفة والتعليم؛ ذلك أن مهام الباحث الأكاديمي هي رسالة نبيلة تسعى إلى بلورة حلول ناجعة لمعضلات ومشاكل اجتماعية مختلفة؛ أكثر منها ممارسة لوظيفة تقنية.. يظلّ البحث العلمي دائما بحاجة إلى بيئة سليمة تدعم جهوده في إنتاج المعرفة؛ وتطوير الأبحاث؛ وتجاوز القرارات العشوائية؛ كما يظلّ بحاجة ماسّة إلى رصد إمكانيات مادية تدعمه؛ علاوة على وجود تشريعات تضمن حقوق الباحثين وتحفظ كرامتهم. وتقضي الحرية الأكاديمية بتحرّر الباحث من كل الشروط والضغوطات المختلفة التي تقيّد أعماله البحثية ونتائجها وتشوّش على موضوعيته في هذا الشأن؛ وهي تقوم على حرية التدريس والبحث؛ وحق الباحث في ممارسة التفكير والتحليل والنقد والقيام بمختلف المبادرات المرتبطة بهذا الشأن؛ بعيدا عن أي وصاية أو ضغط. برزت الحرية الأكاديمية كرد فعل على الهيمنة التي كانت تفرضها الكنيسة خلال القرون الوسطى على الحياة العامة والحجر الذي كانت تمارسه ضدّ الفن والعلم والاجتهاد في مختلف المجالات.. وهي تستمد مقوماتها ومشروعيتها من الدساتير والتشريعات الداخلية؛ ومن مختلف المواثيق والقوانين الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان في علاقتها بالحق في التعليم والحق في حرية الفكر والرأي والتعبير. ونجد في هذا السياق مجموعة من المواثيق والاتفاقيات الدولية التي أكدت على ضرورة وأهمية احترام هذا الحقّ الحيوي؛ كسبيل لإنتاج المعرفة وترسيخها في المجتمع من قبيل المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تؤكّد على أن التربية ينبغي أن تهدف "إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية"، والمادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تؤكد على أن الدول الأطراف "تتعهد في هذا العهد باحترام الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي"؛ علاوة عن توصيات أشغال الدورة 29 من الندوة العامة لليونسكو المنعقدة سنة 1997 التي أكدت على الحرّية الأكاديمية. لم تقتصر تبعات الاستبداد في المنطقة على المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. بل طالت أيضا المجال الفكري والعلمي؛ من منطلق الرغبة في المحافظة على الأوضاع كما هي؛ وصدّ أي تغيير ممكن؛ الأمر الذي خلّف كلفة وخسائر طالت الدولة والمجتمع معا؛ نتيجة تورط النخب الحاكمة في كثير من القرارات الانفرادية والعشوائية التي لم تكن مؤطرة علميا. ووعيا منها بدور الفكر والتعليم في تعبئة وتنوير المجتمع وترسيخ القيم وتجاوز المفاهيم الجامدة؛ مارست الكثير من الأنظمة في عدد من الأقطار العربية سبلا مختلفة للتضييق على عمل الباحثين؛ تراوحت بين الزجر تارة والإغراء تارة أخرى. وكان من الطبيعي أن تنشأ علاقة متوتّرة بين حاكم همه الوحيد هو الاستمرار في الحكم وضمان استقرار الأوضاع من جهة؛ وباحث يسعى للمعرفة والموضوعية وتنوير المجتمع.. وهو ما أدى بكثير من الباحثين والعلماء؛ إلى ركوب غمار الهجرة نحو الغرب. ومن مظاهر التضييق على حرية الفكر في المنطقة؛ اعتماد تشريعات قانونية مقيدة للنشر والفكر النقدي؛ وتزايد التعقيدات الإدارية المرتبطة بالنشر والتوزيع وإجراء الأبحاث الميدانية؛ إضافة إلى قلة الدعم المادي والتقني المخصصين لمجالات التعليم البحث العلمي؛ وعدم الاهتمام بمخرجات مؤسسات البحث العلمي وما تزخر به الأطروحات والرسائل الجامعية التي تظل حبيسة الرفوف في غالب الأحيان؛ ثم فرض قيود وتدابير صارمة على استيراد بعض الكتب الأجنبية أو طرحها في المعارض..؛ وتكريس منظومة تعليمية متجاوزة من حيث مخرجاتها ومناهجها.. ومواجهة عدد من الباحثين والمفكرين بالتهميش والاعتداء البدني والسجن أحيانا وتهم الزندقة والاغتيال أحيانا أخرى.. ونتيجة لهذه الأوضاع مجتمعة؛ وعوض أن تسهم الجامعات في حلّ مختلف المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل المجتمع أضحت نفسها جزءا من هذه المشاكل.. وهكذا أضحت الجامعات في كثير من هذه الدول آلية لتكريس السياسات والخطابات الرسمية؛ بدل الانفتاح على قضايا المجتمع الحقيقية وعلى المتغيرات والتحديات التي يفرضها المحيط الدولي المتسارع، بعدما نجحت الكثير من الأنظمة في المنطقة إلى حد كبير في نقل مظاهر الاستبداد والانغلاق والجمود إلى مختلف المؤسسات ومنها الجامعات مما أثر على استقلاليتها ومصداقيتها. ولأن الطبيعة لا تحتمل الفراغ، خرجت الجماهير إلى الشارع في عدد من الأقطار العربية في إطار "ثورات" واحتجاجات عارمة، برغم تحفّظ وتمنع عدد من الأحزاب والهيئات وبعض النّخب المثقفة..، بصورة تعكس حجم الهوة القائمة بين مختلف هذه الأخيرة ومجتمعاتها، فيما حاولت هذه النخب فيما بعد؛ اللحاق بهذا الحراك الذي لم تكن لها يد في صناعته؛ محاولة تفسيره تارة وتوجيهه تارة أخرى. تظل مصالحة الباحث مع محيطه في هذه المرحلة الهامة التي تشهدها الكثير من الأقطار العربية؛ مطلوبة؛ وهي مهمة لا تتحملها الدول فقط عبر دعم الحرية الأكاديمية من خلال تشريعات وسياسات عمومية؛ بل تبقى بحاجة أيضا إرادة الباحثين والمثقفين أنفسهم؛ وإلى ترسيخ ثقافة تؤمن بأهمية العلم والمعرفة وبدورهما في تطوير المجتمع. إن الأوضاع المزرية التي يعيشها البحث العلمي في المنطقة لا يعني غياب كفاءات بحثية وعلمية في الوسط الجامعي العربي؛ بقدر ما تعود في جزء كبير منها إلى تهميش منظومتي التعليم والبحث العلمي ومخرجاتهما؛ وتراجع مستوى الحرية الأكاديمية وما يفرضه ذلك من حجر وتضييق على هذه الكفاءات وعطاءاتها. *مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات