لا تستقيم أسواق عدوة القرويين التجارية دون أداتها للحمل العتيقة؛ فالأسواق وأداتها تمازجت عبر القرون، وصارت مثل خيوط نسيج ألوانه العرض وعقده إيصال البضائع إلى وجهات مختلفة. إن هذه الأداة يكون جزء منها رجال أشداء في تحمل الأوزار المرهقة ودون كلل ولا ملل، وميزتهم الثقة والأمانة في أداء المهمات الموكلة لهم وحسن التعامل مع بقية ساكنة المدينة. لقد وفدوا على المدينة من فجاج عديدة وعميقة، غير أنهم نسبوا جميعا إلى دوار زرزاية بجماعة افرطيس، وطاط الحاج بإقليم بولمان الذي يبعد عن مدينة فاس بحوالي 88 كيلومترا. إنهم كانوا يتوسطون مشهد حركة مدينة على امتداد بضعة كيلومترات عرضا ونيف على هذا طولا، مدينة بلغز عمراني فذ فريد ومتاهة بالتواءات محيرة وتعرجات أزقة ودروب متشعبة. تمنح المطل عليها من هضبة بقايا مدافن المرينيين صورة سيل عرم من الدور والبنايات سطوحها ملتحمة ببعضها ببعض كأنها اجتثت في لحظة أو حدة من غياهب يم أجوري كثيف موغر في سرمدية الزمن أو كأنها مربعات لعبة النرد كومت فوق أمثالها كيفما اتفق. لا تبدو من بين تلاحم بنيانها إلا خضرة قرميد القباب والأشجار والنخيل الباسقات هنا وهناك تفشي، إن من بين هذه اللوحة المتكومة الفوضوية الممتدة، أن هناك رياضات بهية متناسقة وتسمق من حولها صوامع وأبراج كأعمدة أصولها ثابتات ومنتهاها تدعم قبة السماء. عمران لا يفسح كوة التنبؤ أن من بين هذا الزحام من المباني ممرات أو فرجات أو نهوج بعضها بسعة ذراع. في ظل هذا التجمع الهندسي المتشابك المتنامي المتوالد مثل فسيفساء مستعصية التركيب، لم تنل هذه الجماعة الحيوية، الآتية من سهول الصخر والثلج وغابات أشجار الأرز والكستناء وتضاريس الجير وحمم الجبال اهتماما كبيرا، إلا من بعض الأقلام القليلة، مثل الحسن الوزاني في كتابه الشهير "وصف إفريقيا" وأخرى تعود إلى بدايات القرن الماضي مثل محمد الأخضر أو عبد الرزاق عمور أو هنري كورباخ أو جون مارسي وهي كتابات جلها غير منشورة أو ما ورد باحتشام في مذكرة الكتابة العامة سنة 1918. وتبقى دراسة روجي لوطونو، الذي عاش في فاس وعمل مدرسا ولاحقا مديرا لثانوية مولاي إدريس من سنة 1930 إلى أن غادر المغرب إلى تونس سنة 1940، في كتابه "فاس ما قبل الحماية" الذي نشره سنة 1949، هي أهم دراسة اهتمت بهذه الفئة الحيوية في الوسط التجاري الفاسي، رغم بعض أخطائها وأصبحت أهم مرجع لكل الذين كتبوا عن زرزاية لاحقا. لقد كان لحضورهم دور مؤثر في الحياة اليومية؛ ما جعل المسرحي الراحل أحمد الطيب العلج يخلد ذكراهم من خلال التفاتة جميلة في مسرحيته "التياسا" التي بطلها أحد زرزاية أو "أولاد سيدي عيسى"، كما يسميهم أهل فاس أيضا. فالأعراف والنظام الداخلي لهذه الخلية من الحمالين تشبه طلسما سريا، كتوما، بمفاتيح يستعصي فكها، أو كرمانة لا تمنح حبات تمرها بسهولة. فإذا كان الحسن الوزان يشير إلى أن وجودهم كان حاضرا في زمن وجوده في فاس، أي في بداية القرن السادس عشر الميلادي، فإن الرواية الشفوية لزرزاية أنفسهم ترجع هذا التواجد في المدينة إلى نشأة فاس الأولى، إلى نهاية القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي، حين نزحت هذه الجماعة إلى فاس الفتية المؤسسة حديثا بحثا عن مصدر رزقها. غير أنها أصيبت بخيبة بطالة مضنية، لا تتماشى مع طبيعة أُناس هذه الجماعة، الذين لا يقبلون الكسب إلا بالساعد وليس عن طريق مقايضة ولا مبادلة ولا عن طريق تجارة أو استجداء إحسان الناس. وحين عزموا على الرجوع إلى مواطنهم الأصلية، ناشدهم أمير المدينة إدريس الثاني بالبقاء كقوة عاملة مهمة حيث قال: "إنها أزمة عابرة، استوطنوا فاس، ولكم نقل البضائع والسلع وكأنكم بعون الله جمال الصحراء لن تعرفوا كللا ولا عياء، وهذا وقف عليكم وعلى ذريتكم إلى يوم القيامة". هكذا تتناقل جماعة زرزاية شفويا هذا اللقاء بين أسلافهم ومولاي إدريس الثاني جيلا عن جيل. لقد تشبثت رجالات زرزاية بوعد مؤسس المدينة، والتزمت به كدعاء منه ومنة بكل وفاء، وبقيت بعيدة عن المشاركة في الأحداث والتقلبات التي عاشتها المدينة عبر الحقب والأزمنة سياسية كانت أو اجتماعية؛ فقد ظلت زاهدة في السعي وراء الثراء وحلبة سباق الالتحاق بمراتب الميسورين وذوي النفوذ. فقد عرفت فاس شرائح بشرية أتت من مواطن كثيرة دانية وقاصية، من الشرق والشمال ومن وراء خطوط الصحراء الكبرى، أحرارا وعبيدا، تسلقوا وتدرجت بهم المدارك حتى أدركوا سدرة منتهى السلطة أو الجاه أو الرفاه، إلا هذه الجماعة، جماعة زرزاية. لم يغرها شيء من هذا أبدا، وقنعت فقط بدور الوسيط بين البائع والمشتري وبين تنوعات الحرف والمشاغل والحياة اليومية. لقد شكلت ثلة مهمة في حركة سير تجارة فاس، كمُولد لدوران عجلتها. إنها تنتمي إلى هذه الحركة الدؤوبة، متجاوبة مع كل أشكالها وأصنافها، متأقلمة مع توابثها وتحولاتها. مع ذلك لم تكن تنتمي إلى المدينة لا اجتماعيا ولا موطنيا. لم تستطع يوميات فاس بصعودها وانهيارها أن تحدث أثرا في حياة هذه الجماعة أو تترك بصمات في نمط عيشها، رغم لبوث أناسها بين ظهران أهل فاس قرونا عديدة. وذلك مرده إلى أن إقامتهم في المدينة لم تكن تتعدى نصف السنة. إنهم يتناوبون، يتجددون كما يتجدد ماء النهر في جريانه. يحرسون بكل قواهم على القيام بهذه المهمة، يؤدون كل المهمات الصعاب بكل أمانة وتفان وإتقان، هم حراس المراكز والشوارع التجارية، ساهرون عليها بالليل حمالتها بالنهار. لقد مارسوا مهمة مجموعات الأمن الخاصة "security" قبل قرون عديدة. يرافقون النكافات، مزينات العرائس، وهن عائدات من أماكن عملهن إلى مثواهن بكنز حلي ثمين أو يحملون "ابياضي" (هو عبارة عن عصا غليظة تكسى بأثواب وحلي تبريز العروسة على شكل دمية كبيرة دون وجه، ترفع النكافات عددا منها كتحية عند استقبال الملك أثناء دخوله في موكب إلى مدينة فاس) أو حراس في مداخل دور الأعراس، لأنهم لا يخفى عليهم الوجه الغريب من بين وجوه أهل المدينة؛ وذلك راجع إلى سعيهم اليومي بين الدور والمتاجر وكل فضاءات حياة المدينة الاجتماعية والتجارية، أو مرافقة تاجر ميسور في طريقه إلى سفر أعماله صباحا أو مساء إلى موقف سيارته أو محطة الحافلات. ليسوا سواء في تخصصاتهم؛ منهم حمالة قطع خشب كبيرة التي لتنوء بالعصبة أولي القوة، المستخرجة من جذوع الأشجار الضخمة بالمنشار اليدوي قديما أو بالآلي حديثا في الحي الغربي باب عجيسة، ومنهم حمالة الكميات الوازنة من الزيت والعسل في طنابير من الصفيح، ومنهم حمالة خشب الحمامات، أو كأداة إعلام "براح" حين يتيه طفل عن أهله، أو العثور عن شيء ثمين مفتقد أو ضياعه، فإن أحدهم يجوب الدروب والأزقة صادحا بصفات الطفل المبحوث عنه أو معلنا عن شيء تم العثور عليه دون إفشاء كنهه. يحملون البضائع بين المتاجر وكانوا يحملون الرسائل بين المدن، وهنا يتحول اسم الرسول من زرزاي إلى "الرقاص"، أي ساعي البريد. يمكن القول باختصار، إنهم العمود الفقري للعجلة التجارية والمعاملات اليومية حتى الخاصة منها؛ مثل حمل "النفقة" أي المشتريات اليومية من مواد غذائية إلى المنازل أو نقل رسالة شفوية من مكان إلى مكان. كل هذه الأعمال وغيرها كثير يقومون بها على الأقدام وآلتهم الوحيدة لحملهم لكل هذه الأثقال هي أجسامهم فقط. إنهم يعتقدون بإيمان راسخ أن دعوة مولاي إدريس ما زالت سارية فيهم على مر هذه القرون وعبر كل هذه الأجيال، وإنهم بمجرد خروجهم من فاس يفقدون هذه الطاقة الخارقة على حمل هذا الكم الهائل من الأثقال. لذلك، فهم محافظون، كغيرهم من الجماعات المهنية والطوائف الدينية، على تقديم هدية الذبيحة في موسم مولاي إدريس السنوي. وحيث إن الحاجة إلى خدماتهم في المدينة ملحة، فقد توزعت أغلبية مواقف عملهم المعروفة "بجلسة زرزاية" حول المراكز التجارية الكبرى للمدينة الغربية عدوة القرويين مثل القيسارية والشماعين ورحبة قيس والقطانين والرصيف وأماكن غير هذه؛ فعدم وجود هذه المجموعة من الحمالة زرزاية في المدينة الشرقية، عدوة الأندلس، هو في حد ذاته لغز مبهم. يقدم هؤلاء الرجال إلى فاس في سن اليفاعة، وجماعتهم لا يشكلها أبناء القبيلة فحسب بل أحيانا أبناء الأسرة الواحدة. في نظامهم العملي هناك مدربون يهتمون بالوافدين الجدد. وتستهل دروس التلقين والإعداد للمهنة الحمالة بإلحاق أحدهم بفران الخبز لأحد أحياء المدينة والعمل كجامع لما يسمى ب"التشيقة" أي مخلفات المواد النظيفة القابلة للاحتراق مثل الخشب والنشارة وغيرها. ومن خلال ذلك يتعرف المتكون الجديد على عناوين ورش بعض المهنيين. وفي المرحلة الثانية، يوزع الخبز على ألواح الأسر ويحمل الخبز إلى بعض الأسر أو يحضر العجين إلى الفران من أجل طهيه؛ وبذلك يتعرف على العائلات وعلى مساكنهم، فينال اسم "الطراح". يمارس هذا التكوين في عدد من أفران أحياء المدينة الأخرى حتى يصبح هؤلاء التلاميذ الحمالة الجدد على دراية بالعائلات والأماكن التجارية قبل البدء في ممارسة أعمالهم. إن لجماعة زرزاية تضامنا وتكافلا قلما نجده في جماعات أخرى، حيث إن لهم صندوقا يضع فيه كل واحد منهم أسبوعيا مبلغا محددا من أجل من أصابه مرض منهم أو كبر في السن أو حلت به نائبة من نوائب الدهر. لقد تغير يوميات فاس وتغير معها نشاطات زرزاية، واستوطن عدد منهم فاس، ودخلوا هم الآخرون في التجارة، وإن كانت تجارة بسيطة؛ ومنهم من تزوج نساء في فاس، ومنهم من استعمل هو الآخر الدواب أو العربات اليدوية لحمل الأمتعة. وحيث إن المدينة فاضت عنها مدن أخرى خارج السور العتيق وأصبحت السلع تخرج إلى تجمعات سكنية متشعبة، فلربما كانت دعوة مولاي إدريس ملتصقة بحيز عدوة القرويين فقط، لا بالأمكنة التي لم يكن قد تنبأ باجتثاثها كزحام من الإسمنت والخرسانة التي أتت على الأخضر الذي كان يسيج حزام مدينته الأولى.