يطل اليوم الدولي للشباب (12 غشت 2021)، ليسائل الإنسانية عن واقع الشباب، مثلما يسائل كل دولة ومجتمع عن أحوال هذا الجيل الذي كثيرا ما يسمى جيلا ذهبيا، لكن كثيرا ما يكون في مستوى البرونز أو النحاس أو لا شيء (!!) وقد يكون في مستوى الألماس وأكثر، لأن الشباب معدن يكون مثلما نريد له أن يكون، وأساسا كما نعمل لتحقيق إرادتنا. اجتهدت المنظومة الدولية والكثير من الحكومات في إبداع سياسات عمومية للشباب، وأقرت حزمة من الإجراءات التشجيعية خصوصا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ومع ذلك نجد الشباب لا يصل إلى الاستفادة من تلك السياسات بالأعداد المأمولة، كي تتحول طموحات صناع القرار إلى واقع، بحجة أن نسبة بطالة الجيل الذي يعتبر أكثر نشاطا وحيوية، جيل الشباب، على المستوى العالمي هي 13,7% (حسب منظمة العمل الدولية-2020). والسؤال: أين يكمن الخلل؟ من خلال متابعتي للسياسات العمومية للشباب، وخصوصا إعداد وتقييم تنفيذ استراتيجيات وطنية وإقليمية لدول ومنظمات دولية، يتضح أن أغلب دول العالم تعاني من ضعف منهجية إعداد وتنفيذ وتقييم وتقاسم نجاحات سياسات الشباب، أكثر مما تعاني من رصد الإمكانيات المالية، إذ كثيرا ما نجد حكومات، وبلديات، تضع برامج تشجيعية مهمة للشباب، لكنها لا تحقق النتائج المرجوة، وسبب هذا عدم اعتبار واحد أو أكثر من المحاور أدناه: إعداد برامج موجهة بالنتائج انطلاقا من تحليل دقيق وتشاركي للواقع: كثيرا ما يبدأ السياسيون في إعداد السياسات بتقديم أفكارهم انطلاقا من قناعات فكرية أو أيديولوجية، في حين إن منطلق إعداد أي سياسة فعالة هو دراسة الواقع من أجل رصد الحاجيات أولا وتحديد الأولويات ثانيا. وهذا التمرين يجب أن يتم بشكل تشاركي واسع مع الشباب ومع كل المجتمع انطلاقا من عينات مدروسة لا تستثني أي فئة. ومن المهم جدا اللجوء للتكنولوجيات الحديثة في تحديد الاحتياجات وتقييم قدرات الشباب واختيار الأولويات، علما أن الوسائل التقليدية للإشراك تسمح بإشراك المئات، في حين إن الوسائل التكنولوجيات الحديثة تسمح بإشراك الملايين. وعند رصد الواقع، فالتحدي الكبير هو تحديد الأولويات بين قضايا تعتبر كلها مهمة. لكن يجب أن تكون هناك شجاعة سياسية في تحديد الأولويات، وهذا يتم بناء على معايير هي: أولا ما هو مستعجل، ثانيا ما هو ممكن الإنجاز، وثالثا إن تم إنجاز ما هو مستعجل وممكن، يجب أن يؤدي تلقائيا إلى حل مشكل أو مشاكل أخرى دون تدخل من أحد. إطلاع صناع القرار على التجارب الكونية: أعتقد أن استعراض التجارب الدولية، وخصوصا التجارب الناجحة، يساعد على تمكين صناع القرار ليس فقط من معرفة ما يجري في العالم في ذلك المجال، بل مساعدتهم على إبداع الحلول انطلاقا مما رصدوه من مشاكل وإشكالات وما حددوه من أولويات، ليكون التدخل مبدعا. ولما نطلع على ما قامت به هذه الدولة أو تلك في هذا المجال أو ذاك، ونتمكن من معرفة كيف نجحت، يمكننا أن نستلهم ما هو متلائم مع الوضعية التي نكون بصددها لنصنع نجاحنا أيضا. وحتى التجارب التي نعتقد أنها نصف ناجحة، أو حتى فاشلة، فيمكن التعلم منها من أجل صناعة النجاح انطلاقا من تحليل العناصر التي حالت دون إتمام نجاحها. لكن إعداد السياسات دون معرفة بما يجري في العالم، وتخيل أن الدولة استثناء، فهذا أسلوب خاطئ في إعداد السياسات، ولا يمكنه أن يؤدي إلا إلى "حلول" بدائية وكوارث مركبة. إشراك القطاعات ذات الصلة في وضع البرامج والسياسات الخاصة بالشباب: سياسات الشباب ليست سياسات قطاع واحد قد يسمى قطاع الشباب أو قد تنضاف إليه قطاعات أخرى. إن سياسات الشباب هي سياسات التعليم والتدريب، والتكوين المهني، والتشغيل، والثقافة، والصحة، وتكنولوجيا المعلومات، والتربية البدنية، والتربية على المواطنة وغيرها. وهذه القطاعات مطلوب أن تكون سياساتها الخاصة بالشباب ضمن استراتيجية عرضانية عبر-قطاعية، متعددة المتدخلين. وهذه الاستراتيجية يجب أن تُعد وفق المنهجية أعلاه، وأن تكون ضمن البرنامج الحكومي وتنفذ من خلال الميزانية العامة للدولة عبر قانون المالية. أما الاستراتيجيات المنعزلة عن البرامج الحكومية وعن قوانين المالية، فهي مجرد حبر على ورق. إن إشراك القطاعات في الإعداد يتطلب أن يُستتبع بالإشراك في التنفيذ، وفق خطة عمل واضحة المسؤوليات. إقرار خطة للمتابعة والتقييم والتعلم: تحتاج كل السياسات العمومية إلى خطة للمتابعة والتنفيذ والتعلم. بل إن سياسات البرامج تعتبر إعداد هذه الخطة ضرورة، لأنه بدونها لا تعتبر البرامج حتى مكتملة الإعداد. وأهم ما في هذه الخطة للمتابعة والتقييم والتعلم أولا خط الانطلاق، ثانيا الأهداف، ثالثا معايير القياس. يعتبر خط الانطلاق هو الوضع الواقعي لما قبل إطلاق برنامج أو برامج السياسات العمومية. وهذا ما يتحدد انطلاقا من الدراسات المشار إليها أعلاه الخاصة برصد واقع الشباب. وتعني الأهداف، الأهداف الواقعية القابلة للتحقق في زمن منظور (3 إلى 5 سنوات على الأكثر) أما "خطط" العشر سنوات فما فوق، فهي مجرد أوراق توجيهية في أحسن الأحوال، قد تكون لها قيمة كبيرة إن اعتبرت كذلك، شرط أن تُحيَّن كل ثلاث سنوات على الأقل، وإلا فكل سنة. أما معايير القياس، فهي وحدات قياس تطور العمل والسير نحو تحقيق الأهداف من خلال التعلم الدائم. وهذه المعايير تقيس تحقيق الأهداف الكبرى للبرامج، والأهداف الفرعية، والأهداف خلال الدورة (ثلاثة شهور). ويجب أن تكون هذه المعايير مُصاغة بفنية دقيقة تجعل تراكم الأهداف الفرعية يحقق الأهداف الإجمالية الكبرى. وبناء على معايير التقييم، يجب إعداد تقارير دورية وسنوية حول التنفيذ، ووضعها رهن إشارة العموم حتى يتمكن الرأي العام من متابعة تنفيذ السياسات الخاصة بالشباب، وأن تتحول التقارير إلى مواضيع للنقاش العمومي. تطوير قدرات مؤسسات التنفيذ (السياسات العرضانية): تحتاج السياسات العرضانية إلى مهارات خاصة من أجل التنفيذ الفعال. إنها سياسات متعددة القطاعات، ومتعددة المتدخلين، وهذا يتطلب توضيحا كبيرا للأدوار (من سيقوم بماذا)، وأي قطاع أو متدخل يمر إلى القيادة ومتى، وما هي أدوار باقي المتدخلين، ولمن يكون القرار الإداري، ولمن يكون القرار المالي، ولمن يكون القرار الفني. إن التدبير العرضاني للسياسات فن قائم بذاته يقوم على العمل المشترك ما بين القطاعات، حيث يتولى التدبير مجلس من ممثلي القطاعات وليس مسؤول في قطاع واحد. وهنا، تحتاج إدارة البرنامج إلى وضع وتتبع خطة عمل خاصة بالتنفيذ بما يحدد المسؤوليات بشكل دقيق، ويضمن التكامل وعدم التضارب بين التدخلات، وهذا يحتاج أيضا إلى مهارات من الضروري العمل على تطويرها لضمان إنجاح السياسات. التواصل للتعريف بالنجاح من أجل إنتاج التأثير المضاعف: غالبا ما ينظر السياسيون والمتتبعون للنواقص ووجوه الفشل، ويظهرونها ويزيدون في إبرازها إما لكشف ضعف منافسيهم السياسيين أو وفاء لعادة في النقد تنظر فقط لما هو سلبي. وأمام السلبية التي تحيط بنا في هذا العالم من كل جهة وصوب، هناك تجارب ناجحة ومسارات متفوقة، ورجال ونساء منهم شبان وشابات، صنعوا النجاح بالكثير من الإبداع والجهد والمثابرة. من بين المكونات الرئيسية الواجب تضمينها في السياسات الخاصة بالشباب، محور جد هام هو التعريف بالتجارب الناجحة، وخصوصا على المستوى الوطني أو المحلي، ليتمكن الشبان في نفس المجال الجغرافي من إدراك أن النجاح ممكن ويمكن أن يحققوه كما حققه جيرانهم الذين يشبهونهم في كل شيء. ختاما، إن السياسات العمومية (الوطنية والمحلية) للشباب سياسة استراتيجية في عمل الدولة، تستحق أن تكون ذات أولوية، لأن الاستثمار في الشباب استثمار مستقبلي ومستدام، ولما ننجح في صناعة شباب ناجح، إننا نضمن نجاحه وهو يعبر الأجيال، وهذا هو الاستثمار المستدام. (*) خبير في الحكامة الديمقراطية والسياسات العمومية