في البداية يمكن ان نشهد على معطى الندرة الذي يحكم الدراسات والأبحاث المتعلقة بالجانب السيكولوجي في العمل البرلماني ،حيث كل الدراسات تركز على الجوانب المؤسساتية والوظيفية للمؤسسة البرلمانية،وأيضا الجوانب القانونية /الاجرائية،في حين تم تهميش صانع القرار المحوري في العمل البرلماني الذي هو البرلماني بالدرجة الأولى،خصوصا فيما هو مرتبط أساسا بالجانب السيكولوجي /النفساني الذي له سلطة التحكم إلى حد كبير في تحريك وتوجيه سلوكيا ته وتصوراته وردود الأفعال المختلفة ،والتي قد نجد لها تعبيرات وتجسيدات إيجابية أو سلبية بفعل طبيعة هذه التركيبة السيكولوجية / النفسانية، وتحت سباب وجود الفروق السيكولوجية بين البرلمانيين وبحسب طبيعة النشأة والمحيط الاجتماعي و المتغبر النفساني بحسب طبيعة تركيبته المتشددة المنغلقة او الإنفراجية المنبسطة. إن الدراسات البحثية الاكاديمية يجب ان تنفتح على الاستبصارات والمقاربات السيكولوجية لفهم اكثر عمقا لإشكالات العمل البرلماني وسبر أغوار نفوس البرلمانيين والكشف عن ماهية الدوافع التي تتحكم فيها،وهي مكامن قد تكون دفينة أو ظاهرة،خصوصا باعتماد التشخيص الميداني الذي سيساعد في ايجاد قواعد قانونية باستطاعتها تقويم سلوكيات البرلمانيين وايضا كيفية التفكير في تكريس قيم خدمة المصلحة العامة وكبح جموح قيم الوصولية والانتهازية ،لكنه على الرغم من ذلك تبقى مجموعة من التمظهرات التي تعبر بشكل كبير عن المضمون السيكولوجي للبرلماني وهي في شكل تعبيرات سلوكية وممارساتية والتي يمكن مناقشتها على الشكل التالي: *عقدة الارتقاء الاجتماعي: غالبا ما يشكل المنصب اليرلماني نقطة جذب وإغراء لكل فرد لكونه يشكل ممرا حقيقيا لتحقيق نوع من المجد والجاه والوجاهة الاجتماعية والشهرة والدخول الى عوالم السلطة بحلوها ومرها ،والأكيد ان الارتقاء من وضع اجتماعي الى اخر يصاحبه ايضا تغيرات سلوكية في الفرد خصوصا في علاقته بمحيطه الاجتماعي ،والكثير من البرلمانيين يصيبهم نوع من الغرور والتعالي على الناس لان المنصب البرلماني يفرض عليهم نسج علاقات مع فئات اجتماعية اخرى ،تجعلهم في أبراج عالية وفي قطيعة مع الناس وهذا ما يفسر تنصل الكثير من البرلمانيين من التزاماتهم مع اهل دائرتهم ،ومع مرور الوقت تجدهم مغتربين عن بيئتهم الاجتماعية الاصلية حيث يتقمصون شخصية تلائم وضعهم الاجتماعي الجديد،والتي تؤثر على تصرفاتهم التي قد تتنافى الى حد كبير مع طبعهم وخصالهم الاصيلة ،وهو طبيعي جدا يجاهد من اجل الحفاظ على هذا المركز والحظوة والسعي نحو الارتقاء اكثر في السلم الاجتماعي واعلى المراتب،مع العلم ان كرسي البرلمان زائل لا محال ومهما طال الزمن أو قصر. *ضعف الانتماء الى المؤسسة البرلمانية:الأكيد أن البرلماني/الفرد يحيا في اطار بيئة اجتماعية تشكل طبيعة شخصيته وسلوكياته،والبيئة البرلمانية الداخلية تشكل امتدادا لها ،وإذا كنا نتحدث عن الطبيعة الاصطراعية للمجال البرلماني بمختلف جوانبه باعتباره ساحة لتصارع وتشابك المصالح بين مختلف الفاعلين وتكون مجالا منفتحا أيضا للمؤثرات الخارجية،أي حدوث نوع من التشوه في بنية المؤسسة بمعنى تصبح الاجواء الداخلية غير مريحة ومتعبة،وهذه الامور تعتبر عنصر داعم للنفور وتزكية لضعف الولاء لدى البرلماني . والإحساس بعدم الانتماء الى المؤسسة البرلمانية يتولد عليه الفتور والضمور في الأداء بالإضافة الى اللامبالاة والسلبية وعدم تحمل المسؤولية وهذه المسألة منظورة وقائمة لدى البرلماني في المغرب حيث ينخفض هذا الشعور بالإنتماء إلى المؤسسة البرلمانية بالدرجات بين مختلف البرلمانيين، وذلك في تجلي سلوك الغياب وعدم المواظبة على الحضور وعدم بذل أي مجهود في العمل والأداء بمعنى التهرب من أداء العمل. إن الانتماء للمؤسسة البرلمانية ليس نتيجة الإيمان بالمعطى المادي وإنما الإيمان بالفكرة وخدمة القضية الأساس وهي المصلحة العامة. *الإحباط البرلماني: هنا ينطرح السؤال على مستوى ما اذا كانت البيئة البرلمانية الداخلية على مستوى البنيات والقواعد المعيارية والإجرائية عاملا محفزا ،أو تشكل عامل مغذي لعنصر الإحباط Frustration ،فقد تتوفر لدى البرلماني القدرات والملكات المعرفية والذهنية التي تمكنه من أداء عمله بشكل جيد إلا أنه يصطدم بضعف الامكانيات والبنيات التواصلية وغياب الاجهزة المعاونة في العمل البرلماني،مما يتكون لديه نوع من الاحباط،ويتعزز هذا الاحباط أكثر مع فقدان البرلماني للثقة في نفسه وبالتالي عدم قدرته السيطرة على هذا الاحباط الذي يتملكه ويتمكن منه. فالإحباط هنا ناتج عن تولد شعور وإحساس لدى البرلماني بوجود عوائق محورية تصده في اثبات ذاته داخل البرلمان وتحقيق اهدافه التي يرتضيها مما ينتج عنه خيبات الامل والفشل وانعدام الدافعية نحو العمل،إلا أن عنصر الاحباط لدى البرلماني المغربي تزداد حدة عندما يدرك ان هناك حواجز تحول دون تحقيق مصالح ذاتية شخصية في حين يتضاءل الاحباط عندما يحس البرلماني بعدم قدرته على تجسيد افكاره وتصوراته ومحدودية دوره في مجالات العمل التشريعي والرقابي بفعل كوابح قد تكون معيارية أو قيمية أو فيما يتعلق بميزان القوى السياسية الحزبية ،ويزداد الأمر لدى البرلماني الذي يتموقع في الأقلية البرلمانية في حين ينخفض لدى برلمانيي الاغلبية التي تحظى بدعم الحكومة والتي تكون هي المعين في تحقيق مآربهم الشخصية. والكثير من المترشحين /البرلمانيين الجدد منهم تتكون لديهم بشكل مسبق احكام سلبية حول العمل البرلماني ومع التحاقهم بالعمل قد يتفاجؤون بالأسوء مما يزيد من منسوب الاحباط لديهم،وقد يحملون معهم امال لتغيير والمساهمة فيه إلا انهم يصطدمون بواقع الحال في البرلمان مما يزيدهم تذمرا وإحباطا،وعلى قدر ما يكون البرلماني في موضع الاحباط ،فهو مصدر لإحباط المواطن الذي يفقد الامل في انبعاث برلمانية تعبر عنه. *تصارعية الأهداف وتنازعية الأدوار: هنا يبرز عنصر التصارع بين اهداف البرلماني وأهداف المؤسسة البرلمانية ،في الغالب ما نجد الفرد/البرلماني في مسعى تحقيق مجموعة من الاهداف ،إلا ان الاشكال يبرز في مسالة اختلال التوازن لصالح اهداف البرلماني على حساب هدف المؤسسة البرلمانية الذي هو المصلحة العامة ،وهذه التعارضات بين المصلحتين يتولد عنها حالات من السلوكيات والممارسات الجانحة التي قد تطبعها افعال في تعارض مع ما هو اخلاقي او مشروع. وهنا تتحول تمثلات البرلماني للبرلمان الى نظرة أداتية لإشباع جموح الأنا والذاتية المثقلة بالمطالب والحاجات لديه وهذا ما يفسر استغلال منصب وصفة البرلماني لارتكاب جرائم الاختلاس مثلا او اصدار شيكات بدون رصيد ،واستعمال صفة البرلماني حتى في ارتكاب العديد من الافعال والأعمال المشروعة لاعتقاد زائف يتمثله وهو انه فوق القانون. وإذا كانت تصارعية الاهداف تنتصر لصالح المصالح الشخصية الضيقة،فان البرلماني ايضا يجد نفسه وسط وابل من الادوار يجب ان يقوم بها ،فهو مطلوب منه القيام بدور تدبير اموره الشخصية /العائلية وأيضا التنقل المستمر بين الدائرة الانتخابية والعاصمة مقر البرلمان ،المواظبة على الحضور في اللجان والجلسات العامة ،المشاركة الفعلية في العمل التشريعي والرقابي وأيضا المهام الدبلوماسية الخارجية،التنقل بين الوزارات ومصالحها الخارجية لقضاء مأرب وخدمات اهل دائرته الانتخابية ....الخ ،وهذه تعتبر من الامور الاعتيادية في العمل البرلماني تحتاج الى برلماني يشتغل وفق نظام وقتي محكم يتوزع على مختلف انشطته ،إلا ان العديد من البرلمانيين لا يملكون اجندة واضحة للعمل حيث غالبا ما نجد سوء توزيع الوقت ،او الاهتمام الزائد بنشاط او انشطة على حساب الاخرى ،او هناك من يريد ان يفعل كل شيء ولا يلحق أي شيء ،وهناك من ارتضى لنفسه السكينة ولا يحرك أي ساكن. *انتشار مظاهر الفردية وتضخم الأنا : إن الفردية هنا تحضر كتدليل على الاستغراق في الذاتية والسعي الحثيث لتحقيق المصالح الشخصية الضيقة مما يساهم بشكل كبير في غياب ذلك التجانس الممكن والعمل الجماعي ليس على مستوى برلمانيي الاحزاب الممثلة في البرلمان فقط والذي قد نجد له تبريرا سياسيا ،وإنما الصراع والشقاق قد يبرز حتى على مستوى الفريق البرلماني الواحد ويزداد حدة بين مكونات الاغلبية او المعارضة،وذلك نتيجة لانتشار مظاهر الفردية التي تحركها دوافع غريزية مبنية على التنافس على تحقيق او الاستئثار بالقدر الاكبر من المنافع والمكاسب ،وهذه التنافسية تذكي قيم الفردية اكثر وبالتالي ينشغل البرلمانيون بهذه الصراعات الجانبية ويبذلون مجهودات مضنية، وهي تعتبر تكلفة زائدة وإضافية تؤثر على امكانية استجماع كل هذه المجهودات واستثمارها في صالح اهداف العمل البرلماني. وتضخم الأنا يظهر على أكثر من صعيد ولعل الابرز هو أن البرلماني يتحسس من كل الأمور الذي قد تمسه في شخصه أو كل ما يتعلق بوضعه ويكون اكثر شراسة في الدفاع عن حقوقه ،حتى وإن كانت تستند الى كل ما هو باطل خصوصا وأنه دائما ما يخوض معارك للزيادة في راتبه وتعويضاته دون موجب حق ،وأيضا ردود الافعال حول نشر لائحة الغياب مثلا ،بمعنى كل ما يمسه هو خط أحمر بينما أن يعبث هو بالبرلمان والمصلحة العامة هو فعل مباح لا راد فيه. *تداعي الالتزام التنظيمي البرلماني: ان الالتزام التنظيمي يمكن قياسه بدرجة الانتظام والمواظبة على الحضور والحماسة في العمل والأداء ،وعليه يلاحظ تشكل جملة من القيم السلبية التي تتجلى في:غياب الإيمان بأهداف المؤسسة وقيمها وعدم العمل بأقصى طاقة لتحقيق هذه الأهداف وتجسيد تلك القيم، وعدم الانخراط الفعلي للبرلماني في تطوير المؤسسة البرلمانية ،وتنامي الاتجاهات السلبية نحو العمل البرلماني والمبادرة والمبادأة، والإبداع في العمل ايضا ضعف الارتباط النفسي للبرلماني اتجاه المؤسسة البرلمانية. *ضعف الوعي بالمسؤولية والواجبات البرلمانية: إن ضعف الوعي بالمسؤولية والواجبات يعبر عن ضعف الدافعية وعدم الرضا بالعمل داخل المؤسسة البرلمانية وهي المشاعر التي تتكون لدى البرلماني اتجاه عمله والتي سلبية، وأيضا عدم الرغبة في مضاعفة الجهد في العمل واللجوء الى الاستكانة والانكفاء على الذات. ان تشوهات الوعي البرلماني بالواجبات والمسؤولية البرلمانية هو في أساسه ناتج عن عيب في المنشأ والمنبع ،فلا يمكن ان يتبلور وعي ايجابي بهذه المسؤوليات البرلمانية اذا كان المنطلق الذهني التفكيري /التمثلي للعمل البرلماني معتل بالأساس ،حيث يكون الهدف من الوصول الى البرلمان هو الجاه والسلطة والوجاهة الاجتماعية والمصالح الشخصية ،فأكيد ان هذه الامور تمتد في فضاءات العمل البرلماني وتدب فيه مما يجعل مسالة التنصل من الواجبات والمسؤوليات قائمة الى حد كبير وهي السائدة بشكل مكثف،فنجد ان الكثير من البرلمانيين يتنصلون من مسؤولياتهم في مختلف مجالات العمل البرلماني التشريع الرقابة الحضور ،التنصل ايضا من واجبات العمل في الدائرة الانتخابية،التنصل من التواصل مع المواطنين. وخدمتهم. الاغتراب البرلماني: أضحى الاغتراب مكون منغرس في البنية الذهنية للبرلماني كنتاج لجملة من العوامل والمتغيرات ولعل ابرزها ضعف الارادة في العمل لدى البرلماني وعدم انخراطه الفعلي في مجالات العمل البرلماني (التشريع،الرقابة)،وبفعل تعقد ايضا العمل البرلماني في حد ذاته وما يستوجب من خبرة ومعارف تقنية واحترافية ،وعدم وجود الدافعية للتعلم واكتساب هذه المعارف والتقنيات ايضا،والكثير من البرلمانيين يختارون الانزواء وموقع المتفرجين ولا يلعبون إلا دور تزكية كل ما تأتي به الحكومة ،ويكثر هذا الاغتراب اكثر عندما يتعلق الامر بمناقشة مشاريع قوانين المالية داخل اللجان او الجلسات العامة،حيث تدخلات العديد من البرلمانيين تكتسي طابعا سياسيا محضا او التمادي في ممارسة نوع من "البوليميك" الذي يبين حالة الاغتراب القائمة في العملية التشريعية لدى العديد من البرلمانيين ،وهناك من ليس لديهم ادنى ثقافة او فكر حول المنظومة القانونية للعمل البرلماني خصوصا على مستو القواعد الاجرائية والمسطرية وذلك بظهر كثيرا خلال الجلسات وما يعقبها من خروقات ناتجة عن عدم الفهم الصحيح لهذه الاجراءات وما يزيد من هذا الوضع هو تواضع المستوى المعرفي لدى مجموعة من البرلمانيين او عدم توافر الارادة والرغبة في معرفة ذلك. *حالة الفصام في شخصية البرلماني: ان ما يميز الكثير من البرلمانيين حالة الفصام او الازدواجية السياسية ،وهي تعبر عن حالة اتساع الهوة بين القول والفعل ،وهذه المسالة قائمة من بداية الترشح للمنصب الى ما بعدها في ممارسة عمله ،فالكثير من البرلمانيين يستعملون لغة الوعود والعهود دون العمل على تنفيذها سواء في علاقته بأهل الدائرة أو في إطار القيام بأدواره التشريعية والرقابية ،وهي ازدواجية تشكل امتداد لما هو قائم عند فترة الحملات الانتخابية التي تتناثر فيها الوعود الكاذبة والخادعة فيستمر البرلماني في هذا الفعل فيتنصل من كل ما وعد به ويستمر في القاء الوعود خصوصا مع اهل الدائرة باعتماد تقنيا التبرير وإيراد المسوغات الاحتيالية في كثير من الاحيان على اعتبار ان المشكل ليس مرتبط به بالدرجة الاولى وإنما القاء اللوم على جهات اخرى وخاصة المعنية بتقديم هذه الخدمات وحالة الفصامية حاضرة على مستوى المبادئ والايديولوجية التي يعتنقها البرلماني والتي تجد لها تجسيدات وتصرفات متناقضة خصوصا على مستوى النقاش البرلماني او في مجال التشريع او الرقابة حيث نجده يصوت مثلا على قوانين ذات مضامين متنافرة مع ما يؤمن به . على سبيل الختم: من الملاحظ أنه من الصعب جدا في السياق البرلماني المغربي فهم الجانب النفساني في شخصية البرلماني ،التي تعتبر تركيبة معقدة تستعصي على التفكيك والتشريح، وذلك من خلال تمظهراتها وتجلياتها ،ولكونها لا تحتكم لقواعد مضبوطة ومحكمة ،فهي تبقى مبهمة وغامضة ومتذبذبة إلى الحد الذي لا يطاق، وبالتالي ما أحوجنا الى استثمار دراسات علم النفس،ولما لا إعتماد "علم النفس البرلماني" ،الذي من شأنه إزالة العديد من دوائر السواد في شخصية البرلماني بترسباتها ومكوناتها التي يغلب عليها الجانب الباثولوجي /المرضي ،وبالتالي فالتشخيص الجيد باعتماد أدوات التحليل النفسي قد تساهم في علاج الكثير من الأمراض التي أصابت الجسم البرلماني المغربي ،مادام أن الأقراص والمسكنات القانونية غير كافية في تهذيب الجانب السلوكي في العمل البرلماني . ف"كل برلماني يحمل معه معاول لهدم بنيان الصرح البرلماني الذي يعتبر احد اعمدة البناء الديمقراطي، وكأني بهم يتناوبون ويتفنون في عملية الهد والردم ،وهم ماضون على عهدهم غير منقلبين في سعيهم ...."