لم يكن الحضور الحافل لقدماء المعتقلين السياسيين الإسلاميين، ورموز السلفية، الشيخان حسن الكتاني وعبد الكريم الشاذلي، وأحد رموز هيأة الإنصاف والمصالحة المعتقل السياسي السابق صلاح الوديع، وقيادات بعض الأحزاب السياسية، والإعلاميين، في تأبين صاحب مدرسة التقدم القرآنية التاريخية بالبرنوصي، المرحوم الحاج الجيلالي لعماري، سوى تعبير عن دلالات زمن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، الذي كان الفقيد أحد ضحاياه، بشهادة المقرر التحكيمي الصادر في حقه عن هيأة الإنصاف والمصالحة. ففي الواحدة ظهرا، بتاريخ السبت 29 شتنبر 2012، أسلم الحاج الجيلالي لعماري، روحه لبارئها، قبلها بثلاث دقائق، كان آل الفقيد، بنين وبنات وحفدة، مستغرقين في عرس إيماني خاشع وحزين، ملتفين حول الجسد المسجى الذي فنيت فيه الحركة، وغارت فيه الحياة، سوى من نَفَس كان لا يزال ينساب محشرجا، وسمْع كان يعطي إشارة الحياة، بانذراف الدمع، دليلا على التجاوب والإحساس. وفي لحظة من الإلهام الرحماني، توقف تالي القرآن، ليردد على ذلك السمع الحي، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". انتفض الجسد المتجمد، تجاوبا، وتحرك اللسان المعقود، وزفر الصدر زفرة، ماج معها المتحلقون في هزيج جماعي من التكبير والتهليل. أعيدت الكرة مرة ثانية، فكانت الانتفاضة والزفرة الأخيرة، في مشهد ساحر، تقشعر من سحره الأبدان، وتنسدل فيه ظلال الغيب والشهادة بأفيائها، انخرط فيه المتحلقون حول أبيهم في ترانيم: "لا إله إلا الله"، وكأنهم يزفون الروح المرفرفة إلى حضور يحف المكان فتأنس بحفيفه البصائر، ولا تبصره الأبصار، من ملائك الرحمان. كانت علائم التواصل الروحي مشهودة في ذلك العرس النوراني المتسامي عن مقاييس الحس والإلف. انقضى نحب الرجل الذي كان لا هم له سوى أن يقرأ القرآن، غاديا ورائحا، ويحصي الختمات تلو الختمات، حتى ولما كان في النزع الأخير، وفي احتضار الموت وسكراته، وقد انعقد اللسان عن النطق، كان يصحح لمن يقرأ القرآن عليه، إذ يرتكب خطأ، بهمهمة، وعيها الحاضرون وبكوا لها من التعجب والإكبار. وللرجل قصة مع القرآن، لا غرو أن تسير بذكرها الركبان، فقد احتفى بالقرآن احتفاء، وأكرمه إكراما، وعني به عناية، وكان من أفضال الله عليه، أن يؤدي عن هذا الاحتفاء، في حياته، الضريبة تلو الضريبة تلو الضريبة، وأن يمتحن الامتحان العسير في ضميره وعقيدته وحريته وصحته واستقراره، جراء ما صنعته يداه في فترات العمر الندية من شبابه، لما أقسم أن يُحَفظ القرآن أحدا من بنيه، إما بالرضا أو بالإرغام، تفلت الصبي عبد الله، من بين يديه متهربا من عناء هذا الالتزام المضني، لكن كلمة السر سرت بينهما، فاخترقت فطرة الصبي، فانقاد راضيا مذعنا لاختيار والده، الذي أخبره أنه من سلالة يحفظون القرآن أبا عن جد، ويتوارثونه بينهم ولا يقبل أن ينقطع حبل التوريث عنده. سنة 1972 كان الصبي عبد الله قد أكمل حفظ القرآن عن ظهر قلب في سنه الثانية عشرة، وأنفق مع والده الليالي الطوال، دون انقطاع، ليلة بليلة، في استظهار لأحزاب القرآن، عشرا فعشرين، فثلاثين، دفعة واحدة، واستغرق هذا الحفظ الآحاد والعطل والأوقات الفارغة من الدراسة النظامية للصبي في الإعدادية. كان الزمن، زمن انغراس الحركة الإسلامية، في أوساط الشباب والفتيان. وملازمة المسجد، والمواظبة على قراءة القرآن الجماعية، أفضت بالصبي عبد الله إلى الانغماس في تيار المبشرين الجدد بعودة الإسلام، واستعادة أمجاده وابتعاث الجيل القرآني الفريد. وبموازاة ذلك، كان الصبي قارئا نهما لأفكار الاشتراكية والقومية العربية، وعصر الأنوار، ونضالات لينين وماو وهوشي منه، وغيفارا، يزدردها بشغف حين يلتقط كتبها من الأسواق، ويسمع عن الإشادة بها من بعض معلميه في الأقسام، فقد كان العهد عهدا ثوريا بامتياز، ولكن القرآن الكريم كان حصنا مانعا للصبي، دون أن يسلك سوى سبيل الدعاة الجدد إلى الحركة الإسلامية، على خطى هي خطى الشبيبة الإسلامية. ظل الحاج الجيلالي مطمئنا لخلطة ابنه برواد المساجد مادام ابنه مستقيما، ومتفوقا في دراسته التي كان يحتكر فيها الحصول على الرتبة الأولى في المؤسسة بأكملها، فقد ساهم حفظ القرآن في تخصيب ذكاء وذاكرة الصبي. سنة 1978 كان الحاج الجيلالي يعيش السعادة الغامرة، فخورا بابنه الذي حصل على الباكلوريا العلمية بامتياز، واستدعته إدارة الثانوية لتحفزه على تسجيل ابنه بالمعاهد العليا بفرنسا، واضعة بين يديه ملفات التسجيل. لم يكن ينتابه أدنى قلق تجاه سيرة ابنه ورفقته، عدا بعض التعبيرات الثورية والرافضة للأوضاع التي كانت تصدر في حديث الفتى تارة فأخرى، فيتصدى لها الحاج الجيلالي بتغليظ القول، والتعنيف حتى، لما كان يعرفه من هول الظلمات التي كانت تبتلع أصحاب هذه التعبيرات الجريئة، فقد اختطف أحد الجيران فعاد بعد سنتين هيكلا عظميا، كليل البصر، وأعدم عمر دهكون ورفاقه وهم من حي سيدي البرنوصي وعين السبع، وكانت الروايات المرعبة عن مصائرهم تسري بين سكان الحي بهمسات الفزع والوجل. ثم لا ينسى الحاج الجيلالي سنوات الاستعمار الفرنسي، أيام كان في "الكاريان سنطرال" معلما للصبيان في الجامع، وكان يتوقف الضباط الفرنسيون عند بابه يشربون الماء، مطمئنين إلى الفقيه البدوي، كل ما حلوا لتمشيط الكاريان بحثا عن الفدائيين، إلى أن زلزل الجامع ذات صباح، وتطايرت حصائره وألواحه فوق رؤوس الأطفال، فقد اكتشف الضباط الفرنسيون أن الفقيه البدوي كان يتخذ من الجامع مخبأ لخراطيش الرصاص التي يتولى الفدائيون نقلها من معمل للنحاس في الدارالبيضاء إلى مصنع سري كان لمنظمة فدائية اسمها "صوت النار"، أصبح الفقيه البدوي من المتعاونين معها، فكان جزاءه الاعتقال والتعذيب كسائر أفواج الوطنيين. سنة 1978، التحق الفتى بكلية الطب بالدارالبيضاء، لكن نوعا جديدا من الجلبة والضوضاء حول البيت، وكثرة الطارقين للباب، والسائلين، والغادين والرائحين مع الفتى، أثارت حفيظة الحاج الجيلالي، الذي بدأ يرتاب ويتوجس شرا، فراح يحذر ابنه وأصدقاءه، من الغوص في أعالي البحار السياسية، غير أن توجساته وتوقعاته باتت حقيقة وواقعا، عندما أخبر ذات مساء من خريف 1979 أن الطالب عبد الله لم يعد إلى كلية الطب، وأنه وزمرة من رفاقه يبيتون في ضيافة البوليس السياسي بمخفر لمعاريف الذي كانت ترتعد من سماعه الفرائص. أياما وليالي قضاها الحاج الجيلالي، طارقا الأبواب، باحثا عن خلاص ابنه، ولكن دون جدوى، فمن يجرؤ على الاقتراب من عوالم الاعتقال السياسي؟. أسقط في يده، فقد ضاع منه الولد، وراحت الحسرات تغزو قلبه، وتقتل أحلامه التي دغدغته حول أن يكون الفتى في طلائع زمانه، وأن يتسنم صهوة مجتمعه. وبعد الإفراج، تبدلت سيرة الحاج، أعلن الحرب على الاتصالات والاجتماعات في بيته، وما أكثر ما تسلل المجتمعون في جنح الليل إلى أعلى البيت، وما أكثر ما فطن بهم الفقيد، فأخرجهم طردا، ولازال رجالات ذلك الزمن الجميل يتندرون ضحكا من ذكريات انفضاض الاجتماعات، ورؤية القائد، أو الأمير بلغة الإسلاميين آنذاك، مصفوعا على قفاه من طرف أبيه أمام أعين أتباعه، الذين كانوا يربتون على كتف الأمير قائلين: "إنه ابتلاء في سبيل الله يا أخي". سنة 1980 طفح الكيل عند الحاج الجيلالي، واتسع الخرق على الراتق، وتراءت له أمانيه، سرابا ضائعا، بعدما أصبح الابن يغيب عن المنزل أياما، أو يعود إليه حين يعود في ساعات ما قبل الفجر، وتأكد لديه أن كلية الطب لم تكن سوى عنوان، فاختلط لديه الغضب والخوف والحسرة، فأصبح سما زعافا، ينخر الجسد ويهده قبل الأوان، وألف الناس أن يروا الحاج جالسا أمام بيته منهمكا في قراءة القرآن، فقد كان ملاذه الوحيد لمغالبة مشاعر الحسرة. في تلك الفترة كان الفتى قد تخلى عن همه الشخصي، وطرح عنه أحلام المستقبل ورغائب الترقي الاجتماعي، وانبرى رفقة ثلة من رفاقه يحملون في قلوبهم الصغيرة هموم شعب وآلام أمة، وفرضت عليهم الأقدار أن يكونوا في قيادة تنظيم الشبيبة الإسلامية إلى جانب الرموز الثلاثة: "علال العمراني، عبد اللطيف عدنان ومحمد زحل". وفي سنة 1981، حلت الصاعقة بدار الحاج الجيلالي، ففي غمرة حملة الاعتقالات التي شملت قياديي التنظيم الجديد: الجماعة الإسلامية )حزب العدالة والتنمية حاليا(، اعتقل الابن، وحل إنزال أمني بالدار، وفتشت كل طوابقها بيتا ببيت، وقلبت أعلاها بأسفلها بهمجية، تحت أنظار الفقيد وأسرته المرتعبة، وبعد فترة من الاعتقال، أفرج عنه، ليلة، ليتمكنوا من نصب كمين لرفاقه، لكنه أحبط خطتهم بالفرار، وحلت لعنة الانتقام بالحاج الجيلالي، الذي كان مشدوها أمام ما يحدث وما يدور، فاقتيد وسط أهله وجيرانه إلى الاعتقال، في واحدة من أخس وألأم أساليب التعسف والجور والبطش، وشرائع الغاب وعتو قطاع الطرق، ورموا به في أوساط المعتقلين بمخفر لمعاريف السيء الذكر، لكن المعتقلين، ولأصالة المغاربة، وشيمهم في الشهامة والمروءة، أكرموا وفادته، وأفردوا له عناية خاصة، وكان المحققون يخرجونه يوميا، ويطوفون به عند بيوت الأقارب، ويرغمون هؤلاء الأقارب على أن يدلوهم على بيوت بقية العائلات، ويخوفون الجميع من مغبة استقبال الابن الفار أو عدم التبليغ عنه، وكان من لطف الله به أن امتنع عن أن يدلهم على أصدقاء ابنه، وأنكر معرفته بهم. واكتشف الوالد المسكين في دهاليز الاعتقال، أن ابنه الطيب حلقة مهمة في معادلة هذه الخريطة التي يقلب البوليس معالمها. وعند الإفراج عنه، بعد مدة من الاعتقال التعسفي الجائر، بدأت فصول أخرى من المعاناة والمكابدة اليومية، فقد أصبحت المراقبة الأمنية مضروبة من حوالي بيت الحاج لعماري، وأصبح الجيران يعرفون جيدا سيارات الأمن السري التي ترابط بين الفينة والأخرى في الليل وفي النهار، وفي عز الشمس أو تحت وابل الأمطار، وكان ذلك وحده يثير ما يثيره من كوابيس وهواجس، تنهار له أصلب النفوس، ناهيك عن الإنزالات الأمنية المفاجئة التي كانت تقتحم البيت على حين غرة، فتثير في أهله الهلع. سنة 1982، توقف هذا الكابوس المخيف، لأن الابن اعتقل، وعند الإفراج عنه بعد مدة، سكنت مخاوف الفقيد، واعتقد أن الحياة الطبيعية قد استعيدت، عندما انتظم الابن في الحلول بالبيت، ونجح في مباراة، وانتسب إلى الوظيفة العمومية، وتنفس الجميع الصعداء، وأصبح الأب وابنه يجتمعان على مائدة طعام أو كأس شاي، فقد افتقدت العائلة تلك العادة منذ سنين، وكاد الأمل أن يبتسم في صدر الحاج، لولا أن تلك الحال الهادئة الطيبة، انقشعت ظلالها فجأة، عندما عاد الزلزال ليضرب مرة أخرى، وعاد الإنزال الأمني بأشد من ذي قبل، وعيث تفتيشا بالبيت، وعاد الحصار والمراقبة الأمنية، واختفى الابن مرة أخرى، وأصبح الخوف مقيما بين ظهراني الأسرة المنكوبة، وكانت العيون تجحظ، والصدور تبلغ الحناجر، كلما فاحت رائحة البوليس بجانب البيت، فقد كان الحاج الجيلالي يتحسب أن يعود الانتقام مرة أخرى، فيزج به في سراديب الاعتقال. سنة 1983، كان عبد الله لعماري ضيفا على معتقل درب مولاي شريف، مأوى آلة التعذيب الرهيبة، ومحل "سَقر" المغرب وجحيمه، وبعد محاكمة 1984، محاكمة المجموعة ال 71 التي عرفت أكبر نسبة من أحكام الإعدام في تاريخ المحاكمات السياسية المغربية: 11 إعداما، كان نصيب ابن الحاج الجيلالي من القرون الموزعة: 10 سنوات، لا لشيء سوى أنه جزء من قيادة "الجماعة الإسلامية" وهي "حزب العدالة والتنمية" حاليا. وعرف الحاج الجيلالي بعد ذلك أصناف عذاب جديدة عرفتها وتعرفها في كل آن، عائلات المعتقلين السياسيين، من الرحلات المكوكية الشاقة، إلى سجون البلاد لزيارة الأبناء، ومن حفلات البكاء والنحيب الجماعية عند اندلاع الإضرابات عن الطعام للسجناء، ومن المبيت في العراء على بوابات السجون، في انتظار فتحها للزيارة، في صباح الغد، عندما يواجهون أحيانا بالمنع بعد انتظار يوم طويل. وكسائر آباء وأمهات المعتقلين السياسيين، لم تنقض تلك العشر السنوات المضنية، حتى كان الحاج الجيلالي نهبا لكل الأمراض والأسقام التي أغرزت أنيابها ونفثت سمومها في جسده المتأبي الذي تحمل في سبيل اختيار ابنه، الهموم والفواجع ما إن أثقالها لتهد الجبال الرواسي، وتنوء بحمله العصبة أولي القوة. من سنة 1994، تاريخ الإفراج عن المعتقلين السياسيين، إلى سنة 2003، عاش الفقيد مع أسقامه، ولكن عاش سعيدا مغتبطا، باندماج ابنه في المجتمع، وكان مرتاحا لانخراطه في العمل السياسي الحزبي، ومشاركته في الاستحقاقات الانتخابية، ورغم شيخوخته شارك ابنه في حملته الانتخابية كمنتخب جماعي، وفي الانتخابات التشريعية كمرشح للبرلمان. ودعما لاندماج ابنه، احتضن ببيته، مكتبه للمحاماة، فالمهم عنده ألا تعود أهوال سنوات الرصاص، لكن سنوات الرصاص أطلت بقرنها بعد أحداث 16 ماي 2003، إذ سقطت شظية من شظاياها بمكتب المحامي، الذي كان مظلة حقوقية لعائلات عشرات المعتقلين السلفيين، الذين جرفتهم الحملات الوقائية والاستباقية لما يعرف بقانون الإرهاب، الذي كان يحصد بالشبهة الأخضر واليابس. كان اعتقال ابنه المحامي سنة 2003، ضربة قاضية للتماسك الصحي للحاج الجيلالي، الذي لازم فراش المرض منذ 2004، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى يوم 29 شتنبر 2012، فصلوات الله عليه ورحمة منه ورضوان، وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا. * معتقل سياسي إسلامي سابق، ابن الفقيد الحاج الجيلالي لعماري