يلتقي الفرقاء السياسيون المشاركون في الحكومة والمعارضون وغيرهم من عموم الشعب المغربي وقواه الحية على ضرورة إصلاح صندوق المقاصة. وهو إجماع ضمني على انحرافه عن خدمة اقتصاد البلد وليس الطبقة الفقيرة فحسب. فالصندوق كان أداة، تضطلع بدورين أساسيين: يتمثل الدور الأول في حماية الاقتصادات الوطنية من المنافسة؛ فاستفادة القطاعات الإنتاجية من دعم الأسعار يعني أمرين: يروم أولهما دعم الإنتاج الداخلي واستقطاب الاستثمارات. فيما يتوخى الثاني ضمان سوق استهلاكية لتصريف المنتوجات الوطنية على أساس حماية الدولة لسوقها الداخلية بمنع المنتوجات الأجنبية من الولوج عن طريق الرفع من الرسوم الجمركية. أما الدور الثاني فيتمثل في تدبير استفادة الطبقات الاجتماعية الفقيرة من دعم الدولة للاستثمار، خصوصا وأنها كانت الطرف الاستثماري الأكبر (نوع من التأميم لوسائل الإنتاج). وبالتالي كان بمقدور السلطة مواكبة احتياجات المواطن وقدراته الشرائية. فالدولة استثمرت في الاوراش الكبرى (السدود والموانئ...). وكانت الرؤوس المالية المعبأة في غالبيتها عمومية، بل إن الجزء الأكبر من رساميل الشركات كان بحوزة رجالات الدولة ورموزها السياسية. أما اليوم، فإن العولمة قلبت الأمور؛ ففي الوقت الذي كان ينظر فيه قادة الحرب الباردة إلى الاقتصاد المؤمم (الدولة المتدخل الوحيد) على أساس نتائجه الاجتماعية المُرضِية، غدت المعادلة معكوسة تماما، إذ أصبحت العديد من المدارس ترى في المجتمع الوقود المحرك للاقتصادي المخوصص ( بعد تحرير الاقتصاد). في ظل الاقتصاد المحرر، أصبح الدعم وسيلة لتنمية جشع المنتج، وتكريس الاتكالية لدا المستهلك. ولعل أكبر مثال على ذلك هو استمرار الأقطاب الكبرى مثل كوكا كولا والمكتب الشريف للفوسفاط ومصانع البيسكويت... في الاستفادة من دعم السكر والفيول والدقيق وزيت المائدة...، وارتفاع صيحات استنكار الفقراء لرفع دعم المنتوجات الأساسية. فبعد اكتفاء الدولة بدور الموجه وفق الاستراتيجيات الكبرى، ألقي أمر الاقتصاد المحرر على عاتق المجتمع والشركات العملاقة. و من ثم، لم يعد هناك موطئ قدم لطرف ثالث (الدولة) بين عارض السلعة والطالب المستهلك، يتوسط العملية ليكون في نفس الوقت العارض والطالب. أي أن الدولة المستثمرة والمزودة للمواطن ومعها الأشكال التدبيرية لهذه المرحلة لم تبق لها في التاريخ مصوغات الاستمرار. لذا فإن الإبقاء على الموازنة في تحقيق الحاجيات الأساسية أصبح متجاوزا، بعدما خوصصت الدولة قطاعاتها الأكثر إنتاجية، التي تدر عليها من الأرباح ما يمكن أن تضخه في صندوق المقاصة من جهة، وخصوصا مع تزايد الطلب من جهة ثانية. إلى جانب خطأ خوصصة القطاعات الحيوية، سقطت الدولة في فخ المغادرة الطوعية، دون أن تواكبها بعمليات إصلاح الاقتصاد والوضع الاجتماعي بشكل يصب في إصلاح صندوق الموازنة. فغالب المواد المدعمة تُستورد، ولا تنتج داخل البلد. على سبيل المثال استقبل ميناء الدارالبيضاء لوحده 450 ألف طن سنة 2006 من السكر، ولتزايد الطلب انتقلت الحصة إلى 740 ألف طن سنة 2010. إلا أن الملفت حقا هو كون الكمية الكبرى المستوردة تستفيد أيضا من دعم، يوجه إلى كبار سماسرة التجارة الدولية، وليس إلى المنتج المحلي. لذا أصبح الإصلاح يفرض نفسه بشكل يخدم الاقتصاد والمجتمع الوطني معا. ولتحقيق هذه المعادلة في وضعية الدول ذات الاقتصادات الانتقالية نحتاج إلى عمق تفكير لاجتياز المرحلة بدون تأثيرات سلبية، تدمر الاقتصاد وتوسع دائرة الفقر. إن الإقلاع الاقتصادي لدول آسيا قام على ركيزة أساسية، تتمثل في تأهيل الموارد البشرية باعتبارها الرافعة الضرورية للتنمية الاقتصادية. لذا لم تخرج قط النماذج التنموية الناجحة عن قاعدة تثمين الرأسمال البشري كقنطرة لتثمين عموم الموارد الاقتصادية. في هذا الصدد، يمكن النظر إلى إصلاح الصندوق من زاوية تأهيل الموارد البشرية بشرط اندماجها في سلسلة الإنتاج وبلوغ الرفاه، والقطع مع سياسة التبرع عليها لتكون قادرة لِوُلوج الاستهلاك الأساسي الضيق. أي اكتساب الجرأة على الانصراف إلى دعم القدرة على الإنتاج لتحقيق القدرة على الاستهلاك الداعم بدوره للقدرة على الإنتاج الوطني. يمكن الاتجاه إلى هذا الهدف بتدخلين يخدمان إستراتيجية ربح نقط تنموية إضافية بوضع خطة استعجالية متوسطة المدى. فلا يمكن بلوغ الإصلاح ما لم يحدد سقف زمني معقول؛ إذ يمكن رفع شعار "عشرية إصلاح الصندوق"، تتدرج فيه الدولة وشركاؤها بتقليص الدعم بحصص مقبولة، تنتهي بنهاية الولاية الانتخابية القادمة. ولأجل ضمان نجاعة العشرية يمكن ربط تقليص حصص الدعم بعدد مناصب الشغل الجديدة؛ فميزانية 50 مليار درهم التي تخصص للصندوق سنويا وحدها كافية لإحداث 100000 منصب شغل. وإذا اجتهدت الدولة في البحث عن تمويلات جديدة فإنها قد تتجاوز هذا الرقم، الذي من شأنه أن ينعكس إيجابا على عدد كبير من الأسر. إننا أمام خصاص إداري حاد في الموارد البشرية، سيتفاقم بإحالة أفواج توظيفات أواسط الخمسينات؛ إذ ستفرغ القطاعات الاجتماعية (التعليم والصحة) من أطر لا يمكن غض الطرف عن تعويضها بتوظيفات جديدة، يتوخى من ورائها أبعاد. سيحرك تشغيل 100 ألف شاب قطاعات النقل والبناء والسكن... التي تعد قاطرة لمشاريع، تشغل حاليا قطاعا واسعا، يُنذِر توقف اوراشها بالتحاق العمال بالطبقات المعوزة، التي ستشكل جيبا إضافيا، يبتلع بشراهة المنح العمومية. ولعل توفير الشغل يعني الرفع من قدرة الفرد على الولوج إلى الخدمات العمومية كالتطبيب، الذي تعتبر منح "برنامج راميد" نموذجا لهدر المال العام وتوسيع دائرة الزبونية والمحسوبية. كما أن توفير مناصب الشغل سينعش صناديق المعاش والضمان، التي تواجه صعوبات في أداء المعاشات والعجز عن الرفع من قيمتها وتغطية كل مصاريف علاجات المنخرطين. ولعل هذا الجانب سيثمر تأثيرات إيجابية على الأسرة ككل، وليس على الفرد كما هو بالنسبة لخيار الدعم المالي لرب الأسرة. الأكيد أن تحرير سعر بعض المواد كالسكر والزيت... ينبغي أن يندرج في إستراتيجية تنمية العالم القروي. فالفلاح سيقبل على زراعة قصب السكر بكثافة، قد تُضاعِف الحصة المفروضة بالمناطق السقوية. بل إن التحرير المتدرج سيجلب استثمارات وطنية وأجنبية، تضطلع بمختلف مراحل الإنتاج المحلي لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتوفير مزيد من فرص الشغل الفلاحية. وإذا افترضنا أن الرقم المشغل قرر الزواج، فسيصبح عدد الأسر التي تأثرت اجتماعيا يتجاوز ضعف العدد المشغل، مما سيقلص عدد الفقراء بدرجات جد متقدمة. انطلاقا مما سبق، يشكل المدخلان الاقتصادي والاجتماعي المعادلة الأساسية لإنجاح مراجعة صندوق الموازنة. كما يعتبر التناغم المستمر بين العامل الاقتصادي والاجتماعي على مستوى تبادل التأثيرات وتنويعها أهم أبعاد إصلاح الصندوق. لذا يمكن التفكير في مخطط استراتيجي يدمج عمليات الترقي الاقتصادي بما هو اجتماعي، وتشجيع المشاريع الاقتصادية المرتبطة بالمواد الأساسية المدعمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من جهة أولى، وتوفير فرص شغل من جهة ثانية، وتخفيض الأسعار لبلوغ الرفاه من جهة ثالثة.