لا ينكر أحد أن حكومة بنكيران قد ورثت مغربا مثخنا بالجراح ومثقلا بمشاكل بنيوية في جميع مستويات الدولة، حتى نقر منذ البداية بحجم المسؤولية الملقاة على عاتق حكومة "الربيع الديمقراطي" إن جازت هذه التسمية، كما نقر بحجم الصعوبات التي يمكن أن تواجهها في مسيرتها الإصلاحية، خاصة وأن المغرب لم يعرف حالة ثورية شبيهة بباقي دول الثورات، مما يعني أن قاطرة الإصلاح لن تبرح مكانها مادامت جيوب المقاومة مستقرة وفي أعلى مستويات الجاهزية لعرقلة أي عملية إصلاح حقيقية قد تنوي الحكومة الحالية القيام بها، مما يعني أن عملية الإصلاح ستكون شبيهة بالالتفاف حول الصخرة عوض مواجهتها والانكسار عند أول الطريق، وهو ما يتطلب ردحا من الزمن الذي قد لا يطيقه المواطن البسيط الذي يعيش تحت وابل من الأزمات. على اعتبار أن قوى الإصلاح الجذري من داخل الحكومة تفتقد إلى قوة ضغط من داخل الشارع التي يمكن أن تعطيه قوة ووزنا في ميزان التفاوض والضغط على لوبيات الفساد وقوى الاستبداد، ذلك أن حركة الضغط من داخل الشارع هي رأسمال أي قوة إصلاحية صاعدة، ولذلك فحزب العدالة والتنمية حري به الاستفادة من الحراك الشعبي بدل استعدائه ومواجهته بالقمع الشرس (على اعتبار أن السيد رئيس الحكومة هو المسؤول الأول أمام الشعب عن هذه الممارسات) الذي نشهده ضد كل من سولت له نفسه التطاول على هيبة الدولة من خلال الاحتجاج السلمي الذي يكفله القانون ومقومات المواطنة الكاملة. إن هامش مناورة حزب العدالة والتنمية في مسيرته الإصلاحية رهين بانحيازه لنبض وحركة الشارع في تكامل فريد بين الإصلاح من الداخل والضغط عبر الشارع، وليس إقبارها "وللعب بالنار غادي تحرقو" لأن التناقض الجوهري لحزب العدالة والتنمية اليوم هو جيوب المخزن والفساد الممتدة عبر السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام. إن المتتبع لمواقف وتصريحات الحكومة يكاد يجزم بعدم خلوها من لغة تستبطن عداء خفيا لحركة الشارع التي تسارعت وتيرتها في الآونة الأخيرة، إلا أن مواجهتها لا يتم إلا من خلال نمذجة حركة الشارع ضمن قوالب جاهزة حتى يسهل عليها استعداؤها بشكل مقبول. فالاعتقاد بكون أن جهات معينة وراء تصاعد الاحتجاج مؤخرا، فكرة مخزنية بالأساس أكل الدهر عليها وشرب، وكأن شروط الاحتجاج بالمغرب ليست قائمة بالمرة، وكأن كل احتجاج ما هو إلا محاولة لإفشال التجربة الإصلاحية التي يقودها السيد بنكيران. إن الحراك الشعبي المستعدى اليوم بشكل ممنهج هو ما أتاح الفرصة للإسلاميين للوصول إلى سدة التدبير الحكومي، بل هو ما أدى إلى أكبر إصلاحات دستورية لم تكن متوقعة حتى من قبل أكبر المتفائلين. ولذلك وجب الانحياز المبدئي إلى الخيارات الشعبية في جميع المجالات خاصة منها المجال الحقوقي وعلى رأس هذه الحقوق الحرية والتي تعتبر بوابة الإصلاح الحقيقي بالمغرب، فالاستمرار في التضييق على الحريات في مغرب ما بعد الربيع الديمقراطي يعتبر غير مقبول ويرسل رسائل سلبية غير مطمئنة، وعلى حزب العدالة والتنمية أن يحذر من التقمص الوظيفي لأدوار المخزن التاريخية التي كانت ولازالت تستعدي بشراسة كل الانتفاضات الشعبية المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فتبرير الإجهاز على كل صوت معارض ليس له إلا حنجرته يصدح بها في وجه "الحكرة" والإقصاء الاجتماعي، وتبرير كل ذلك ب "حفظ هيبة الدولة" في ظل "هبات الدولة" للأقليات المتنفذة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، في حين تبقى الجماهير العريضة من أبناء الوطن تعيش أقصى أشكال الفقر والتهميش والقمع. كل هذا قد يفقد حزب العدالة والتنمية التعاطف الشعبي معه بل ودعمه ميدانيا إن اقتضت الضرورة، فالمواطن لا يعرف تحديات البيت الداخلي ولا يفقه في الإصلاح التدرجي إن مست لقمة عيشه وأهينت كرامته. إن المغرب اليوم يمر بظروف دقيقة للغاية وحالة متوترة على جميع الأصعدة، مما يتطلب نوعا من الحكمة في تدبير عدد من الأزمات وعلى رأسها ما يخص المسألة الاجتماعية بالمغرب، التي تعتبر هدفا لكل السياسات العمومية والاستراتيجيات التنموية، مما يدفعنا للقول بأن على بنكيران أن يكون حذرا للغاية في التعامل مع هذه القضية بشيء من التعقل، لأن حكومته قد ورثت واقعا مزريا، ولذلك فالحلول التي وجب البدء بها لابد أن تكون حلولا بنيوية تمس جوهر المشكل لا نتائجه، بحيث على الحكومة اليوم أن تغير الأسباب إذا ما أرادت أن تتغير النتائج، فالريع الاقتصادي والتهرب الضريبي والفساد السياسي والانتقال الأمني والتوزيع العادل للثروة والملف الحقوقي بكل تعقيداته كلها قضايا ذات أولوية إذا ما وجدت لها الحكومة حلولا ناجعة سوف نرى انفراجا نسبيا للاحتقان الذي يعرفه المغرب الاجتماعي، لكن وجب البدء بالمصالحة مع الجماهير، وإن كنا سنتفهم أن الدولة غير قادرة على حل مشاكل الجميع فإننا لن نقبل منها أن تقمع الجميع، فإن خسر المغرب على المدى القريب معركة التنمية التي تحتاج صبرا وطول نفس، فمن غير المقبول أن يمنى بهزيمة غير مسبوقة في معركة الحقوق والحريات. [email protected]