لقد أكدت التجارب أن البطء في وثيرة التغيير في مجتمع ما، وصعوبة المرور من وضع قائم إلى آخر أفضل منه بالسرعة المطلوبة، لهما ارتباط وثيق بمستوى وطبيعة التواصل بين الأفراد داخل المجتمع برمته وداخل تنظيماته ومنظماته المختلفة. ففي المجتمعات التي تعاني من نوع من الجمود أو الغموض الثقافي يكون عدد كبير من أفرادها، كبارا وصغارا، نساء ورجالا، يعانون، بشكل أو بآخر، من تداعيات الاختلال الذي يميز العملية التواصلية وأصول النقاش وتعدد الآراء وقبول الآخر والتفاعل الإيجابي معه. فإلى جانب النقص الذي يكتنف مجال التواصل السياسي والثقافي، كملاحظة عامة تميز طبيعة العلاقات بين أفراد هذا النوع من المجتمعات، نجد كذلك أن هناك نوع من عدم الاستعداد لفهم الحمولات والإشارات المتبادلة بين المكونات المجتمعية والتوجه العام لمؤسسات الدولة، ونوع من عدم القدرة على استيعاب آليات تقوية العلاقات فيما بينهم في اتجاه ترسيخ العزم المجتمعي لمسايرة الركب الحضاري كونيا. إن استحضارنا لكلمة "علاقة" في هذا الشأن لم يتبادر إلى ذهننا صدفة، بل دافعنا في ذلك هو إثارة انتباه القراء أن معناها أقل ما يمكن أن يجسد هو وجود "ارتباط" قوي يشعر من خلاله كل فرد في المجتمع بالتعلق والاعتراف بالآخر وضرورة التعاون معه. بالطبع، تقوية هذا الارتباط يتطلب توفير شروط معينة كالجاهزية والاستعداد المرتبطين بدورهما بالتربية والتكوين والإشعاع للثقافة العقلانية. وعليه، إن ما يميز تقدم بعض الحضارات هو قدرة شعوبها على جعل الانتماء إليها شعارا ساميا تتقوى من خلاله الروابط المجتمعية بالشكل الذي يضمن الارتقاء بالمواطنة إلى مستويات تجعل عطاء الفرد والجماعة متميزا كما وكيفا على المستويين الداخلي و الخارجي. فإذا كان فضاء الجنين في بطن أمه لا يمكن أن يكون طبيعيا إلا إذا توفرت فيه مجموعة من المكونات تضمن تطور الجنين وإعداده ليوم الولادة (فضاء بوظيفة مضبوطة تخدم تطور الجنين، طفل المستقبل، من خلال حبل سري، ومشيمة، وسائل سلوي، وغشاء يحوي كل هذه المكونات)، فإن مردودية الفعل المجتمعي بدورها لا يمكن أن تسمو إلى المستوى المطلوب إلا إذا كانت العملية التواصلية بين الأفراد والجماعات قوية ومنتجة. وبذلك تبقى عملية تقوية العلاقات الإنسانية المنتجة داخل المجتمعات في حاجة ماسة إلى توفر مجموعة من الشروط التي تضمن نموا طبيعيا وصحيحا للطفل بيولوجيا واجتماعيا. فإضافة إلى ضرورة تغذية العلاقات المجتمعية ب"المحبة" والروابط العاطفية، فإن المجتمع بطبيعته يحتاج إلى طاقة حيوية بين الرجال والنساء، وإلى سياق سياسي وثقافي وتربوي يساعد الفرد على التعريف بنفسه والتعبير عن رغبته المتواصلة بأن يكبر وينمو ويقدم أفضل ما لديه. إن الإنسان ككائن اجتماعي لا يمكن أن يكون سويا نفسيا إلا في حالة تمكينه من إظهار كل ما لديه من أشياء جديدة كامنة بداخله من أجل إرضاء الآخر والحصول على استحسانه والاعتراف به. كما يطمح في نفس الوقت إلى التميز في محيطه الاجتماعي وفي وطنه، واحتلال المكانة المواتية والموقع المشروع فيهما على السواء. كما يطمح بالموازاة أن تغمر حياته العاطفة والشعور بالحنان والاهتمام (أن يستمع إليه الآخرون). إنها الاعتبارات الوجودية التي تجعل الإنسان دائما، ككائن العلاقات، في حاجة إلى ارتباطات دائمة وقوية مع الآخرين، علاقات يبحث عنها بشكل متواصل ودائم. فكما هو الشأن بالنسبة للجنين في بطن أمه، وما يتطلب تواصله معها وتطوره الجسماني من شروط وحاجيات، تمكنه من المرور من مرحلة المضغة إلى مرحلة الطفل المكتمل المستعد للانطلاق باتجاه الحياة، يحتاج الفرد في المجتمع إلى تقوية تواصله مع الآخرين وتقوية مكانته بينهم، والاعتراف به كإنسان بكامل أوصاف الإنسانية. وفي هذا الشأن، أكد المختصون أن تحقيق هذا الهدف يبقى مرهونا إلى حد بعيد بمدى وعي الكبار بمدى أهمية الإنصات إلى الصغار والاعتراف بكينونتهم. إن التزام الكبار بالإنصات الدائم للأطفال هو الوسيلة الوحيدة لتنمية قدراتهم التواصلية في المجتمع الذي يعيشون فيه. بالإنصات إلى الطفل بشكل دائم ومتواصل، يتعلم بدوره، مع التقدم في السن، الإنصات إلى الغير وقبوله وتوسيع هامش التفاعلات معه. إن عملية الإنصات بعناية إلى الصغار لا حدود لها ولو من أجل الاستماع إليهم، وحتى في حال صعوبة أو استحالة تنفيذ طلباتهم أو عدم فهم مقصودهم. إن الوعي بأهمية الاستماع إلى الطفل تتطلب قبليا الوعي بحاجياته الحقيقية التي لا تختزل في الحاجيات الرائجة بين الأسر الشعبية (الحاجة إلى العناية فقط، الحاجة إلى الوالدين، الحاجة إلى النهي والمنع لكي لا يفعل الطفل ما يشاء،...)، بل تتفرع إلى حاجيات متكاملة ومضبوطة وضرورية منها أولا الحاجة إلى العيش (الطعام، الشراب، النوم، التنفس، الدخول إلى الحمام،...)، والحاجة إلى الأمان والحماية بالحب والقدرة على حب الآخرين، والحاجة إلى العلاقات الاجتماعية والانتماء، والحاجة إلى الاعتراف بالنفس والمشاركة والتواصل والإبداع، والحاجة إلى التمييز والشعور بالتجديد والتفوق، والحاجة إلى التطور، والحاجة إلى التفعيل والتفريد، والحاجة إلى التصالح مع النفس والاتحاد معها. بالطبع، الوعي والاعتراف بحاجيات الطفل السالفة الذكر هي أمر صعب لكونه يستوجب اضطرار الكبار إلى التخلي عن عوالمهم الخاصة والانضمام إلى عالم الطفل، العالم الذي يرسمه لنفسه وبطريقته الخاصة. إن هذا التخلي هو أول تعبير عن قبول الاختلاف عن الآخر وتقبله ولو كان طفلا، وبهذا التقبل بشموليته يترسخ في المجتمع الاعتراف بالطفولة وخصوصياتها وحاجياتها الحقيقية. ويتحول ذلك إلى "قانون" للاعتراف بالنفس والاعتراف بالآخر، وتتحول علاقة الفرد بالآخر في المجتمع إلى أساس لوجوده ولعلاقته بالعالم الخارجي. وعندما نتكلم عن الاعتراف بالطفل والطفولة نعني بذلك أولا الابتعاد عن فرض معتقداتنا عليه (المعتقدات الخاصة بالطعام، والنظافة، واللباس،...)، وثانيا تمكينه من الوعي كونه مختلف عن الآخرين وأنه يملك أفكاره الخاصة، وأنه غير مضطر لتقليد الآخرين لكي يتمثل بهم. والحالة هاته، يصبح واجب الاستماع إلى الطفل لا يقتصر على الكلام، بل يشمل كذلك تتبع ومراقبة حركاته للتعرف عليه جيدا ومعرفة كل ما يريد من خلال تعبيراته المختلفة والتي تكون على شكل إشارات، وأفعال، وعادات سلوكية، وتجسيدات، ورموز. فبإتقان التواصل مع الطفل من كل جوانبه والوعي بمغزى تعبيراته المختلفة وتفكيك رموزها، تتقوى قدراته على التواصل في الكبر مع الآخرين وتتقوى علاقاته مع أفراد مجتمعه ومع فضاءه الخارجي بصفة عامة. ومن ضمن التعبيرات الأكثر تداولا في سلوكيات الطفل نذكر: • الإشارات: إن الوعي بضرورة فهم إشارات الطفل هي أساسية في تقوية علاقاتنا التواصلية به. وتشمل هذه الإشارات حركاته وسلوكه وتصرفاته التي يقوم بها جسده... إنها كل ما يصدر عن علاقة تبادل بين جسمه ومحيطه. فإذا كان الطفل الصغير يعبر على قدرته على التواصل المطول مع طفل آخر من خلال الحركات فقط ومن خلال اللعب، فهو لا يطيق تجاهله من طرف أبواه أو عدم معرفتهم أو فهمهم لحركاته حيث يسبب له ذلك حزنا وألما شديدين. وأمام هذا الشعور، يجد نفسه في وضع اضطراري لإعادة الحركة ذاتها وتكرارها مرارا أمام والديه آملا الحصول على الاهتمام الذي ينتظره. وأكد المختصون في هذا الشأن كذلك أن حتى تبادل الرائحة بين الطفل وأبواه تعد لغة تواصلية قوية، وينصحون بالعمل على تقريب الطفل من جسم والديه لكي يتبادلا المعرفة من خلال حاسة الشم والتنفس. • البصر: لقد تأكد علميا أن الطفل يتقن لغة البصر. فهو يتقن فهم ومعرفة ما يقوم به الكبار، وينتبه إلى أكثر التفاصيل دقة. فإضافة إلى قدرته الطبيعية لمعرفة موقف الوالدين من تصرفاته عبر البصر والتمييز في تعبيراته (نظرة التحدي، نظرة الرجاء، نظرة الغضب، نظرة السعادة، نظرة الكآبة، نظرة المرض،...)، فإنه يحتاج على الدوام إلى النظر إليه والاعتراف بوجوده من أجل التأكد من مشاعر الآخرين قبل التعبير على عواطفه الداخلية. ومن أجل تقوية التواصل عبر البصر، ينصح المختصون الكبار بضرورة التمييز بين الرغبة والطلب، والتعامل مع الرغبات، التي لا تنتهي عند الطفل، بعقلانية وذلك بالاستماع إليها باهتمام شديد والرد عليها عند الاقتضاء والحيلولة دون كبتها وصدها جميعها. • الابتسامة: الابتسامة هي دعوة جاذبية إلى العالم الخاص سواء بالنسبة للكبار أو الصغار. والضحك من الأعماق، الذي لا يتكرر في أي وقت كان كما هو الشأن بالنسبة للابتسامة، هو لغة تواصلية أكثر صدقا لكونه نابع من الداخل. • التنفس: إن الطفل، من خلال تعامله وتفاعله مع والديه، يحس، من خلال تغير تنفسهم وقوته أو اضطرابه، أن ما بدر عنه يمكن أن يكون مصدر فرح أو ضيق أو قلق أو انزعاج. فعندما يطرح الطفل على أمه سؤالا له علاقة بحدث محزن (وفاة شخص عزيز عليها مثلا)، طريقة تنفسها ورد فعلها بمطالبته بفعل شيء لا علاقة له بالسؤال تمكنه من اكتشاف أن سؤاله لم يكن في محله. • الضغط: إن الضغط يولد الانفجار. فعند تعرض الطفل لحركات عنيفة أو ردات الفعل القوية، يكون في وضعية لا تمكنه من فهم كل شيء واستيعاب كل ما يدور حوله، لكن جسمه يتفاعل مع هذه الأوضاع بطريقة خاصة (الحزن، الغضب، الخوف، الشعور بالتهديد،...)، ويقوم بالاحتفاظ بمجموع الحوادث إلى سن أكبر، ليتذكرها بعد كبتها لسنوات مضت، ويفجرها على طريقته الخاصة سواء بالغضب أو بالانزواء أو بالهروب،...إلخ. • الطاقة: أمام أحداث معينة، يتحول الشعور إلى طاقة، طاقة يمكن أن تكون ايجابية (تشكل نوعا من الفيتامينات) أو سلبية (تشكل نوعا من السموم). فجراء الشعور بالحزن تتولد الطاقة السلبية، وجراء الشعور بالفرح والارتياح تتولد الطاقة الايجابية. وهذه الطاقة، سلبية كانت أم ايجابية، تنقل بسهولة كبيرة من شخص لآخر عبر إثارة الشعور. • الصمت: الصمت بدوره لغة ليست كباقي اللغات. إن لجوء الطفل المتكرر إلى الصمت يكون دائما الهدف منه هو إرسال إشارة ما لمحيطه. وكلما تعاطى الطفل لهذه اللغة، بسبب غياب الاستماع إليه وفهم صمته في محيطه، تتعاظم لديه حدة الصعوبات في التواصل حيث يكون مصيره، في حالة تفاقم المشكلة مع السن، اللجوء إلى الانزواء والابتعاد. إن الصمت الشعوري يكون خطرا على الطفل لأنه قد يفقده، مع مرور الوقت، كافة وسائل التعبير على النفس. لذا ينبغي على الكبار، وكل الراشدين الذين يتواجدون بشكل مكثف في حياة الأطفال، أن يحاولوا دائما كسر كل الحواجز لإعادة الطفل إلى عالمه الحقيقي، الذي يمكنه من التعبير بصوت عال عن النفس وعن المشاعر بشكل خاص، وإلا تحول مع مرور الوقت إلى "معاق" شعوري، وإلى إنسان ضعيف في نظر محيطه. • الفعل: عندما يكون الطفل في حالة فعل يكون في حالة تواصل مع الآخر (الركض، الضرب، العض، الركل، التشبث بالشعر أو اليدين، البكاء الصامت، خفض العينين، إخفاء الوجه،...). وغالبا ما تكون هذه الأفعال لغة لقول ما يصعب نطقه، أو تكون وسيلة للتعبير عن مواجهة أو تناقض. الفعل هو سلاح الطفل للدفاع على نفسه وحمايتها ابتداء من سن عشرة أشهر. وأمام هذه الحالة، أي أمام تكرار حالة الفعل، لا يجب على الوالدين القلق، بل اعتبار ذلك ردة فعل طبيعية، يقوم بها الطفل لإثارة الانتباه، بل هي دعوة إلى منحه المزيد من الاهتمام والعاطفة، أو إشارة إلى شيء يخيفه. وكيف ما كان الحال، فرد الفعل الداخلية، أي الانطوائية، هي أخطر بكثير من ردة الفعل الخارجية، أي التعبير للآخر. • الاعتداء على النفس: عندما يعتدي الطفل على نفسه (يشد شعره، يلطم رأسه بالحائط، يخدش بشرته، يعض شفتيه،....)، فهو يعبر عن طموح لتحقيق وجوده من خلال مكافحة التفكك والبحث عن الإحساس بكافة أجزاء جسده. • الاعتداء على الآخر: يلجأ الطفل إلى هذا الفعل عندما يشعر بعدم الاستقرار أو بالخوف. بالاعتداء على الآخر يحاول الطفل تأكيد ذاته ليقول لمحيطه "أنا موجود"، أو لإثارة الانتباه وأخذه بعين الاعتبار. فعندما يخبئ الطفل شيئا مهما في ملك والدته، ويرفض البوح بمكان اختبائها، فهو يعبر لمحيطه أنه أهم من تلك الأشياء المخبئة. ويمكن أن يعبر بهذا السلوك على رفضه فكرة "ملكية الآخرين"، وحب الامتلاك لديه، أو عن لفت النظر أو الاهتمام، أو عن المطالبة بشيء ما، أو عن حماية النفس، أو عن الغيرة أو الشعور بالاستبعاد. • العادات: العادات هي مجموع الحركات الدائمة والمعتادة التي يحاول الطفل من خلالها الاستيلاء على العالم الخارجي، أو الدفاع على النفس من كافة تهديدات المحيط. ويدخل في هذه العادات طريقة النوم والاستيقاظ، وطريقة الاستحمام، وكيفية تناول الطعام،...إلخ. فصعوبة الاستيقاظ مثلا هي تعبير عن خوف من مواجهة العالم الخارجي (الخوف من الذهاب إلى المدرسة أو الروض مثلا لسبب من الأسباب). كما أن ضم الطفل للعبة المصنوعة من القماش هو تعبير منه عن حاجته لشم رائحة أمه أو أبيه من خلال اللعبة ليطمئن لوجودها بجانبه وهو يحاول النوم. فرائحة أمه وأبيه، كرمز لوجودهما في مخيلته، هي وسيلة تمكنه من ربط عالمه الحقيقي، أي النهار، بعالمه الوهمي الفارغ، أي النوم والليل. • التجسيد: التجسيد هو أهم لغة عند الأطفال، بل ولغتهم المفضلة. فعندما لا يجد الطفل منفذا للتواصل بالكلام، يبحث عن الآلام للتعبير عن النفس من أجل لفت النظر إليه (التهاب الأذن، آلام في البطن، طفر في الجلد، التبول في السرير،...). في هذه الحالات، قد يلجأ الآباء والأمهات إلى الطبيب بينما الأمر لا يتطلب إلا وجود الاستعداد الواعي الدائم للأهل من أجل فهم السبب الحقيقي لسلوك أولادهم، معرفة تعتمد على الاستماع بوعي لمختلف تعبيراتهم. فعندما يشكو الطفل مثلا من آلام الأذن، فهو يعبر عن اشمئزاز مما يسمعه من خصومات وصراعات ومشاكل منزلية. وعندما يشير إلى الأذنين، فهو قد يعبر عن استياءه من عدم الاستماع إليه. وهنا، وبمجرد حرص الوالدان على الاستماع إليه، يتشافى من التهاب الأذن أو الأذنان دون اللجوء إلى أي دواء. كما أن في حالة عدم الاهتمام بالطفل، يمكن أن يلجأ إلى أدية المولود الجديد، ليس جراء الغيرة أو الكره، وإنما فقط للفت أنظار الوالدين إلى وجوده ولدعوتهما إلى الاهتمام به مجددا. إنها لغة يلجأ إليها الطفل من أجل المناداة ولفت الأنظار إلى شيء مهم في حياته، لغة يترجمها على شكل إشارات سلوكية وصحية تهديدية. وهنا ينصح المختصون بالاستماع إلى الطفل (حتى عندما يتكلم بلغة غير مفهومة)، لأنه عن طريق هذا الكلام غير المفهوم يعرف الطفل قيمته ويشعر بذاته وأهميته بشكل أكبر، لاسيما عندما نحاول الاستماع إلى كل ما يقوله، ونحترمه. وكلما طلبنا من الطفل اللجوء إلى طريقة أخرى للتعبير على ما يريد قوله لأننا لم نستطع استيعاب تعبيراته الأولى، وأبرزنا اهتمامنا به، كلما أصبحت علاقاتنا به متينة. لذا يجدر دائما سؤال الطفل عما يريد قوله عندما يصاب بالتهاب الأذن، أو بألم البطن، أو بكابوس مزعج،...الخ. • الرموز: التعرف الجيد على لغة الرموز التي يستعملها الطفل هو السبيل الوحيد للتقرب من حقيقة عالمه الوهمي الذي يعيش فيه، والتعرف عليه أكثر. فكل ما يروج في عالم الطفل يلتقطه، ويحوله إلى لغته الخاصة، أي إلى حقيقته الخاصة، وبطريقته الخاصة يترجم كل ما التقطه إلى رموز، قد يسهل تفكيكها وفهمها في بعض الأحيان، كما قد يصعب في أحيان أخرى. وهنا يتجسد إبداع الأطفال، وهنا كذلك وجب على الكبار إقامة علاقات قوية معهم، بل الأهم هو اكتساب المهارات التربوية التي تمكن من التقرب من عالمهم الخاص ومن رموزهم المستعملة للتمكن من إقامة الحوار معم بشكل دائم. إن الأطفال يعلمون أشياء كثيرة نحن لا نعرفها، لذا وجب التعامل مع معلوماتهم بدل الاستناد على معلومات الكبار. خاتمة: إن آليات تفعيل الديمقراطية الحقة داخل مجتمع ما لا تنحصر في حق الشعب في اختيار من يمثله، بل تتطلب أيضا مشاركة فعلية للشعب في تدبير شؤونه المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية والدولية. وعندما نتكلم عن المشاركة نتكلم على ثقافة تقبل الآخر والعمل سويا معه والاستماع والإنصات والتواصل المستمر إليه. هذه الثقافة، كأساس لخلق الدينامكية في حياة الشعوب والأمم، لا يمكن ترسيخها إلا عبر التربية والتعليم في الأسرة والمدرسة وفي جميع فضاءات التنشئة المختلفة. فكلما تم الوعي بأهمية الإنصات إلى الطفل والتمكن من تفكيك رموز تعبيراته المختلفة منذ الولادة إلى تجاوز المراهقة كلما ساهمنا في ترسيخ ثقافة الاستماع والإنصات والحوار داخل المجتمع. ويدخل في هذا الباب ضرورة أن نتحدث مع الأطفال حول حاجاتهم، وكيف يطلبونها، وكيف يتقبلوا تأخرها أو عدم الحصول عليها (مطالب موضوعية قابلة للتحقق)، وتعويدهم على إخبار الوالدين بما يريدون، وما يطمحون إليه من غايات وحاجيات. التحدث مع الأطفال هو نصف الحل في العملية التواصلية، والاستماع إليهم هو النصف الآخر. بالإنصات الدائم للطفل يتمكن الوالدان من إيصال مشاعرهما له وتمكينه في نفس الوقت من الحرية في التعبير والمناقشة معهما بدلا من إسكاته أو تعنيفه. ووفقا للبحوث العلمية، فإن الاستماع مهارة تعني تركيز الاهتمام على المعلومات الواردة وتمحيصها. ويجب على الوالدين أن يعطيا لأبنائهما نموذجا سلوكيا لحسن الاستماع، وتقديم المشورة لهم بشأن طرق الاستماع وذلك من خلال إبراز النقاط الأساسية في المحادثة، وطرح أسئلة ذات الصلة بالمواضيع المطروحة. ومن المفيد في بعض الأحيان أن نظهر للطفل أن المستمع الفعال هو الذي ينظر إلى المتكلم في عينه، وان يقوم بإغلاق التلفاز للتأكد من عدم وجود عوامل تشتت خارجية تؤثر على قدرة المستمع على السمع والتواصل. فعندما يستمع الوالدان إلى أطفالهم باهتمام وانتباه وصبر يقدمون نموذجا رائعا لحسن الاستماع والتواصل وثقافة قبول الآخر والتفاعل معه.