يعتبر التعاقد مفهوما قديما جديدا، ظهر قبل ظهور الدولة، حيث سادت الأعراف والعادات لتدبير الحياة الاجتماعية؛ والتعاقد يتم بين طرفين أو أكثر، بدءا بعملية التفاوض وصولا إلى الاتفاق حول ميثاق معين يوضح العلاقات بين الأطراف المتعاقدة، ويتطلب ثلاثة مبادئ أساسية تتمثل في مبدإ حرية الاقتراح والتقبل والرفض، ثم مبدأ التفاوض حول عناصر التعاقد، وأخيرا مبدأ الانخراط المتبادل في إنجاح التعاقد. إن التعاقد موجود في العلاقات الاجتماعية، بل إن المجتمع ككيان موحد يعتمد على مجموعة من التعاقدات الضمنية، والمصرح بها، ويتخذ التعاقد أشكالا متنوعة بتنوع أطرافه، وباختلاف أنظمة المجتمع، والتي من بينها النظام التربوي الممثل بصفة خاصة بالمدرسة والأستاذ، باعتبارهما طرفا متعاقدا مع المجتمع المحلي الذي ينتميان إليه؛ وما يلاحظه المتتبع للشأن التربوي وكذلك المواطن العادي، هو اختلاف التعاقد بين المؤسسة التربوية ومحيطها السوسيوثقافي بين الأمس واليوم، إذ أصبحنا نرى هوة كبيرة بين طرفي التعاقد وهما المدرسة والمجتمع المحلي. ولسبر أغوار هذا الموضوع لابد من طرح الأسئلة التالية: - كيف كان التعاقد بين المدرسة المغربية والمجتمع في الماضي؟ - وما أسباب انقطاع التعاقد بين المدرسة والمجتمع في الحاضر؟ - وما هي الحلول القمينة لإرجاع الثقة بين المدرسة ومحيطها؟ إن المدرسة المغربية كانت منفتحة على محيطها بشكل تعاقدي مع الأستاذ، فالتعلم كان يتم عن طريق المشاركة الفعلية في شؤون الحياة المدرسية، وكان المعلم الساهر على تعليم الأطفال يخضع في وظيفته إلى مراقبة الجماعة، فهي التي تتعاقد معه عن طريق الشرط، كما كان المنهاج المدرسي ترجمة عملية لأهداف التربية واتجاهاتها في المجتمع، ومنبثقا من حاجات البيئة التي يعيش فيها الأفراد ومن متطلبات تنميتهم؛ بل كان العرف جاريا على أن يضع الأب الخطوط العامة في طريق تعليم ولده وتهذيبه، وذلك بتحديد المواد التي ينبغي دراستها وتحديد طرق ووسائل تأديب الصبي؛ وقد ظل هذا الوضع قائما حتى نشأت المدارس النظامية، وعمّ انتشارها في جميع البلاد، وأصبح المعلمون يعينون من طرف السلطة التي لها حق الإشراف على التعليم والتحكم في المناهج؛ وسبب ذلك الظهور هو تعقد الحياة والتطور واتساع المعارف الإنسانية وتدوينها وظهور الحاجة إلى التخصص والكفاءة، وبالتالي تقلصت فرصة إشراف المجتمع المحلي على التعليم المدرسي النظامي. إن أسباب اضمحلال قيمة التعاقد بين المدرسة والمحيط المحلي كثيرة ومتنوعة، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو تربوي؛ ومن بين الأسباب نجد استمرار التخطيط العمودي من الأعلى نحو الأسفل، ومن الإدارة نحو المؤسسات التعليمية، دون مراعاة للحاجات والأولويات المحلية، ودون تقديم حلول خاصة بواقع كل مؤسسة مدرسية؛ أضف إلى ذالك انعدام التواصل بين المدرسة والمحيط، إذ أصبحت المدارس منغلقة على نفسها داخل أسوارها، وأضحى الأستاذ لا يكترث بما يجري في المحيط المحلي، نظرا لأنه يتمتع بحقوقه وواجباته في إطار تعاقدي مع الدولة وليس مع سكان المنطقة التي تتواجد بها المؤسسة، وبالتالي أصبحت المدرسة عنصرا غريبا داخل النسق الاجتماعي المحلي لأنها لا تلبي الحاجيات المحلية؛ كما أنها تساهم في تخريج العاطلين عن العمل، وخصوصا في المجال القروي، بحيث إن الطفل الذي يلج المدرسة في سن مبكرة ويتابع دراسته حتى يحصل على شهادة ثانوية أو جامعية، فإنه إن لم يدمج في سوق الشغل، سيصبح عالة على مجتمعه الأصلي الذي نشأ فيه؛ لا يعرف القيام بالأعمال الفلاحية والزراعية ولا هو يتقن حرفة أخرى تمكنه من الاندماج داخل مجتمعه؛ إضافة إلى ذلك، يمكن القول أن المدرسة في السابق كانت معبرا يؤدي إلى الرقي الاجتماعي والمعرفي وكذا الحصول على مهنة شريفة، لكن ما نلاحظه اليوم هو العكس، بحيث أصبحت المدرسة تساهم في الرفع من نسبة العاطلين عن العمل، بسبب عدم توافق الشواهد مع متطلبات سوق العمل. هب أنك استفسرت عينة من الشباب العاطلين عن العمل عن الدور الذي تقوم به المدرسة داخل المجتمع، ستتلقى، لامحالة، إجابات سلبية، وهذا مؤشر على ضعف التعاقد بين المدرسة والمجتمع؛ وهناك مؤشر آخر يتجلى في المكان المخصص لبناء المدارس والوحدات المدرسية خصوصا في العالم القروي؛ إذ أن جل الفرعيات المدرسية تبنى قرب المقابر وفي أماكن جرداء بعيدة عن الدوار الذي تقطنه الساكنة، وهذا مؤشر يدل على عدم احتضان المدارس باعتبارها عنصرا غريبا داخل القرية؛ لقد حان الوقت للبحث عن حلول لهذه الاختلالات رغبة في إرجاع الثقة بين المدرسة والمجتمع. بعدما وضعنا الأصبع على مكامن الداء، لابد من البحث على الدواء والعلاج المناسب لتلك المثبطات والمشاكل التي تؤثر سلبا على التعاقد بين المدرسة ومحيطها؛ لقد أصبح ضروريا التعرف على الحاجات المحلية وأخذها بعين الاعتبار في بناء المنهاج الدراسي، الذي ينبغي أن يراعي مدخل التربية على القيم بجميع أنواعها، الإسلامية والوطنية والكونية المشتركة بين جميع البشر، وأضحى انفتاح المدرسة على محيطها حاجة ماسة، ويتم هذا الانفتاح عبر سبل مختلفة، أهمها إشراك جميع الفاعلين المحليين في الشأن، التربوي من خلال تفعيل حقيقي لدور جمعية أمهات وآباء التلاميذ وانخراطها في عملية تحسيس جميع الآباء بالدور المنوط بالمدرسة، ومن خلال جمعيات المجتمع المدني للقيام بتوعية الساكنة المحلية دون أن ننسى الدور الذي تلعبه الجماعات المحلية رغم أن جل الناس لا يتقون فيها بسبب ما تشوب عملية الانتخابات من اختلالات وضعف الحكامة والتدبير المحلي؛ كما أن المؤسسة مطالبة بربط جسور تواصل مباشرة مع ساكنة المنطقة التي تتواجد فيها عن طريق القيام بدروس لمحو الأمية، واستثمارها لترويج قيم إيجابية عن المدرسة، وعن طريق القيام بحملات تحسيسية من طرف الأساتذة لصالح السكان حتى لا تبقى المدرسة معزولة داخل أسوارها وكأنها جزيرة في بحر؛ والأستاذ مطالب كذلك ببناء تعاقد ديداكتيكي مع تلاميذه داخل الفصل، يوضح مختلف السلوكات والإجراءات التي ينتظرها المدرس من المتعلمين وكل انتظارات التلميذ من المدرس، وبهذا الفعل التعاقدي ينشأ المتعلم متشبعا بالمبادئ التعاقدية التي تصبح سلوكات يومية تساهم في تغيير نظرة المجتمع السلبية للمدرسة. إن رد الاعتبار للمدرسة المغربية ينبغي أن تنخرط فيه جميع مشارب المجتمع المغربي، الاقتصادية والسياسية، والتربوية، والإعلامية، هذه الأخيرة تلعب دورا محوريا في تلميع صورة المدرسة وتحسينها، وتحبيبها للناشئة، وتقريبها من محيطها الاجتماعي؛ لكن، وللأسف، ما نلاحظه اليوم في بعض المنابر الإعلامية، هو نقل بعض الصور السلبية عن المدرسة، كنشر ظواهر العنف بجميع أنواعه الجسدي، النفسي والجنسي، إذ بالأحرى نقل التجارب الناجحة والإشادة بها. إن تطوير التعاقد بين المدرسة والمحيط المحلي ينبغي أن تساهم فيه عدة أطراف، وتنخرط فيه جميع أنظمة المجتمع، السياسية، الثقافية، الاقتصادية، والتربوية... حتى ننحو به نحو الأفضل، ونحو ما يرغب فيه المجتمع، وهذا الانخراط الجماعي والإصلاح الشمولي من شأنه أن يرجع الثقة بين المدرسة ومحيطها السوسيوثقافي والاقتصادي. *مفتش تربوي