رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    زاكورة تحتضن الدورة الثامنة لملتقى درعة للمسرح    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عسل ورماد، عن مئوية ليفي ستروس
نشر في هسبريس يوم 25 - 02 - 2012

هذه دراسة سبق أن نشرتها بمجلة إضافات التي تنشرها الجمعية العربية لعلم الاجتماع بمناسبة الذكرى المائوية لميلاد ليفي ستروس (2008) الذي رحل بعد نشر هذه الدراسة. ,يسعدني أن أقدمه للقراء الذين لم يطلعوا على هذا المقال في حينه.
في الثامن والعشرين من شهر يونيو المقبل تحل الذكرى المائة لميلاد الباحث الفرنسي Claude Levi-Strauss الذي يعتبر من أهم الباحثين الأنثروبولوجيين المعاصرين إن لم يكن الأهم بالنظر إلى خصوبة إنتاجه وتنوع كتاباته التي تتميز بالدقة العلمية وعمق التحليل والاعتماد على منهج صارم يكاد يضاهي العلوم البحتة. وتعتبر السنة الحالية (2008) سنة ليفي ستروس بامتياز حيث شرعت العديد من المؤسسات في فرنسا وخارجها في تنظيم لقاءات وندوات علمية حول مؤسس الأنثروبولوجيا البنيوية وكاتب “المدارات الحزينة”1 وهو العمل الذي عرَّف الجمهور الواسع بأهمية الفكر الأنثروبولوجي ودوره في ترسيخ قيم التسامح وقبول الثقافات المختلفة. وقد شرعت دار النشر La Pléiadeفي نشر الجزء الأول من أعمال ليفي ستروس من ضمنها المؤلف السالف الذكر. وتستعد العديد من الجامعات في أمريكا الجنوبية وخصوصا جامعة Sao Pauloبالبرازيل الاحتفال بهده المئوية نظرا للأهمية التي أولاها ليفي ستروس لهنود أمريكا الجنوبية في أعماله من جهة، ودوره في إرساء دعائم البحث العلمي بهذه الجامعة التي درس فيها في الثلاثينيات من القرن الماضي إلى جانب المؤرخ الكبير Fernand Braudelوعالم الاجتماعRoger Bastide. وقد كانت البرازيل بمثابة المحطة الأولى والأساسية في مشواره العلمي حيث اكتشف منبهرا حياة الهنود في أدغال الغابة الاستوائية وما تتميز به ثقافتهم من غنى سواء على مستوى التصورات، وأنظمتهم القرابية أو في علاقتهم بالطبيعة والقوى الماورائية. واكتشف في آن واحد ميوله الأنثروبولوجية من خلال مقامه بين قبائل “Bororo” و “Nambikwara” التي خصص لها أجمل صفحات مؤلفه “المدارات الحزينة”.
وقد لعبت الصدفة دورا كبيرا في تحديد مسار الباحث واختياره لميادين ومواضيع بحثه بما في ذلك مقامه في القارة الأميركية. وكما يحلو لستروس أن يُذكر بذلك فقد تحدد كل شيء في صباح خريفي من سنة 1934 حين رن جرس الهاتف ليخبره مدير المدرسة العليا للأساتذة بباريس عن وجود منصب شاغر لتدريس علم الاجتماع بجامعة Sao- Paulo . وكان ليفي ستروس حينها يدرس الفلسفة في الثانوية العامة بعد أن حصل على شهادة الكفاءة في هدا التخصص بالإضافة إلى إجازة في الحقوق. لقد صرح ليفي ستروس أن الرحلة إلى البرازيل كانت أهم تجربة عاشها لأنها فتحت له الباب على مصراعيه لصياغة نظرية متكاملة حول المجتمع والثقافة، ومكنته من دراسة البنيات الخفية التي تتأسس عليها المجتمعات البشرية سواء تعلق الأمر ببنيات القرابة أو الأنساق الفكرية في أشكالها المختلفة مثل التصورات الدينية وأشكال التعبير الفني.
وما كان بوسع ليفي ستروس أن يجد الأدوات العلمية، المفاهيمية والمنهجية،لصياغة هده النظرية، لولا إقامته الثانية بالقارة الأميركية وتحديدا بنيويورك التي ذهب إليها في بداية الحرب العالمية الثانية مع مجموعة من كبار المثقفين الأوروبيين من بينهم الباحث اللغويRoman Jakobson والشاعر السريالي André Breton والرسام التشكيليMax Ernst .
لقد أثر Jakobson بشكل كبير على فكر ليفي ستروس الذي اكتشف عن طريقه أهمية المنهج البنيوي المطبق في علم الأصوات وما وصل إليه من نتائج مثمرة على يد الباحث التشيكي Troubetzkoi .
لقد اعتمد هذا الباحث على دراسة الظواهر الصوتية من خلال ربط الأصوات اللغوية في ما بينها في إطار أنساق صوتية مرتكزا على الأساس اللاشعوري لهده الظواهر. وبين هدا الباحث أنه يستحيل فهم الطريقة التي تشتغل بها الأنساق الصوتية دون ربط الأصوات بعضها بالبعض تماما كما فعل الباحث السويسري Ferdinand de Saussure حين أكد أن اللغة تشكل نسقا يتكون من أجزاء مترابطة وأن بوسع الباحث الوصول بهده الطريقة إلى فهم القوانين التي تتحكم في اشتغال الأنساق اللغوية.
لقد تفطن “ليفي ستروس” لأهمية المنهج البنيوي وفكر في إمكانية تطبيقه على الظواهر الاجتماعية وخصوصا علاقات القرابة التي سبق أن اكتشف أهميتها بالنسبة للقبائل التي درسها خلال مقامه بالبرازيل. لقد فهم “ليفي ستروس” أن اللغة هي نسق من بين الأنساق التي يستعملها الإنسان للتواصل وأن الحياة الاجتماعية تتأسس على جهاز رمزي متعدد الأنساق والمستويات. وإذا كانت القرابة من نفس النوع الذي تنتمي إليه الظواهر اللغوية، لن يجد الباحث صعوبة لتطبيق المنهج البنيوي على هذه الظواهر لفهم القوانين التي تتحكم في تبادل النساء داخل المجتمعات البشرية والطريقة التي تشتغل بها أنساق القرابة بشكل عام. فاذا كان الجهاز الصوتي عند الإنسان قابل للنطق بعدد كبير من الأصوات،ومع ذلك لا تستعمل اللغات الطبيعية البشرية سوى عدد محدود من الأصوات من بين كل الأصوات الممكنة ،فكذلك الأمر بالنسبة لباقي الظواهر الثقافية. كل مجموعة بشرية تختار مجموعة من الخصائص التي تناسبها دون أخرى، وتشترك مع المجتمعات الأخرى في احترام بعض القواعد الكونية مثل منع زواج المحارم.
إن العائلة البيولوجية هي النواة الصلبة التي تنبني عليها أنظمة القرابة بأشكالها المتعددة. مع ذلك فان الذي يجعلها ظاهرة اجتماعية هو انفصالها عن أصلها الطبيعي، وتبقى في آخر المطاف مجموعة من التصورات والأنساق الرمزية القابلة للتحليل والتأويل مثل الأنساق اللغوية.
لقد ركز ليفي ستروس في مؤلفه المشهور “البنيات الأولية للقرابة” على أهمية الزواج في المجتمعات البشرية لأنه يفترض من جهة منع العلاقة الجنسية بين الأبناء وآبائهم (قاعدة منع زواج المحارم) ومن جهة أخرى يؤسس القرابة وعلاقة التبادل الأسري والمصاهرة. إن قواعد الزواج وعلاقات القرابة في تعددها واختلافها تنحى نحو هدف واحد، يتمثل في إدماج العائلة البيولوجية في المجتمع الواسع.
الفكر الأسطوري
لقد كانت السنوات التي قضاها ليفي ستروس بنيويورك خلال الحرب العالمية الثانية أساسية بالنسبة لتطوره العلمي. لقد تحددت خلال هده الحقبة توجهاته المعرفية واتضحت معالم القضايا والمواضيع التي ستشغل باله طيلة العقود اللاحقة. فأطروحته المشهورة حول بنيات القرابة كانت ثمرة اكتشافه للمنهج البنيوي كما أسلفنا القول. كما أن اهتمامه بدراسة موضوع الأساطير التي خصها بمؤلف يعتبر مرجعا أساسيا عند المتخصصين كان نتيجة قراءته لأعمالFranz Boas. وفي هذا الصد د يحكي ليفي ستروس عن جهله خلال بداية مقامه بنيويورك بتاريخ الفكر الأنثروبولوجي وكيف كان يقضي جزءا كبيرا من وقته بالمكتبة لتهيئ الدروس التي أسند ت له مهمة تدريسها في هذا التخصص بلغة لم يكن يتملك ناصيتها.
يرى ليفي ستروس أن وظيفة الأنثروبولوجيا هي دراسة البنيات الذهنية من خلال تجلياتها في المؤسسات الاجتماعية والأنساق الرمزية كاللغة والأساطير، ويعتبر أن هناك قواعد تتحكم في النشاط الذهني للإنسان. لقد تبين للباحث بعد غوصه العميق في دراسة وتحليل بنية الأساطير الهندية المنتشرة على طول القارة الأميركية أن الفكر الأسطوري يعكس في غناه وتنوعه بنية العقل البشري. إنه يستعمل صورا مجازية مستقاة من العالم الطبيعي تتضمن حيوانات ونباتات وكواكب وأجرام، يعيد تشكيلها وصياغتها لإضفاء معنى على الكائنات والأشياء. إن هذه الصور هي بمثابة مقولات، تأخذ شكلا مختلفا من منطقة إلى أخرى لكنها تعبر عن نفس العلاقات المنطقية. هذه الصور تتضمن قائمة من المتعارضات والتقابلات مثل الرجل والمرأة، الطعام الطازج والطعام المطهي ، العسل والرماد. بالنسبة لموضوع الطعام مثلا أبرز ليفي ستروس الأفكار الأساسية التي تتكرر في الأساطير التي تناولت هذا الموضوع مثل أصل النار،والنباتات الصالحة للأكل، وارتباطا بذلك موضوع زواج المحارم وانتقام الأب...لقد قام ليفي ستروس في هذا الصدد بتحليل سبعة وثمانين أسطورة جمعها في مؤلفه LE cru et le cuit مبينا غناها على المستوى الدلالي. وقد عمل على تقسيمها إلى مقاطع أساسية ثم قام بربط هذه المقاطع بعضها بالبعض مبرزا الأنساق الأسطورية التي تنتمي إليها مع إبراز المفاهيم والتقابلات الموجودة في كل أسطورة على حدة. وتبين له أن ثمة بنية منطقية لهذه الأساطير وأن كل أسطورة تساعد على فهم الأساطير المشابهة لأن هناك مواضيع تتكرر في أساطير تبدو مختلفة ظاهريا مما يؤكد انتمائها لنفس الجذع رغم تواجدها في مناطق مختلفة وأحيانا جد متباعدة.
من العسل إلى المطهي:
وفي نفس السياق قام ليفي ستروس بتحليل مائة وخمسين أسطورة من أمريكا الجنوبية في كتابه”من العسل إلى المطهي” وهو عنوان يحيل إلى التعارض الموجود بين العسل والتبغ في تصور السكان الأصليين لهذه المنطقة. فالعسل يتميز بحلو مذاقه وسيولته وليونته على عكس التبغ ذو المذاق القوي والحار. العسل يرمز إلى الحياة والطبيعة باختلاف التبغ الذي يرتبط في ذهن الهنود بعوالم غيبية نظرا لاستعماله كمخدر. إن أهم اختلاف بين التبغ والعسل يكمن في المعنى الجنسي الذي يضفيه الهنود على استهلاك العسل. إنه من جهة مثير للحواس نظرا لمفعوله على الجسم ،ومن جهة أخرى فهو مرتبط في ذهنية الهنود بعقد القران حيث يتم تقديمه كمهر للزوجة التي تهديه بدورها للأم...إن العسل يرمز إلى قدرة الزوج على تخصيب زوجته التي تهدي هذه الخصوبة إلى ذويها. إن التعارض الموجود بين التبغ والعسل يحيلنا إلى التعارض الموجود بين الطبيعة والثقافة. العسل موجود قبل اكتشاف النار بينما يفترض التبغ وجود هذه الأخيرة ليتحقق مفعوله. وقد اكتشف ليفي ستروس في هذا الصد د أن كل الأساطير التي تتحدث عن العسل تحيل إلى موضوع النار وهذه الأخيرة تحيل إلى موضوع التبغ مما يؤكد الرابطة بين العنصرين وتوظيف الأسطورة للتعبير عن الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة.
لقد أخطأ الكثير من الباحثين حين اعتقدوا أن الفكر الأسطوري هو فكر سابق على المعرفة المنطقية وأنه خاص بالشعوب البدائية. في مؤلفه La Pensée sauvage فند ليفي ستروس هذا الإدعاء مبينا وجود استمرارية بين هذا النوع من التفكير والفكر العلمي الذي يتأسس عليه إدراك الإنسان الحديث. نحن نستعمل أساليب وطرق في التفكير لا تختلف جذريا عن الفكر الأسطوري. كما أن انتشار التصورات الأسطورية في المجتمعات الحديثة -وإن اختلفت ظاهريا في مضمونها عن التصورات الأسطورية القديمة – إلا دليل على حاجتنا إلى الفكر الأسطوري وما يواكبه من ممارسات طقسية. لقد كان هذا الفكر ضروريا حين كانت الحواس مصدرا أساسيا للمعرفة، وقد تأسست عليه كل الأشكال اللاحقة بما في ذلك العلم الحديث. لقد أخضع ليفي ستروس الخطاب الأسطوري لقراءة شبيهة بتلك التي يقوم بها المحلل النفساني حيت يتوخى دراسة الأحلام أو الأعراض النفسية. فهناك من جهة المحتوى الظاهر للصورة الأسطورية وما تسرد من وقائع بواسطة صور مجازية،ومن جهة أخرى المعنى الخفي الذي يتعين على الباحث إبرازه من خلال ربط محتوى الأسطورة بإطارها الاجتماعي. وفي هذا الصدد بين ليفي ستروس التوظيف الإيديولوجي للأساطير في المجتمعات البشرية حيث تستعمل لتزييف حقيقة العلاقات بين الفئات الاجتماعية. وقد قدم الباحث نموذجا عن هذا التزييف في كتاب “المدارات الحزينة” يخص الأساطير المؤسسة للعلاقات الاجتماعية عند قبائل Bororo . هناك أسطورة تقول أن ثمة علاقات مصاهرة بين عشيرتين Céra وTugaré وفق قاعدة الزواج الخارجي وأن تبادل النساء بين المجموعتين مبني على تكافؤ الفرص بين كل الأفراد الذكور في سن الزواج. لكن الأسطورة تتجاهل معطى أساسيا يتعلق بتقسيم العشيرتين إلى مراتب (عليا ومتوسطة وسفلى) وأن التبادل الفعلي يتم بين الشرائح التي تحتل نفس المرتبة الاجتماعية وهو ما تغفله الأسطورة بشكل متعمد. إن وظيفة الأسطورة في هذه الحالة هي تكريس التمييز الموجود بين الفئات المكونة لكل عشيرة من خلال تأويل كاذب يهدف إلى طمس التناقضات القائمة بين المراتب الاجتماعية.
الإبداع الفني
بموازاة مع دراسته لأنثروبولوجية للتصورات والمعتقدات عند القبائل الهندية بالقارة الأميريكية ،اهتم كلود ليفي ستروس بالتعبير الفني عند هذه القبائل التي لا تميز في حقيقة الأمر بين الجوانب المختلفة للحياة الاجتماعية التي تتداخل فيها كل العناصر بشكل منسجم بحيث يصعب التمييز لأول وهلة بين ما هو فني وما هو ديني وما يرتبط بالحياة اليومية.
اكتشف ليفي ستروس البعد الجمالي لهذه الثقافة خلال مقامه بنيويورك حيث تعرف بمعية الشاعر André Breton والفنان التشكيلي Max Ernst ومجموعة من المثقفين الأوروبيين الذين استقبلتهم المدينة خلال الحرب، على بعض الإبداعات التي كانت تعرض في المتاحف أو تباع لعشاق التماثيل والأقنعة والفنون البدائية في المحلات المخصصة لذلك. وقد لعب ليفي ستروس دورا رياديا في التعريف بهذا التراث الفني، وخصوصا ما يعرف بفن الساحل الشمالي الغربي الذي اقتنى نماذج منه بعد اكتشافه لجمالية المنتجات المعروضة في المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي. وقد عبر ليفي ستروس في عدد من المقالات التي كتبها في هذا الشأن ،بأسلوبه الشاعري والدقيق في آن، عن انبهاره بهذه التحف الفنية التي تحقق حلم الطفولة في شكل صور غريبة تتعايش فيها حيوانات أليفة وأشياء يصعب إيجاد مقابل لها بالواقع، أشجار وحيتان، كائنات تضم أطرافها ووجوه تبتسم في مشاهد تذكر أحسن ما أنتجه الفن المعاصر. ولا يتردد ليفي ستروس بمقارنة هذه المنتجات الفنية بأعمال الرسام “بيكاسو” مع ذكر الفارق في كونها من إنتاج مجموعة بشرية بأكملها.
وتجدر الإشارة إلى أن ليفي ستروس خصص مؤلفه La voie des masques لهذا الموضوع كما سبق أن نشر مقالا خصصه لرسوم الوجه عند القبائل الهندية بالبرازيل تناول فيه موضوع التصورات الازدواجية عند مجموعة Caduveo وقارنها بمثيلاتها عند قبائل الساحل الشمالي الشرقي السالفة الذكر. ويعود هذا الاهتمام إلى قراءته للمؤلف المشهور لFranz Boas حول الثقافة البدائية وبشكل خاص مقاله المعنون Primitive Art (1927) .
الحضارة والتاريخ
في سنة 1952، وبإيعاز من منظمة اليونسكو، نشر ليفي ستروسRace et histoire وهو كتاب صغير الحجم لكن تأثيره كان بالغا في الأوساط الفكرية نظرا لأهمية القضايا التي أثارها الباحث مثل العلاقة بين النظرية التطورية والإيديولوجيا العنصرية وأسباب الإختلا ف الثقافي بين الشعوب وشروط الإبداع الحضاري، وهي قضايا ما زالت تستأثر باهتمام الباحثين إلى اليوم.
لقد انتقد ليفي ستروس التصور السائد حول التاريخ عند دعاة الفكر التطوري الذين يرسمون أهدافا مسبقة لتطور المجتمعات البشرية. فهُم يعتبرون أن كل الشعوب تسير في اتجاه تحقيق نفس الغايات لكن إيقاع التطور وحده مختلف. هناك شعوب قطعت أطوارا مهمة في اتجاه التقدم وأخرى عاجزة عن مسايرة الركب. هناك شعوب قادرة على تحقيق تراكم حضاري وأخرى تعيد تكرار نفس التجارب دون الاستفادة من خبرة الأجيال السابقة. وقد استعمل ليفي ستروس تقابلا أصبح شائعا يميز فيه دعاة هذه النظرية بين ثقافات تراكميةcultures cumulatives و ثقافات ساكنة cultures stationnaires.
لقد فند الباحث هذه الأطروحة التي اعتمدتها الإيديولوجيا العنصرية والفكر الاستعماري الذي وظفها لتبرير الهيمنة بدعوى نشر القيم الحضارية ومساعدة الشعوب المتأخرة على مواكبة التطور.لقد بين ليفي ستروس معتمدا على نتائج الدراسات التاريخية وعلم الحفريات أن حضارات مختلفة تواجد ت في نفس الفترات التاريخية وحققت إنجازات ثقافية دون أن تمر من المراحل التي يفترضها هذا النوع من التحليل. إن القدرة على الابتكار والتراكم الثقافي ليست خاصية تميز مجتمعا دون غيره كما أن التقدم الحضاري ليس برنامجا مسطرا في زمان خطي. كل مرحلة تاريخية تكون حبلى بالإمكانيات والاحتمالات وليس هناك ضمانة مسبقة حول آفاق التطور.لقد انتقد ليفي ستروس مفهوم الغاية موضحا أن التاريخ لا يسعى لتحقيق أهداف محددة وأن هناك اختلاف في مسار الشعوب. إن التقدم فكرة نسبية كما أن معايير التفوق الحضاري تختلف من ثقافة إلى أخرى.
إن التاريخ البشري مغامرة مليئة بالاحتمالات والمفاجئات التي يصعب التوقع بكنهها. التراجع مثل التقدم أمر وارد في حياة الشعوب وكان بإمكان ليفي ستروس أن يرد د قولة الفيلسوف الألماني Ernst Bloch في هذا الشأن: “ليس لنا أي ضمانة بالنسبة للمستقبل إلا التفاؤل”.
إن خاصية الجمود أو البرودة التي تنعت بهما النظرية التطورية المجتمعات التقليدية مجرد افتراء ووهم إيديولوجي ناتج عن ضبابية في الرؤيا وعن نزعة التمركز حول الذات ethnocentrisme ، وإدراك الآخر انطلاقا من الأنا. إن ثنائية البرودة والسخونة في الحديث عن خصائص الشعوب لا تصمد أمام التحليل الرصين. كل الشعوب تتحرك وتراكم رغم اختلاف الإيقاع في الحركة والتراكم. إن ما يفسر الاختلاف ظاهريا بين المستوى الذي وصل إليه كل مجتمع على حدة هو نوعية التراكم والإيقاع الذي يتم من خلاله. لقد تحدث ليفي ستروس في هذا الصد د عن ظهور تركيبات ثقافية complexes culturels انتقل فيها التراكم من الكم إلى الكيف وحدثت فيها طفرة نوعية لأن الاكتشافات وتراكم الخبرات سار في اتجاه واحد كما حدث ذلك خلال ثورة العهد الحجري بالشرق الأوسط أو خلال الثورة الصناعية بأوروبا.
إن حركية التطور تسير في اتجاه الخصوصية والشمولية في آن واحد. كل الثقافات البشرية نتيجة لهذه الحركية التي تدفعها إلى مزيد من الاندماج في أفق تحقيق الذات الحضارية. إن الثقافة البشرية تبقى خلاقة ومبدعة ما دام هذا التنوع قائما لأن المصب يستفيد من ينابيعه ويجف من تصحر الأنهار. إن الخطر الذي يهدد الحضارة البشرية هو هيمنة نموذج ثقافي أحادي monoculture .وقد بدأت تبرز بوادر هذا العقم الثقافي مع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي الذي ينحى دائما إلى نفي ما عداه مما دفع ليفي ستروس إلى كتابة عبارته المشهورة في مطلع “المدارات الحزينة: “إن ما تعلمته من الأسفار هو ما رأيته من قذارة رميناها في وجه البشرية”.
ألأنثروبولوجيا والتاريخ
لقد تعرض ليفي ستروس وعلى العموم الفكر البنيوي الأنثروبولوجي بانتقاد من لدن المؤرخين والمفكرين الماركسيين في مرحلة الستينات والسبعينيات من القرن الماضي. هذا النقد ينصب أساسا على جهل البعد التاريخي في تطور المجتمعات البشرية وسجن هذه الأخيرة في بنيات قارة تعيد تكرار نفسها وتعمل فقط على المستوى الأفقي كما هو الحال بالنسبة لبنيات القرابة.
لقد حاول ليفي ستروس أن يجيب عن هذه الانتقادات في بعض المقالات التي كتبها حول العلاقة بين الأنثروبولوجيا والتاريخ مثل المقال الذي يحمل نفس العنوان والذي سبق أن نشره سنة 1949 في نفس السنة التي نشر فيها مؤلفه المشهور “البنيات الأولية للقرابة”. وقد أوضح ليفي ستروس في المقال المذكور أن هناك تكاملا بين مقاربة المؤرخ وعالم الإجتماع، الأول ينظم معطياته حسب الشروط الواضحة والشعورية في الحياة الاجتماعية بينما يبحث عالم الاجتماع عن المستوى اللاشعوري لهذه الظواهر. لقد تنبه المؤرخون بأهمية هذا البعد اللاشعوري من خلال اهتمامهم بالدراسات الأنثروبولوجية مما دفعهم إلى اقتناء منهج يهتم في آن واحد بالبعد الاجتماعي والتاريخي وهو ما يعرف بالأنثروبولوجيا التاريخية التي أعطت نتائج مبهرة فيما يسمى بتاريخ العقليات أو التاريخ الجديد كما أسسته مدرسة الحوليات بفرنسا . وقد استفاد علماء الاجتماع بدورهم من هذا المنهج الذي يسلط أضواء جديدة على المواضيع التي تدخل في صلب تخصصهم كالظواهر الدينية وأشكال المقدس وأنماط العيش وأنثروبولوجية الجسد والأنثروبولوجية الرمزية إلى غير ذلك من القضايا.
من بين الأسباب التي دفعت بعض المؤرخين إلى انتقاد ليفي ستروس في مقاربته لتطور المجتمعات البشرية هو تمييزه المشهور بين المجتمعات الباردة والمجتمعات الساخنة sociétés froides et sociétés chaudes وهو تمييز عبر عنه في درسه الافتتاحي ب”الكوليج دو فرانس” في يناير 1960 وفُهم الأمر على أن ليفي ستروس يضع المجتمعات التقليدية خارج التاريخ حين وصفها بالجمود وغياب الدينامكية على عكس المجتمعات الحديثة التي وصفها بالساخنة لما يحدث فيها من تغييرات سريعة وما يميزها من حيوية. إن ما أراد ليفي ستروس أن يبينه في هذه المحاضرة هو علاقة الشعوب بماضيها. هناك شعوب تستفيد من خبرة الماضي لرسم معالم المستقبل كما هو الأمر بالنسبة للمجتمعات الحديثة على عكس المجتمعات التقليدية التي تقدس الماضي وتحاول استنساخه في الحاضر. إن هذا التمييز لا ينفي تاريخية هذه المجتمعات بل يوضح علاقتها بالحاضر والماضي.
ليفي ستروس والعالم العربي
لقد كان تأثير ليفي ستروس بالغا على النخبة المثقفة في الوطن العربي وبشكل خاص في دول المغرب نظرا لارتباط الباحثين بالجامعات الفرنسية على الأقل في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لقد كانت مؤلفاته تدرَّس في أقسام علم الاجتماع والفلسفة وكانت تغذي النقاشات الفكرية حول العلاقة بين الثقافات والهوية والاختلاف وتستعمل لنبذ الفكر العنصري ضد الجالية العربية في أوروبا.
في المقابل نلاحظ غيابا شبه كامل للعالم العربي والإسلامي في كتابات ليفي ستروس باستثناء مقال نشره حول باكستان في رسالة اليونسكو سنة 1951 تحدث فيه عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعيشها الدولة ا لحديثة النشأة آنذاك، وبعض الصفحات في المدارات الحزينة عبر فيها عن موقفه من الإسلام كدين وحضارة من خلال مقارنته بالديانة البوذية. لنقرأ ما كتبه ليفي ستروس في هذا الصدد:
” إنني اعرف سبب مضايقتي من الإسلام: إنني أجد فيه عالمي الأصلي. الإسلام هو غرب الشرق. وبشكل أدق، كان علي أن ألتقي بالإسلام لكي أفهم المخاطر التي تحدق بالفكر الفرنسي...إننا مثل المسلمين طوباويون، نستمد سلوكنا من الكتب ولنا قناعة بأنه يكفي أن نحل مشاكلنا على الورق لكي نتخلص منها. إنني لا أقبل هذه الصورة التي تضطرني إلى الاعتراف بمدى تأثير الإسلام على الفكر الفرنسي.”
إن ما يثير الانتباه في مقاربة ليفي ستروس للإسلام هو ازدواجية الأحكام التي يدلي بها في هذا الشأن. فتارة يعبر عن نوع من الإعجاب لما حققته الحضارة الإسلامية في أوج تألقها حين أضحت نموذجا للفكر الفرنسي، وكانت تمثل نموذجا في التسامح وقبول الأقليات الدينية والعرقية. لكنه سرعان ما يدلي بأحكام قاسية في حق الديانة الإسلامية التي تمثل في رأيه تراجعا بالمقارنة مع الديانات الكبرى وخصوصا البوذية والمسيحية. انه ينتقد في الإسلام نزعته الذكورية وسجنه للمرأة في عالم منغلق. إن كل الوسائل المستعملة لتغليف جسم المرأة في أغطية وأحجبة واقية من العين، نابعة عن الخوف الذكوري من فقدان الشرف. وهذه المخاوف نتيجة للتربية الدينية التي تولد في ذهن المسلم صراعا نفسيا قويا لتقترح عليه في آخر المطاف حلولا من الصنف المشار إليه.
كما انتقد ليفي ستروس الميول الإقصائية للإسلام ضد من يخرج عن العقيدة. إنه يرى في الإسلام ديانة كبرى “...تتأسس على غياب أي مقدرة على ربط علاقة مع الخارج...إن التعصب الإسلامي يأخذ شكلا غير شعوري عند من يمارسه...إن دعاة التعصب الديني غير قادرين على قبول الآخر كآخر، وهذا هو الأمر الخطير.إن السلاح الوحيد الذي يستعملونه للهروب من مساءلة الذات ومن الشعور بالمهانة هو إعدام الآخر باعتباره شاهدا على إمكانية وجود قناعة وسلوك مختلفين.”
في جل الصفحات التي خصصها ليفي ستروس للإسلام كدين وحضارة وثقافة نستشف نفورا إن لم نقل عداء واضحا وصريحا. فبخصوص علاقة الغرب بالشرق يرى الباحث أن الإسلام مثَّل حجرة عقبة أمام انصهار العالم القديم (البوذي والأوروبي). لقد “أحدث(الإسلام)... انشطارا في عالم أكثر تحضرا منه”. إن الديانة المسيحية جاءت قبل أوانها ولم تفلح في تحقيق هذا الانصهار لأنها احتذ ت بالإسلام وأصبحت متأثرة به. إن الإسلام شكل تراجعا بالمقارنة مع الديانة البوذية والمسيحية لأنه ربط السماء بالأرض والسياسة بالدين. هذا التراجع يلمسه ليفي ستروس في كل مناحي الحياة الاجتماعية، من الفن إلى نظام الحكم، مرورا بالطبخ وعوائد الأكل. وفيما يخص هذه النقطة الأخيرة لاحظ ليفي ستروس بامتعاض أن المسلمين يأكلون بأصابعهم ،وأن المسألة ناتجة عن تعاليم دينية هدفها التفرد والاختلاف عن عوائد الشعوب الأخرى.......أما بخصوص فنون الهندسة المعمارية وفنون الزخرفة فإن الإنجازات تبقى ناقصة بسبب الحظر الذي يطال الصورة في الإسلام...ولم يستثن ليفي ستروس من هذا النقد حتى المقابر. إنه لا يفهم السبب الذي يدفع المسلمين إلى وضع أمواتهم في لحود ضيقة بينما يشيدون أضرحة فخمة في محيط نفس القبر بحيث لا يستفيد المدفون من الثراء المحيط به. بينما نجد العكس في الثقافة المسيحية حيث يعكس اللحد ثراء قاطنه...
هذه بعض الأحكام الجاهزة حول الثقافة الإسلامية التي عبر عنها ليفي ستروس في الصفحات الأخيرة من” المدارات الحزينة “. وهي تتعارض مع المواقف التي طالما دافع عنها بخصوص التعددية الثقافية، والحق في الاختلاف ،وحياد الموقف الأنثروبولوجي، والنسبية الثقافية. لقد استغلت بعض الأوساط اليمينية هذه الفقرات من المؤلف المذكور،بالإضافة إلى تصريحات ما فتئ الباحث الكبير يكررها في وسائل الإعلام، لتكريس العداء لكل ما له علاقة بالعالم العربي تحت ذريعة رفض التطرف الديني. والملفت للانتباه أن ليفي ستروس نفسه اعترف أكثر من مرة بقلة اطلاعه على كل ما يتعلق بالعالم العربي. إن ما كتبه حول الإسلام في المدارات الحزينة هو نتيجة سفر قام به في بداية الخمسينات في الهند وباكستان في إطار مهمة أسندت له من طرف اليونسكو حيث عين آنذاك كاتبا عاما لمصلحة الدراسات الاجتماعية بالمنظمة. وكيف ما كانت صحة المعلومات التي استقاها خلال إقامته بهذه الأمصار فإنها تبقى نسبية ولا يحق تعميمها على كل البقاع العربية والإسلامية.
لاحظ المتتبعون لتطور فكر ليفي ستروس تغييرا في مقاربته لموضوع العنصرية. فإذا كان موقفه واضحا في هذا الشأن في نصوصه الأولى وبالأخص في كتاب “العرق والتاريخ” حيث دحض بشكل قاطع كل ادعاء فيما يخص التفوق العرقي المبني على أسس بيولوجية وثقافية وفند المرجعية النظرية التي يعتمد عليها الفكر العنصري، فإن الأمر يختلف في النصوص اللاحقة كمؤلف “العرق والثقافة” أو “النظرة المبتعدة” . في هذين المؤلفين حاول ليفي ستروس أن يبرر حق التمييز القيمي بين الثقافات ووضعها في هرم تراتبي وتبرير نبذ ثقافة بالمقارنة مع أخرى. لنقرأ ما كتبه في هذا الصدد:
” إن العنصرية نظام فكري يربط الخصائص الثقافية والأخلاقية لمجموعة من الأفراد – كيفما كانت العلاقة التي تجمعهم- بتكوينهم الجيني”. ويضيف:” ...لا يمكن أن نضع في نفس الخانة مواقف أفراد أو جماعات ، ينفرون إما جزئيا أو كليا من قيم أخرى، بحكم انتمائهم وإخلاصهم لبعض القيم. ليس ذنبا أن نضع طريقة معينة في العيش والتفكير فوق كل الأشكال الأخرى، ولا نشعر بأي جاذبية إزاء ثقافة معينة مع كل احترامنا لها” (النظرة المبتعدة).
ليس عيبا أن يُغيب ليفي ستروس العالم العربي من اهتماماته وأن لا يشعر بجاذبية نحو مقوماته الأخلاقية والثقافية وحضارته وفكره وتاريخه، لكن ليس من حقه أن يطلق أحكاما نهائية على حضارة متعددة الأصول تضم في ثناياها ثقافات فرعية تتنوع بتنوع الأقطار والأجناس واللهجات والثقافات والرؤى وحتى الإيديولوجبات بما فيها من يساير موقفه العدائي من التعصب الديني. من المدهش أن يكتب ليفي ستروس في رسالة إلى المفكر الاجتماعي Raymond Aron كلاما من هذا القبيل:” إن احتكاكي القليل بالعالم العربي ولد عندي نفورا نهائيا إزاء هذا العالم”. وكيف ما كان الأمر فإن المثقفين العرب يميزون من جانبهم بين العسل والرماد، ولن تولد لديهم هذه التصريحات نفورا نهائيا من كاتب”العرق والتاريخ” ومؤلف المدارات الحزينة.
(مؤلفات ليفي ستروس المذكورة في المقال) بيبليوغرافيا
Les Structures Elémentaires de la Parenté.P.U.F 1949
Tristes tropiques. Plon 1955
Race et histoire. UNESCO,1952
Anthropologie structurale. Plon 1958
La pensée sauvage. Plon 1962
Mythologiques I, Le cru et le cuit. Plon 1964
Mythologiques II, Du miel aux cendres. Plon 1966
La voie des masques. Editions dart Albert Skira, 2 vol., Geneve, 1975.
Le regard éloigné, Plon 1983


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.