بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المناعة السيكو-اجتماعية في زمن كوڤيد-19
نشر في هسبريس يوم 11 - 04 - 2020

ما فتئت العقول البشرية، منذ انطلاق جائحة كوفيد-19، تُقَلِّب زوايا النظر الخاصة بهذه الأزمة تبعاً لاختلاف المقاربات التي يمكن اعتمادها في التناول. ومما لا شك فيه أن العلوم الإنسانية والاجتماعية، بمختلف تصوراتها وأدواتها، يمكن أن تسعفنا في تحليل وفهم العديد من جوانب الجائحة الحالية وأوجه الأزمة المرتبطة بها سيما في أبعادها الإنسانية والاجتماعية. سنعرض في هذا المقال تفكيراً في هذا الوضع الإنساني الاستثنائي استناداً إلى مرجعية سيكو-اجتماعية ترتبط بمحددات خاصة بالفرد والمجتمع وبدينامية العلاقات الاجتماعية في ارتباطها بالوباء وتداعياته. سيتوجه اهتمامنا بالأساس إلى فئتين من الديناميات السيكو-اجتماعية التي تبدو مُلِحَّة في التعاطي مع هذا الوضع. تمُسّ الأولى الاستراتيجية النفسية للأفراد في مواجهة وضعيات التوتر، في حين تهمُّ الثانية الاستجابة الاجتماعية للأفراد في الوضعيات التي تتطلب الامتثال والإذعان.
في مثالب مواجهة الانفعال بدل مواجهة المشكل
لا شك في أن جائحة كوڤيد-19 وما يرتبط بها من إكراهات اجتماعية واقتصادية (الحجر، فقدان الشغل، شلل الحياة العامة...) تمثل وضعية تنجلي فيها مختلف المحدِّدات التي ترتبط بوضعيات التوتر التي تُنَشِّط لدى الأفراد استجابات سلوكية وذهنية معينة لمواجهتها. فمن وجهة نظر سيكولوجية، في الوضعيات التي تتسم بوجود شروط بيئية (المحيط) تُدرَكُ من طرف الفرد كإكراهات تتطلب موارد نفسية واجتماعية استثنائية لمواجهتها، فإنها تُقَيَّمُ وتُحدَّدُ عموماً من طرف الفرد كوضعيات تَوَتُّر تستدعي تفعيل استراتيجيات نفسية-معرفية للتعاطي معها.
يتم التمييز، على وجه العموم، في الاستراتيجيات النفسية-المعرفية والسلوكية لمواجهة وضعيات التوتر بين استراتيجية مُرَكَّزة على الانفعال وأخرى مُرَكَّزة على المشكل. فإذا كان الفرد في الفئة الأولى يوجِّه نشاطه الذهني وسلوكه لتدبير الانفعالات المرتبطة بالوضعية، ويتم تصريف ذلك من خلال التعبير المفرط عن هذه الانفعالات (الغضب، القلق...) أو اللَّوم (لوم الذات ولوم الآخرين) أو التقليل من خطورة الوضعية أو التفكير فيها بكيفية عجائبية؛ فإنه في الفئة الثانية يُوجِّه هذا النشاط للحدِّ من متطلبات هذه الوضعية والرفع من موارده لمواجهتها، ويتضح ذلك من خلال استجابات من قبيل التحليل الموضوعي للوضعية والبحث عن تنمية المعارف في الميادين المرتبة بها أو البحث عن المعلومات ووضع الخطط المناسبة وكذا القيام بالاستشارات الناجعة.
لعللّ الاستجابة الأبرز للأفراد منذ استفحال وباء كوڤيد-19، والتي نَستشِفها من خلال العديد من الشهادات والتصريحات المتداولة في مختلف وسائل الإعلام والتواصل، تندرج في الفئة الأولى من استراتيجيات المواجهة. وتتمظهر أهم مكونات هذه الاستجابة من خلال التعبير عن الشك وفقدان الثقة في قدرة الإنسان على التعاطي مع هذه الأزمة سواء من حيث الوقاية والتتبع والعلاج الطبي أو من حيث التعامل مع المظاهر والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن الوباء وكذا اللَّوم المقرِّع للذات أو المتبادل مع الآخرين (أفراداً ومؤسسات ودول وهيئات...). هذا المنحى في إدراك الأزمة والتفكير فيها أصبح يتزايد باتساع رقعة انتشار الوباء وبروز بعض مظاهر "العجز" في التعامل معه حتى لدى أبرز القوى والدول على مستوى المعمور، والتي كان الإعجاب والتفاخر وربما الغيرة من قوة نظمها الصحية والاقتصادية والاجتماعية موضوع الكثير من الكتابات المتخصصة أو حتى النقاشات العامَّة أو الاجتماعية إلى حدود الأمس القريب.
هذا المنحى في التفكير بخصوص الوباء يقود لا محالة، وهذا ما تَمظهَر بالفعل حتى في بعض الكتابات، إلى القول بضعف الإنسان وبضرورة إعادة النظر في إدراكنا لذواتنا كنوع من الكائنات الحية استطاع أن يفرض قبضته على مجال واسع من العالم والواقع الطبيعي، بما يحتويه من مادَّة وما يحكمه من قوانين ميكانيكية، وتَمَكَّن من أن يُوجِّهه لخدمة غاياته الخاصة وأن يصنع تاريخاً خاصاً به يُوَارِبُ التاريخ الطبيعي وأحياناً ينسلخ عنه ويَلْوِيهِ ليُحدِّد تاريخاً إنسانياً يُصوِّر الإرادة البشرية ويجعلها واقعاً قائماً.
إن السير بهذا الاستدلال إلى مداه يقود إلى استنتاج مفاده انحصار وضئالة قوة الحضارة البشرية أمام القوة الهائلة والعارمة للطبيعة، ما دام ڤيروس بحجم مُهمَلٍ قادر على إحداث كل هذا القدر من الموت والفوضى والشلل وعدم اليقين في المصير والمآل في حياة البشر.
تُشكل استراتيجية المواجهة هذه وكذا التوجه في التفكير المرتبط بها عموماً انتكاسة واضحة في المنحى الذي ما فتئ يتصاعد منذ زمن بعيد قبل الأزمة والخاص بالثقة في الإنسان وفي إمكانياته، ليس فقط تلك التي أهَّلته بها الطبيعة وإنما أيضاً تلك التي ما انقطع يُؤَهِّل نفسه بها مع الفتوحات التي يحقِّقها العقل البشري في مختلف المجالات. وهذا الانقلاب يؤشر على خطر أعظم وأعمق من ذلك الذي يرتبط بأزمة الوباء في حد ذاتها.
تتجلى خطورة هذا الاتجاه السيكولوجي في إدراك الأزمة والتعاطي معها في كونه يُسْقِطُ من حسبانه كل الإنجازات التي راكمتها الحضارة البشرية ويعيدنا إلى نقطة الانطلاق في أزمنة بعيدة حين كانت قدرة البشر إزاء الطبيعة لا تتجاوز نوعياً قدرة باقي الكائنات الحية الأخرى، ولم يملكوا من مصيرهم إداك سوى الانصياع إلى إكراهات وأحكام النواميس الجبارة لهذه الطبيعة وإطلاق العنان لمخيلتهم لإنتاج واعتماد مختلف أشكال التفكير اللاعقلاني والميتافيزيقي لاحتواء مختلف أنواع الصعاب التي كانوا يواجهونها. على الأرجح، كان البشر يسعون من خلال تلك التفسيرات لتحقيق التوازن النفسي الضروري لهم باعتبارهم فاعلين في بيئتهم ويسعون باستمرار إلى فهمها وضبطها والتحكم فيها لضمان استمرار الحياة البشرية الفردية والجماعية من خلال بناء أنساق فكرية متناغمة العناصر-حتى وإن لم تكن عقلانية-حيث كل واقعة أو حدث طبيعي أو اجتماعي يجد تفسيره أو تبريره "الملائم". هنا بالضبط تكمن خطورة التشكيك وعدم الثقة في الإنسان وفيما أنتجه وراكمه وفيما يمكن أن يبدعه من معرفة وعلم وتقنية لمواجهة الأزمة وتجاوزها.
ولكن، كيف يمكننا أن نستمر في الثقة في الإنسان وفي عقله رغم ما يطالعنا حالياً مع هذا الوباء من كل مظاهر القصور والعجز في التعاطي مع الجائحة؟ وكيف يمكن الجنوح إلى الثقة في ظل هذا المستوى المتنامي من قلة اليقين في الحاضر والمستقبل؟
عناصر الإجابة عن هذا التساؤل تُحِيلنا على الاستجابة المرتبطة بالفئة الثانية من الاستراتيجيات النفسية-المعرفية لمواجهة وضعيات التوتر التي سبق توضيحها والمُرَكَّزة على المشكل وليس على الانفعال. يمكن لهذه الاستراتيجية أن تفتح إمكانات واسعة لتجاوز الوضع-المشكل بتحليله وفهمه واستعراض الموارد والسبل المتوفرة والممكنة لمواجهته.
كمدخل لهذه الاستراتيجية، دعونا أولاً نفحص المُصَادرة الأساسية التي سبق وأن عرضناها بخصوص القول بانحصار وعجز قدرة الإنسان والعقل البشري على مواجهة الوباء ولنُقلِّب الوضع من عدَّة أوجه.
من الأكيد أن البشرية تواجه حالياً وضعاً صعباً للغاية، ولكنه ليس بالاستثنائي في التاريخ الممتد للبشر. فالمجتمعات البشرية، سواء منفردة أو مجتمعة، واجهت عبر تاريخها الحديث أو القديم وضعيات مماثلة. والتاريخ يطالعنا بحجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها البشر جراء ذلك، والتي إن وضعت في سُلَّم أو مقياس مع تلك التي أحدثتها جائحة كوڤيد-19 إلى حدود الآن لاتضح بجلاء الفرق البَيِّن بين الماضي والحاضر في قدرة الإنسان على احتواء الكوارث الطبيعية والتعاطي معها. ولنا في ذلك أن نُطلق العنان لمخيلتنا حول ما كانت لتكون عليه الأوضاع لو أن جائحة كوڤيد-19 حلَّت بالبشرية منذ عقود أو حتى قرون خَلت. على الأرجح، لو أن ذلك حدث لكان حجم الخراب والموت والفوضى الذي سينجم عنه مختلفاً جذرياً وربما نوعياً عمَّا هو حاصل اليوم. فالتاريخ يذكِّرنا بالتداعيات الكارثية التي ارتبطت ببعض الجوائح المتعلقة بأوبئة قاربت سرعة انتشارها ودرجة فتكها تلك الخاصة بكوڤيد-19. هذا لا يعني بتاتاً التقليل من أهمية الأرواح البشرية التي أزهقها الوباء الحالي، فكل روح بشرية هي بالقيمة التي تجعلها تُمَثِّل البشرية جمعاء، ولكن يعني رؤيةً موضوعيةً للوقائع ووضعاً لها في إطارها وسياقها المعقول. تبعاً لذلك، فحجم الموت والشُحِّ في موارد وسبل العيش والانكسار في مسار التقدم البشري الذي أنتجته الجائحة الحالية لا يُضاِهي في شيء ما كانت لتُحدثه إن حلَّت بالبشر في أزمنة ماضية. والفضل في ذلك كله يرجع إلى التقدم البشري في مختلف أبعاده ومجالاته والتي يمكن تسجيل مظاهرها على عدة مستويات.
يرتبط المظهر الأول بالميدان الطبي-الصحي. فعلى الرغم من كل ما يمكن أن يُدرَكَ كمظاهر للقصور والضعف في العلوم المرتبطة بالطب والصحة بشكل عام وأيضاً في الأنظمة الصحية المُعتَمَدة في مختلف مجتمعات المعمور في مواجهة الجائحة، خصوصاً تلك المتعلقة بعدم التمكن بفعالية من تحقيق سبل الوقاية الأنجع وإنتاج وضمان الأدوية واللقاحات المناسبة للوباء وتوفير الإمكانات اللوجستيكية والبشرية اللازمة لمنح خدمة صحية ملائمة للمصابين، فتقليب زوايا النظر في واقع الأمر يدفعنا إلى الإقرار بمدى الفعالية في هذا المجال حيث تُطالعنا انتصارات بشرية واضحة في التعاطي مع جائحة كوڤيد-19. ينبغي ألاَّ ننسى بأن الكشف عن الوحدة البيولوجية المسببة للمرض (الفيروس) قد تمَّ في وقت قياسي، في حين كانت الأوبئة عبر التاريخ تُودي بحياة الملايين من البشر دون أن يتَمَّ الكشف عن السبب الدقيق ورائها أو في أفضل الأحوال كان ذلك يَتحقَّق في زمن لاحق عن زمن الوباء وبعد أن يكون هذا الأخير قد أخذ من عُصبة البشر مغنمه.
لم تقف حدود النصر العلمي-الطبي عند حدود الكشف عن الڤيروس بل تعدته إلى تحديد قنِّه الجيني وتحديد الكائن الحي أو الحيوان المحتمل كحامل أصلي للڤيروس والكشف عن كيفية انتقاله إلى الإنسان وعن كيفية انتقاله بين أفراد النوع البشري وعن الأعضاء التي يهاجمها وكذا السيناريوهات المحتملة لانتشاره وغير ذلك من الإنجازات ذات الطابع العلمي والتقني الدقيق التي لازالت تَرِد علينا من مراكز البحث العلمي والطبي والتي لا يَفهَمها حق فهمها ولا يُقَدِّرها تمام تقديرها إلا ذَوُو الاختصاص؛ ولكن انعكاساتها على تطور الوباء وعلى نتائجه وعلى إمكانية الوقاية منه ومواجهته كان لها وسيكون بالتأكيد بالغ الأثر في اتجاه كبح وثيرة الانتشار والفتك الخاصة بهذا الوباء.
أما فيما يتصل بالعجز أو التأخر المُدْرَكِ بخصوص التوصل إلى دواء أو لقاح فعّال ضد المرض الذي يُحدِثه الڤيروس، فإن الوضع سيغدو مختلفاً إذا ما أدخلنا في الاعتبار الفرق الحاصل بين زمن الاستجابة البشرية الانفعالية للمخاطر والتهديد والتي تتميز بفوريتها وبين الاستجابة العالِمَة التي تَتَّسم برصانتها وامتدادها في الزمن. فمن الأكيد أنَّنا كبشر، باختلاف ثقافاتنا ومعتقداتنا كأفراد وكمجموعات، نميل من خلال ما نواجهه من مخاطر وصعوبات في حياتنا الاجتماعية إلى الإجابات أو الحلول ذات النفع المباشر والفوري مثل تلك المتعلقة بإيقاف الموت والفوضى التي تسببها لنا أزمة هذا الوباء. وهي عموماً استجابات تطبعها الاستهلاكية وتُوَجِّهُها الحاجات الخاصة. في المقابل، نجد أن العقل البشري واستجابته سيما في تَوَجُّهِها العَالِم لمثل هذه الأزمة ليس مشروطاً بالنفعية المباشرة أو الخاصة. إنه زمن استجابة ممتدّة ومستمرة ومرهونة بالإجراءات والبروطوكولات والمناهج العالِمَة التي تجعل إنتاجاته في منأى نسبياً عمَّا يمكن أن يشوبها من منزلقات وأخطاء قد تكون نتائجها لا رِجعية أو غير قابلة للتصحيح. وعلى الأرجح سيتوصل الإنسان، مسترشداً بعقله، إلى السبل الكفيلة والمثلى للتوافق الطبي والصحي مع هذه الجائحة، ولكن زمن العقل والنشاط الفكري مُمتد مقارنة بزمن الانفعال الذي يرتبط بالنجاة الفورية وربما الفردية.
أما فيما يخص قدرة الأنظمة الصحية في مختلف المجتمعات بما فيها المتقدمة على مواجهة الوباء من خلال توفير الإمكانات اللوجستيكية والبشرية اللازمة، فعلى الرغم من اللَّوم الذي يمكن أن يُوَجه إلى الأنظمة المُع‍تَمَدة في مجال الصحة في مختلف دول المعمور، فإن هذا لا ينبغي أن يحجب عنا عدم إمكانية إقامة نظام صحي باستطاعته الإجابة الكافية عن متطلَّبات التحمل الطبي الخاصة بكلّ المصابين بالوباء نظراً لعددهم الهائل ونظراً لحاجة نسبة معتبرة منهم إلى العناية الطبية المركزة. نظرياً، يتطلب الأمر توفير جيش من الموارد البشرية الطبية ومؤسسات ومعدات طبية لا حسر لها ويتناسب تعدادها مع تعداد المصابين. عملياً، هذا يعني أن الاستعداد "الملائم" لجائحة مفترضة كجائحة كوڤيد-19 كان يتطلب من البشر وقف جهدهم وتراثهم المادي والبشري على النُّظُم الصحية، وهذا أمر لم يكن ليستساغ سواء من الناحية الأخلاقية أو الاقتصادية. فوضع كهذا كان ليجعل الحياة البشرية، بما يُوجِّهها من غايات وما يحكمها من موارد مادية وفكرية، رهينة وموقوفة على انتظار ومواجهة خطر داهم مفترض، مع ما ينتج عن ذلك من تعطيل لمختلف سبل التقدم البشري الأخرى التي ستفتقر إلى الإمكانات والموارد الضرورية للمضي قدماً.
ورغم ذلك، فإن النُّظُم الصحية في مختلف بقاع الأرض قد واجهت وتواجه الوباء بأكفأ السبل الممكنة. وقد عمدت إلى الدفع بطاقتها اللوجستيكية والبشرية إلى مداها، وأصبحت جندي الصف الأول في الحرب البشرية على الوباء. فمن ناحية أولى، فهي تعمل على تجنيد طاقتها في رعاية وتحمل المصابين وعلى إعداد وتجهيز بنيات جديدة للاستقبال بل إبداع سبل مبتكرة للإيواء والتطبيب كتحويل وسائل النقل أو الفضاءات الرياضية أو فضاءات الإيواء السياحي إلى فضاءات للتطبيب أو بناء وتجهيز فضاءات ذات التركيب المسبق لاستقبال المصابين. ومن جهة ثانية، فهي لا تَدَّخر جهداً في استثمار إمكاناتها في سبل الوقاية المتجلية في التواصل الإعلامي سواء المرتبط بحملات التوعية والوقاية ضد الوباء أو بتدخلات المختصين الطبيين لتوسيع نطاق المعرفة الطبية الخاصة بتطور وخطورة الوباء. ودون أن تكون الغاية هنا تبرير الوضع القائم في الأنظمة الصحية لبعض الدول بما يشوبه من عيوب، فإنه على العموم لا يمكن تحميل النظم الصحية في العالم أو حتى الجهات السياسية الوصية عنها كامل المسؤولية في عدم كفاية طاقتها على التكفل والتطبيب الخاص بالمصابين بوباء كوڤيد-19؛ وإلا فإن الاستعداد المناسب للوباء كان معناه، بالنظر إلى الأعداد الهائلة للمصابين، جعل أغلب الأبنية التي شيَّدها البشر عبارة عن مؤسسات للرعاية الصحية.
يكمن المظهر الثاني لآثار التقدم البشري على التعاطي الجيد عموماً وإلى حد الآن مع وباء كوڤيد-19 في التصريف الاجتماعي والاقتصادي للجائحة وللمظاهر والآثار المباشرة للأزمة. بهذا الخصوص، برزت وبجلاء الإمكانات التي منحتها وسائل وتكنولوجيا الاتصال والتواصل الحديثة. وهذا الشق يحيل على التطور الكبير في مجال تقنيات ربط الاتصال بين البشر والدور الهام الذي لعبه سواء في جعل المعلومة الطبية والصحية متوفرة لعموم الناس أو في التواصل السريع والفعال بين المؤسسات والأفراد لتنظيم الاستجابات وتوجيهها لإنزال التدابير الضرورية لمحاصرة الوباء والحدِّ من قدرته على القتل وإحداث الارتباك والفوضى من قبيل تنظيم مختلف أشكال الحجر. ولنا أن نتصور كيف كانت ستبرز صعوبة تحقيق هذه الإجراءات وجعلها أمرا واقعاً في غياب التقدم الهائل للبشر في مجال الاتصال والتواصل. لقد مكن التقدم الهائل في هذا المجال الفرد من تجاوز الزمان والمكان الخاص به كفرد ليرتبط بزمان ومكان مشترك بين البشر هو زمان ومكان تقنيات وفضاءات الاتصال والتواصل الحديثة والتي تجعل من الطرق السيارة لنقل المعلومة أحد أهم دعاماتها.
إن أهمية وسائل وتقنيات الاتصال والتواصل الحديثة في تدبير الأزمة لم تقف عند حدود توفير المعلومة والإخبار بل تجاوزته لتفسح المجال أمام إمكانية حقيقية وفعالة للتحكم في بعض العوامل المرتبطة بالوباء من خلال جعل الأفراد يواكبون وثيرة انتشار الوباء في زمنه الفعلي وليس في زمن لاحق عنه. فقد باث ممكناً بالنسبة للأفراد، من خلال استعمال أجهزتهم الخاصة بالاتصال، تتبع ليس فقط منحنيات تطور الوباء في مختلف الرقع الجغرافية العالمية والوطنية بل حتى المحلية عبر تتبُّع مختلف الحالات التي تم كشفها في مدينته وحيِّه والاطلاع على الإجراءات التي تم اتخاذها وأيضا سبل الوقاية والتعقيم التي تم اعتمادها في الأمكنة والفضاءات التي رُصِدت فيها حالات الإصابة وتحديد ما إذا كان ممكناً ارتيادها بأمان.
لعلّه من خلال تحليلنا لاستراتيجيات المواجهة النفسية-المعرفية قد اتضحت أهمية الاستراتيجية المُرَكَّزة على المشكل. فهي تجعلنا نحافظ على ثبات ثقتنا في ذواتنا وفي الإنسان عموماً وفي قدرته على مواجهة وتجاوز الصعاب العظمى. إنها تُبقي المجال مفتوحاً للتفكير في قوة الإنسان بدل التفكير في ضعفه. تفكير لا يستند إلى الثقة المفرطة فيما يُنتِجه أو يمكن أن يُنتِجه عقل وفكر هذا الإنسان (العلم والتقنية) بقدر ما يستند إلى الثقة في الإنسان في حد ذاته وفي قدرته على إعادة النهوض والاستمرار. إنها ثقة في المُنْتِج وليس في المُنْتَج، فإذا كان العلم والتقنية يموتان باستمرار فإن العقل البشري الذي يُنتِجهما ويَتجاوزهما يبقى دوماً نابضاً بالحياة وبالقدرة على الإنتاج. إن تقديس الإنتاجات العلمية ومشتقاتها التطبيقية (التقنية) هو ما يمكن أن يقودنا إلى وضعية الباب المسدود الذي يَبرُزُ معه خطر الانتكاسة والانقلاب على الإنسان وعلى عِلمه كلَّما وجدنا أنفسنا في وضعية أزمة داهمة. فلا يمكن أن يكون هناك تقديس للعلم والتقنية وللإمكانات التي تتيحها، وهذا ما يُقِرُّ به العلم ذاته حين يعترف بما يعتري الإنتاج العلمي من قصور وقابلية للنقد والتجاوز. ولكن رغم ذلك فثقتنا بالإنسان لا ينبغي أن تهتز ليس باعتبارها فكرة أنطولوجية وفلسفية وإنما كواقع يمكن ويتعيَّن استنباطه من مختلف الوقائع التي يطالعنا بها التاريخ الحديث والمعاصر للحضارة البشرية التي تنجلي من خلالها وبوضوح الإمكانات اللامحدودة للإنسان على احتواء الإشكالات العظمى التي تُواجهه وتُهدِّد ليس فقط وجوده وإنما مستوى الرفاه والعيش الاستثنائي الذي بلغه.
وتجدر الإشارة، على وجه التحديد، إلى أن ما نشهده اليوم من قلة اليقين وتضارب وجهات النظر العلمية بين الباحثين والمختصين حول وسائل وإجراءات الوقاية والتطبيب الخاص بوباء كوڤيد-19 هو أمر طبيعي وملازم للمجهود والبحث العلميين، ويعيشه الباحثون والعلماء والخبراء في مختلف الميادين عموماً بكيفية محايثة لفعل البحث والاستقصاء والاختبار العلمي ولكنه يبقى شئناً داخلياً وخاصاً. لكن، ونظراً للظروف الاستثنائية لهذا الوباء، فقد أضحى تمريناً يخوضه عموم البشر لأول مرّة بهذا القدر من الاتساع والتفصيل بعد أن كان ينعم فقط بالمُخرجَات النهائية لهذا العمل المضني. ولا يجدر بذلك أن يُرهبنا أو يحُدَّ من ثقتنا في قدرتنا على المواجهة والإنجاز، ما دام الأمر من صميم فعل التقدم العلمي على وجه الخصوص والتقدم البشري عموماً.
في فضائل الخضوع والامتثال الاجتماعي
من الأكيد أن وباء كوڤيد-19 مَثَّل تحدياً للبشر ولقدرتهم على تسخير إمكاناتهم لمواجة المخاطر الطبيعية المكتسحة. هذا التحدي امتد ليشمل مختلف أشكال الفعاليات البشرية ومناعتها ضد المخاطر الكبرى. ولعل التنظيم الاجتماعي للمجموعات البشرية بدا كأحد أهم أبعاد الوجود الإنساني التي واجهت هذا التحدي، حيث اختُبِرت قدرة أفراد مختلف المجموعات البشرية، من خلال مختلف أنماط التنظيم الاجتماعي التي تحكمها وأشكال التفاعل الاجتماعي التي تسودها، على تحقيق النجاعة في صدِّ أو على الأقل التخفيف من وطئة الوباء.
إن تفاوت المجتمعات البشرية، على الرغم من تقارب العديد منها على مستوى الإمكانات الاقتصادية والسياسية، في كفاءتها في مواجهة ومحاصرة الوباء إلى حدود الآن، يجعل السؤال مشروعاً عن المداخل الأمثل للتعاطي مع مثل هذه الوضعيات بغض النظر عن الموفورات المادية والاقتصادية.
فبغض النظر عن المحددات الاقتصادية أو حتى الثقافية، وبالتمعن في تجارب بعض البلدان-والمغرب من بينها-التي حققت نجاحاً ملحوظاً إلى حدود الآن في المحاصرة النسبية للوباء من حيث عدد المصابين والأهم من حيث عدد الموتى والتي تتوزع على قارات مختلفة، يلوح في الأفق قاسم مشترك خاص بهذه التجارب الاستثنائية يرتبط بنمط التفاعل الذي ميَّز ارتباط الفرد/ المجموعة/ المؤسسة. فإذا كان الإجراء الذي يبدو أكثر فعالية إلى حدود الآن في مواجهة الجائحة في ظل غياب دواء أو لقاح فعَّال، والذي نجحت فيه إلى حدود بعيدة بعض البلدان، يتجلى في إقرار وتنفيذ الحجر والتزام الأفراد به؛ فإن فعالية هذا الاجراء ارتبطت بشكل واضح بمستوى استجابة وامتثال المواطنين، أفراداً ومجموعات إلى تدابير هذا الحجر كما تُحدِّدها مختلف الجهات والمؤسسات المسؤولة.
فبالقدر الذي يبدو فيه الخضوع الاجتماعي اللامشروط للسلطة في فترات السلم والأمن والرخاء غير مستحب، نظرا لما يرتبط به من تهديد للحريات الفردية والجماعية سيما الحرية في التفكير والفعل والنقد والاختلاف... فإنه يبدو مطلوباً في زمن الأوبئة والمخاطر الكبرى، وذلك لأنه يضمن حركة المجموعة الاجتماعية ككتلة أو وحدة متماسكة عوض الخطر الذي يمكن أن تُمثِّله تحركات الأفراد كوحدات مستقلة في اتجاهات مختلفة مع ما يمكن أن يرتبط بذلك من تهديد لوجود واستمرار المجموعة ككل. هذا الوضع أو هذه الحالة الاجتماعية التي يعرفها البشر باستمرار تَتحدَّد في مجال علم النفس الاجتماعي بمفهوم الخضوع للسلطة. وهي وضعية اجتماعية تتميز بِمُحدِّدات معينة ترتبط بوجود الأفراد في سياق اجتماعي يطبعه تفاعل اجتماعي من نوع مميز خاصيته الأساسية وجود طرفين اجتماعيين متفاوتين في إدراكهما لقدرتهما على التأثير الاجتماعي. فمن جهة هناك الفرد أو المجموعة أو الهيئة الاجتماعية التي تُدْرَكُ كجهة لها السلطة والمشروعية والقدرة والكفاءة على التأثير في سير الوقائع والأحداث؛ ومن جهة ثانية هناك الفرد أو المجموعة التي تُدْرِكُ ذاتها كتابعة للجهة السالفة وبأن موقعها الاجتماعي يُحَتِّم عليها اتباع ما تمليه هذه الجهة بالنظر إلى مشروعيتها وكفاءتها.
هذا الوضع الاجتماعي يتولد عنه شكل خاص من التفاعل والتأثير الاجتماعي يرتبط بما يُصطلح عليه في مجال علم النفس الاجتماعي بالخضوع للسلطة (سياسية، علمية، اقتصادية...). من أهم مظاهر ونتائج هذا الشكل المميز من التفاعل والتأثير الاجتماعي هو أن الفرد أو المجموعة الاجتماعية التي تُدرِكُ وجودها في وضعية خضوع تَتَعطَّل عموماً لديها قدرات التفكير الفردي الخاص وكذا إمكانات الحكم الاجتماعي والاخلاقي على ما يَصدُر عنها من أفعال نتيجة ما تَطْلُبه منها مصادر السلطة، وبالتالي يتراجع لديها الحس النقدي والقدرة على تقييم نتائج الفعل الذي تُصدِرُه أو الاستجابة التي تتبناها. إن الفرد في مثل هذه الوضعيات الاجتماعية التي تتميز بوجود خضوع للسلطة يتحول إلى مجرد أداة لتحقيق أهداف تتجاوز وعيه الخاص لتستجيب لوعي يُدرِكُه كوعي شامل يتميز بالمشروعية والمسؤولية.
إن وضعيات اجتماعية مماثلة لتلك التي أتينا على وصفها تَحدث بشكل مستمر ودائم في الحياة الاجتماعية اليومية لمختلف المجموعات الاجتماعية، فهي مظهر أصيل من مظاهر الحياة الاجتماعية للأفراد بما يعتريها من تفاعلات وتأثيرات. ولكنها تحدث في الغالب على سلم اجتماعي محصور، على الرغم من إمكانية حدوث ذلك بشكل مُوسَّع في المجتمعات ذات الأنظمة السياسية الشمولية.
وبالقدر الذي يبدو هذا النمط من التفاعل والتأثير الاجتماعي مُهَدِّداً للحرية الفردية والجماعية ولبعض فئات القيم التي ناضلت وتناضل البشرية لترسيخها وجعلها واقعاً في الحياة الاجتماعية للإنسان كقيم الاختلاف والإبداع وغيرها من قيم التفرد والتمايز التي أصبحت تُعتَبر غاية للوجود البشري في حد ذاته، فإنه يبدو ضرورياً في مستويات معينة أو في حقب تاريخية محددة لتحقيق بعض الغايات والأهداف المشتركة للوجود الاجتماعي لمجموعة بشرية معينة والتي تتطلب وجود حركة أو نشاط اجتماعي مُرَكَّز ومُوَجَّه لغاية محددة. مثل هذه الوضعيات يصبح فيها الفرد، بما يتميز به كوحدة مستقلة قادرة على الاختيار والفعل، تهديداً للوجود الجماعي وحتى الفردي.
ولعل الوضع الذي نحن بصدده والمتمثل في تطور وانتشار الوباء والمنحى الذي أخذه في بعض البلدان مثالٌ مكتمل على مثل هذه الوضعيات الخاصة التي تُظهر أهمية الخضوع الاجتماعي للسلطة كشكل من التفاعل والتأثير والتنظيم الاجتماعي الذي يسمح بمواجهة اجتماعية أنجع للمخاطر المداهمة. فتجارب المجتمعات التي حققت تقدماً ملموساً في محاصرة الوباء والتقليل من خطورته، تطالعنا بأهمية الخضوع للسلطة في فعالية المواجهة الاجتماعية للمخاطر. ففي ظل انحصار تأثير عامل الإمكانات التقنية، ومن خلال مضامين التقارير الرسمية والبلاغات والمقالات الصحفية، نجد بأن هذه الدول نجحت بكيفية ملحوظة في محاصرة تطور انتشار الوباء من خلال انضباط والتزام الأفراد في اتباع التعليمات والتوجيهات الصادرة عن الجهات والمؤسسات الوطنية الرسمية سواء تلك المتعلقة باتباع سبل وإجراءات الوقاية الصحية كالنظافة والتعقيم أو تلك المتعلقة بالحجر والتزام المنازل وعدم مغادرتها إلا للضرورة القصوى.
إن استجابة الخضوع هذه لا ترتبط، من وجهة النظر المعتمَدة في هذا التحليل، بمنسوب الوعي لدى الأفراد بمخاطر الوباء والتي أصبحت معلومة للقاصي والداني. فمعرفة مستويات المخاطر لا يمكن أن تُفسِّر هذا التفاوت في استجابة أفراد مختلف المجتمعات لتدابير الوقاية والمواجهة. إن الأمر يتجاوز نطاق الوعي أو المعرفة المتوفرة للفرد أو مستواه التعليمي أو غيرها من محددات شخصيته، ليرتبط بدينامية سيكو-اجتماعية يحتل فيها التأثير والتفاعل الاجتماعي أهمية بالغة بحيث يُوجِد أشكالاً معينة من العلاقات الاجتماعية بين الفرد /المجموعة/ المؤسسة هي الكفيلة بتحقيق هذا النوع من الاستجابة المشتركة للأفراد والفعالة في مواجهة الجائحة.
ولكن، كيف ولماذا لم يتمظهر هذا الشكل من العلاقات الاجتماعية، على الأقل بنفس القوة والفعالية، لدى كل مجتمعات المعمور في ظل هذه الشروط الخاصة بهذا الوباء؟ إن بروز الخضوع الاجتماعي للسلطة كاستجابة نوعية للأفراد لا يرتبط بالضرورة بمواجهتهم لخطر داهم يُهدِّد وجودهم الاجتماعي المشترك بقدر ما يرتبط بشروط ومحددات سيكو-اجتماعية أخرى. فخضوع الفرد لسلطة معينة واستجابته اللامشروطة لتوجيهاتها وتعليماتها يبقى رهيناً بمجموعة من المحددات أهمُّها رصيد المشروعية الذي تتوفر عليه تلك السلطة في نظر الفرد، بحيث أن منسوب الخضوع الاجتماعي للسلطة يتناسب إيجابياً مع منسوب إدراك الفرد لمشروعية تلك السلطة. بمعنى آخر، كلما زاد اعتقاد واقتناع الفرد بأن السلطة التي تُصدِر التعليمات والتوجيهات لها ما يكفي من كفاءة وقدرة على تحمل مسؤولية نتائج تلك التعليمات كلما زاد إذعانه لها واستجابته الفعالة والتزامه بتوجيهاتها. هنا تنجلي مختلف رهانات الفرد في إطار علاقته بسلطة يُدرِكُها كسلطة مشروعة ومؤهَّلة لأن تقوم مقامه في التصور وتحديد الفعل وتَحمُّل تبعاته. إنها لعبه تأثير وتفاعل متبادل بين الفرد والسلطة، بحيث يتنازل الفرد بشكل ضمني لمصدر السلطة عن قدرته على التفكير والحكم والفعل الحر والمستقل والنقدي مقابل أن تَحُلَّ محله في تحمل نتائج فِعْلِه واستجابته التي تطلبها منه تلك السلطة ما دامت هي مصدره.
اعتماد هذا التحليل يجعلنا نفهم كيف أن جل الأفراد المنتمين لبعض المجتمعات، الذين يُعَدُّون بالملايين، كانت استجابتهم نموذجية ونمطية ومطابقة للتعليمات التي تُصدرها المؤسسات والهيئات الوصية فيما يخص الوقاية والحجر والتباعد الاجتماعي وغيرها من إجراءات مواجهة الجائحة، وكيف أن استجابة الكثير منهم تجاوزت ردة الفعل الطبيعية المتعلقة بالنزعة إلى البقاء والنجاة الفردية لتتوافق مع عدم التهافت على اقتناء المواد الضرورية للعيش (الغذاء وغيره) في بداية الجائحة وذلك امتثالاً لتوجيهات السلطة؛ الأمر الذي خلق الشروط المواتية للمحاصرة النسبية لانتشار الوباء.
ليس الغرض هنا من إبراز أهمية الخضوع الاجتماعي للسلطة القول بأنه السبيل أو المسلك الوحيد لخلاص البشرية من هذا الوباء، ولكن على الأقل توضيح نجاعته كعامل في استراتيجيات مواجهة الجائحة الحالية وربما جوائح في المستقبل. فالخضوع الاجتماعي للسلطة، إذا توافرت الشروط الضرورية لقيامه وتعزيزه كأحد الأشكال المتميزة للدينامية والتفاعل والتأثير المرتبط بالعلاقات الاجتماعية، يمكن أن يُحَوِّل مجموعة اجتماعية إلى وحدة وظيفية متراصة ومتناغمة تؤدي فيها السلطة( الدولة/المؤسسة) وظيفة الدماغ بالنسبة لباقي الجسم الاجتماعي، ليكتفي الأفراد بأداء وظائف مختلف الأعضاء التي تستجيب لطلبات هذا الدماغ بكل سرعة وفعالية؛ وبذلك تتحقق للمجموعة أو المجتمع فرص فضلى للنجاة في الشروط العصيبة للجوائح والتي يمثِّل فيها التنافر أو عدم الانسجام في استجابات الأفراد مدعاة للتهلكة أكثر من المخاطر التي تمثلها الجوائح في حد ذاتها.
في نهاية هذا التحليل، لابد من الإقرار بأن سعينا الحثيث كبشر في إطار مواجهتنا لوباء كوڤيد-19 لإيجاد سبل بيولوجية-طبية لمواجهة الڤيروس، سيغدو غير مكتمل إن لم يوازيه مجهود مماثل على مستوى الوعي والالتزام بالسبل الكفيلة بمواكبة والتعاطي مع التداعيات الأخرى للأزمة سيما في أبعادها النفسية-الاجتماعية. فبالقدر الذي تبدو فيه حاجة البشر مُلِحَّة لاكتساب مناعة بيولوجية تمنع عنهم مخاطر الڤيروس في الحاضر وتَقِيهم ارتداداته في المستقبل، فإنهم في أمسِّ الحاجة لمناعة سيكو-اجتماعية تُحَصِّن استجاباتهم الفردية والجماعية في هذه الأزمة وتُغنِي رصيدهم النفسي-الاجتماعي لمواجهة أزمات أخرى في المستقبل.
*أستاذ علم النفس الاجتماعي جامعة سيدي محمد بن عبد الله-فاس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.