هكذا يتجلى التاريخ في أصعب تمثلاته وأكثرها إيلاما، جحافل الموتى تتسابق نحو اللحود تباعا وبلا انقطاع، والجميع يقف مشدوها لا يقوى على مواجهة هذا الشبح المرعب، الذي يحصد بلا عد، ويجمع بلا حساب. لا وجود لدروس بالمجان، وإذا لم تنفع كل الدروس السابقة، فهذا درس بالموت وبالفناء، وربما كان آخر الدروس قبل النهاية، ما لم تنتبه البشرية إلى أعطابها المزمنة، ويراجع الأنانيون والجشعون حساباتهم، في الداخل كما الخارج، سواء بسواء. مع (كورونا) تأكد للجميع، أن المصير في نهاية المطاف واحد، بالنسبة إلى الجميع، وأن هذه الأرض مركبة صغيرة، يجب أن تحمل الجميع، ويجب أن تسع الكل، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، فكلهم بشر، وكلهم يريد الحياة، فما أحوج الإنسان عبر العالم إلى أخيه الإنسان، بلا خرائط ولا حدود ولا متاريس، يصنعها الأنانيون والدجالون وتجار المآسي، وبائعو الخراب. من المؤمل أن يغير (كورونا) بواطن الأشياء، وأن يحفر عميقا في دواخل هذا الإنسان عبر العالم كله، وأن يدفع كل الأطراف الكبيرة والصغيرة في الداخل كما الخارج، إلى المراجعة الحقيقية وإلى إعادة صياغة الأسئلة، أسئلة المصير المشترك أو الموت المشترك، لا فرق، فهذا الداء يستهدف الإنسان، فماذا يتبقى بعد انقراض هذا الكائن الجميل، ومعظم من غادرونا، هم جماعة من الأبرياء، مسنون ومرضى، لا يد لهم في كل هذا الذي يجري. الكبار المتغطرسون يرتكبون الحماقات، ويصنعون المآسي، ويضعون لها المسميات والكلمات والشركات، والضعفاء والطيبون عبر العالم يؤدون الثمن من أرواحهم ودمائهم وهوائهم، وبلا أدنى تفسير، عدا الرغبة في السيطرة والقهر، وإدامة الغلبة والإذلال. سينتهي (كورونا) وسيتفرغ العالم لحسابات الربح والخسارة، وسينطلق الكثير من الجشعين كعادتهم لإعادة تحصيل ما ضاع منهم، من مقدرات وأرصدة مادية بلا حياء ولا وخزة ضمير، وسيتحدث عقلاء العالم بكل اللغات، وسيبحثون كما العادة عن الإنسان، عن هذا الكائن الجميل الذي يرعبه الخبثاء والأنانيون، ويطاردونه على الدوام. في لحظة واحدة ينتهي كل شيء، ويستوي الجميع أمام هول الموت الأخير، فإذا كان الموت واحدا، فلماذا لا تكون الحياة أيضا واحدة وللجميع؟ هذا هو التاريخ الذي يرجى كتابته بعد (كورونا)، تاريخ لا يعيد نفسه.