يقع المغرب ضمن محيط جيواستراتيجي معقد ومتصاعد المخاطر الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، مما يعيد إلى الواجهة أولوية قضية الأمن القومي للبلاد وضرورة الإعداد لمرحلة "اقتصاد ومجتمع الحرب"، التي تفترضها مواجهة تحديات السياق الدولي المتقلب الذي يطبع مطلع الألفية الثالثة. وتستعرض المحاولة التالية، بعض الخطوط العريضة بغرض الإسهام في النقاش الفكري حول الموضوع. وقصد ذلك، نستعين باستدعاء مفهوم الاكتفاء الذاتي في أبعاده المتعددة الذي يمكن اعتباره ركيزة لأي استراتيجية وطنية تستهدف تقليص التبعية والارتهان الخارجي، خاصة على مستوى القطاعات الاستراتيجية. ويظهر التقييم الأولي للقوة الجغرافية للبلد، توفر جانب مهم من الموارد القدرات الكفيلة بتلبية متطلبات اقتصاد ومجتمع زمن الحرب. الأمن الغذائي أساس تحقيق استقلالية وأمن البلاد يتوفر المغرب على مساحة زراعية تفوق 8 ملايين هكتار، بما يعادل 12 % من المساحة الإجمالية للبلاد، منها 1,5 مليون هكتار مسقي بفضل سياسة السدود التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني منذ سبعينيات القرن المنصرم، غير أن أغلبية الأراضي البورية المتبقية ضعيفة إلى منعدمة المردودية بسبب تدهور وهيكلية تربتها وقلة التساقطات. وباستثناء الشمال الغربي الذي يؤمن "السلة الغذائية للبلاد"، وينحصر في مجال ضيق، تحده السفوح الشمالية للأطلس الكبير، ونظيرتها الغربية للأطلس المتوسط ومقدمة سلسلة جبال الريف، يضاف إليها (سهل سوس، سهل تريفة، الواحات)، فإن أغلب جغرافية البلاد، يتعذر فيها الإنتاج الزراعي بسبب القحولة المناخية (جنوب وشرق الخط الرابط بين مدينتي وجدة – أكادير. ورغم قساوة الظروف المناخية، فإن المغرب يحقق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الخضر والفواكه واللحوم الحمراء والبيضاء والحليب نظرا لأهمية وتنوع قطعانه (الأغنام، الأبقار، الماعز، الجمال) واتساع مجالاته الرعوية وتقدم وتطور صناعة الدواجن وحرفية الفلاح المغربي. ويتعزز الأمن الغذائي المغربي، بفضل الثروة السمكية المتنوعة والخزان الغذائي الاستراتيجي الذي تمثله واجهته المحيطية الأطلنتية، وفي الوقت الذي يعمد فيه المغرب إلى تصدير كميات هائلة من الخضروات والحوامض نحو الأسواق الأوروبية، فإنه يعجز عن تلبية احتياجاته من الحبوب التي تعتبر مادة استراتيجية حاسمة تعرض أمنه الغذائي للخطر وتهدد قطعانه بالفناء خلال سنوات الجفاف. ووفق هذا المنظور، فإن السياسة الفلاحية للبلاد تحتاج لبعض المراجعة والعودة لمنطق الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية الاستراتيجية، وتنمية وتطوير سلاسل إنتاج الحبوب والقطاني والأعلاف والزياتين والتمور والثمار الجافة كالجوز واللوز أو القابلة للتجفيف كالتين، خاصة وأنها تتفق مع الخصوصيات البيومناخية للمغرب. في المقابل، يفترض عند وضع هذه السياسة، استدعاء خبرة معاهد ومراكز البحث العلمي لدعم عمليات التخطيط والتطوير والمتابعة (معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، المعهد الوطني للبحث الزراعي، الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان، المكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني، مركز الدراسات والأبحاث الجغرافية، ...)، خاصة أمام التزايد الديمغرافي المستمر للساكنة المغربية، وانعكاسات التغيرات المناخية. المنظومة الصحية للبلاد: خبرات متقدمة تنقصها الإمكانيات اللوجستية والتقنية تظهر معطيات الموقع الرسمي لوزارة الصحة المغربية، أن القطاع العمومي يتوفر على حوالي 12 ألف طبيب (3857 طبيب عام و7559 متخصص)، يسانده 31657 من بقية مكونات الجسم الطبي كالممرضين والمساعدين الطبيين (Corps paramédical)، و2028 إداري و3773 تقني، يخدمون 149 مستشفى بطاقة استيعابية تصل ل 23931 سرير و10 مستشفيات للأمراض النفسية (1454 سرير) و113 مركز لتصفية الكلى (2213 جهاز). ويضاف إلى المستشفيات 838 مركز صحي حضري و1274 مركز صحي قروي. ووفق نفس المصدر، فإن القطاع الصحي الخاص ببلادنا لا يقل أهمية عن نظيره العام، إذ يجمع 5190 طبيب عام و8355 طبيب متخصص، ويضم 359 مصحة خاصة (10346 سرير) و9671 عيادة للاستشارة الطبية، و9671 عيادة للفحص بالأشعة، و3614 عيادة لطب الأسنان، و8997 صيدلية و550 مختبر. في المقابل، وبالرجوع لحجم الساكنة المغربية وفق معطيات "الساعة السكانية" التي يظهرها الموقع الرسمي للمندوبية السامية للتخطيط (35856790 نسمة)، تثير مقارنة الأرقام عدة مخاوف، فالقطاع العمومي يوفر طبيبا واحدا فقط لكل 2988 مواطن، ويتحسن الوضع نسبيا مع إضافة أطباء القطاع الخاص لتصبح العتبة طبيبا واحدا لكل 1401 مواطن. كما يلعب الطب العسكري دورا مساعدا خلال الأزمات. وقد راكمت الموارد البشرية الطبية بالمغرب خبرة كبيرة على مدى عدة عقود بفضل تعدد كليات الطب ومختبرات البحث، جعلت منه قبلة لطلبة عدة بلدان الإفريقية، كما تتميز الصناعات الدوائية المغربية باستقلالية وتطور كبير، ويحظى المختبر الوطني لمراقبة جودة الأدوية بسمعة دولية معتبرة. وتكمن الحاجيات المستعجلة للقطاع، في ضرورة ضخ موارد مالية هامة ومستعجلة لاستدراك الخصاص، ومضاعفة العدد الإجمالي لأطباء القطاع العام، وتحسين وضعيتهم المهنية والمالية، تفاديا لهجرتهم نحو بلدان أخرى (فرنسا، كندا)، وكذا بناء وتجهيز مستشفيات جامعية جديدة بطاقات استيعابية أهم وبمواصفات جودة عالمية. ويعتبر دعم مشاريع ومختبرات البحث العلمي الطبي أساسيا، مع إعطاء خصوصية مغربية لقطاع إنتاج الأدوية من خلال تطوير الوكالة الوطنية للنباتات الطبية والعطرية عوض الاعتماد فقط على استصدار رخص استنساخ الأدوية "الجنيسة" التي تسوقها الشركات العالمية، بحيث يمكن الاستفادة من التجربة الصينية في هذا الميدان. الصناعة المغربية وضرورة الربط بمنظومة التكوين المهني والاقتصاد الوطني إن الصناعة الوطنية الناجحة، تستدعي ربطها الوظيفي بالقطاعات الاقتصادية لكل بلد، وتعتبر الفلاحة بالمغرب قطاعا اقتصاديا استراتيجيا، يتطلب تطويره إنتاجا واسعا للآلات (آلات الحصاد، الحرث، الجني)، وأنظمة السقي (القنوات، أنظمة الرش والتنقيط)، وكذا على مستوى إنتاج الأسمدة والمبيدات، والصناعات الغذائية والتحويلية، عوض الاعتماد على الاستيراد وما يكلفه من عملة صعبة، وتطوير صناعة مراكب وسفن الصيد البحري. ويمكن ربط الصناعة بمشاريع شق الطرق والربط والنقل السككي، وأنظمة الاتصال والمواصلات ومعالجة النفايات الصلبة والسائلة. إن التحول الصناعي بالمغرب، يتطلب سنوات طويلة من العمل الجاد والدعم الموصول واعتماد التدرج واستيراد وتطوير التكنولوجيات المحلية، وهو ما يربطنا مباشرة بتوجيه معاهد ومؤسسات البحث العلمي والتكوين المهني ببلادنا نحو الاستجابة المباشرة لمتطلبات التصنيع المحلي للبلاد، (المدرسة المحمدية للمهندسين، المدارس العليا لأساتذة التعليم التقني، ..). التماسك السياسي والأمن الروحي ضمانة للوحدة والانتظام الاجتماعي إن القوة الخفية والناعمة للدول، تقاس بمدى ارتباط شعوبها بأنظمتها السياسية، وهو الارتباط الذي تسهم فيه عدة عوامل جغرافية وتاريخية ودينية وسياسية، تعمق مفهوم المصير المشترك وترسخ القناعة والانتماء والغيرة الوطنية، بعيدا عن دوافع الخوف (القمع) أو الطمع (المصالح)، بحيث يشعر مواطنوها بالأمن في مفهومه الأوسع وأبعاده المتعددة، وبضمان حقوقهم وحريتهم وسيادة العدل والمساواة أمام القانون وحفظ كرامة الأفراد. وتعتبر مؤسسة إمارة المؤمنين والوحدة المذهبية (المذهب المالكي)، واستمرارية النظام الملكي من بين أبرز ركائز الوحدة والاستقرار السياسي والانتظام الاجتماعي للبلاد. كما أن الوعي الوطني الذي يميز المغاربة، شكل صمام أمان في وجه مختلف محاولات العبث بمقومات الوحدة الوطنية "الظهير البربري إبان الاستعمار، دعاة التفرقة"، وجنبت الأمة ويلات الصراعات العرقية أو الطائفية التي تعرفها بعض البلدان (اليمن، العراق، سوريا، ليبيا)، ويشهد للمغاربة باحترام قيم التعدد والتنوع والاختلاف والتعايش مع بقية الديانات بحيث نسير بثبات نحو تعميم إنسانية وكونية قيم المواطن المغربي. في المقابل، وعلى الرغم من التقدم النوعي الذي أحدثه الدستور الجديد لسنة 2011، يواجه المغرب تحديات سياسية عديدة، كتراجع إقبال الشباب على الانتماء السياسي وتراجع نسب التصويت، نتيجة لإشكاليات اجتماعية عديدة كارتفاع نسب البطالة، ونتائج بعض السياسات السلبية على الفئات الاجتماعية الفقيرة والطبقات المتوسطة، وأيضا تراجع سمعة العمل السياسي، بسبب ظهور أوجه متعددة للفساد الإداري والمالي والمحسوبية والمصالح الفردية الضيقة والإخلاف بتنفيذ مضامين البرامج السياسية الموعودة. وتجدر الإشارة إلى أن فعاليات المجتمع المدني أضحت تستقطب نسبة معتبرة من الشباب وتسهم في تأطيرهم وملء الفراغ الحاصل على مستوى الأحزاب، بحيث أظهرت عدة محطات فاعلية جهود المجتمع المدني مدعوما بوسائل التواصل الاجتماعي. الأمن الطاقي، وعي مغربي مبكر وطريق طويل للعمل توج الوعي المغربي المبكر بأهمية المصادر المتجددة في تحقيق أمنه الطاقي، بالإعلان عن الاستراتيجية الطاقية الوطنية سنة 2009، والتي عمل على تنزيلها من خلال إحداث محطات ضخمة لإنتاج الطاقة الريحية (محطة طرفاية)، وإحدى أكبر محطات إنتاج الطاقة الشمسية في العالم (نور ورزازات). كما أن الملك محمد السادس، أعلن عن واحد من أكبر المشاريع الطاقية أهمية في العالم، وهو خط الغاز الاستراتيجي الرابط بين نيجيريا وأوروبا مرورا ببلدان غرب إفريقيا. وتظهر معطيات الموقع الرسمي للوكالة المغربية للطاقات المتجددة (مازن)، أنها تستهدف تطوير تحقيق قدرة إنتاجية كهربائية نظيفة إضافية تصل إلى 3000 ميغا واط في أفق السنة الجارية (2020) و6000 ميغا واط في أفق سنة 2030، والرفع من حصة الطاقات المتجددة إلى 52% من الباقة الطاقية في أفق سنة 2030. ويمكن تعزيز الأمن الطاقي للمملكة على مستوى الاستثمار في تكنولوجيات طاقة أمواج البحار، ومضاعفة جهود البحث عن حقول الغاز الطبيعي والنفط، وعلى الأمد البعيد، العمل على بناء محطات لإنتاج الطاقة النووية بفضل التوفر على أول احتياطي عالمي من الفوسفاط، وإمكانية استخراج الكميات الضرورية من اليورانيوم، وعلى خبرة طويلة راكمها المجمع الشريف للفوسفاط. تطوير الصناعات الدفاعية والردع العسكري ضرورة لتأمين السيادة الإقليمية أمام محيط إقليمي متقلب وشديد الخطورة بسبب محاولات التطويق الجيوسياسي التي يواجهها المغرب والاستهداف المباشر لوحدته الترابية، يبقى تحقيق الردع العسكري شرطا أساسيا لتحقيق السيادة الإقليمية وتحصين البلاد ضد أي أطماع خارجية، وفي حين يحظى المغرب بعمق استراتيجي ومناعة جغرافية واضحة (المناطق الجبلية والصحراوية والمحيط الحيوي البحري يفوق مليون كلم مربع)، فهو يواجه تحديات أمنية جمة. وتتطلب حماية مكتسبات المسيرة التنموية، تطوير صناعة عسكرية محلية أضحت ضرورة مفصلية ومصيرية، خاصة على مستوى الردع المدفعي والصاروخي وتطوير أنظمة الدفاع الجوي (الرادارات، الرصد الاستباقي، التشويش الإلكتروني، قدرات التمويه والتخفي). ويعتبر تطوير الطائرات بدون طيار، صناعة عسكرية للمستقبل بامتياز، أظهرت فاعليتها العسكرية في الرصد والاستهداف، وقدرتها الفائقة (عمليات استهداف قيادات تنظيمات متطرفة، الهجوم على منشآت وأنابيب النفطية السعودية (بقيق وخريص 2019)، وضربات الجيش التركي ضد القوات السورية (إدلب، 2020). وقد أثبتت هذه الصناعة، فاعليتها المطلقة في تدمير الأسلحة التقليدية (الدبابات والعربات المدرعة)، وحولتها إلى "مقابر متنقلة"، نظرا لسهولة استهدافها الجوي وخسائرها المادية والبشرية الفادحة، بحيث لم تعد تنفع سوى في حرب المدن أو قمع الانتفاضات المسلحة. وتتضح أهمية تطوير السلاح البحري من خلال استيراد تكنولوجيا صناعة الغواصات والسفن والقوارب العسكرية الخفيفة (تجربة إيران وتركيا)، أمام تحديات حماية الواجهتين البحريتين الممتدتين على طول 3500 كلم، الأولى متوسطية شمالا تشرف على مضيق جبل طارق وتقع ضمنها مدينتان محتلتان (سبتة ومليلية)، والثانية محيطية غربا تواجه إشكالات حقيقية في وضع حدودها البحرية مع الجار الإسباني. إن مختلف أبعاد الأمن القومي التي تمت مناقشتها ضمن هذا المقال، تحتاج الكثير من الدراسة والتعميق الذي يمكن أن نقوم به مستقبلا تفاعلا مع الأفكار والإضافات والتدقيقات التي يمكن أن نتوصل بها، كما أن المحاولة لا تلم بجميع الجوانب المعقدة لقضية الإعداد لاقتصاد ومجتمع الحرب، خاصة بعد العلاقات الدولية وشرط التوفر على حلفاء استراتيجيين موثوقين وأقوياء : بناء على مصالح وقواسم مشتركة وعلاقات رابح رابح، يؤمنون غطاء دوليا لمحاولات تحقيق الاستقلال والاكتفاء الذاتي وتنفيذ السياسات الوطنية. *أستاذ شعبة الجغرافيا بجامعة محمد الخامس الرباط [email protected]