الفقر ينبوع الإرهاب رغبة في الإسهام في إثراء النقاش حول موضوع تجفيف منابع الإرهاب، نظمت مؤسسة فرديريش إيبرت الألمانية بعمان بالأردن في 14 يونيو 2015 مؤتمرا دوليا عنوانه "سر الجاذبية: الدعاية والتجنيد لدى داعش"، قدم خلاله باحثون أردنيون وعرب وغربيون أوراقا وبحوثا على درجة كبيرة من الأهمية بحثت في الأسباب التي تجذب الشباب المسلم للانضمام إلى "داعش" وتبني فكره. ورقة الباحث التونسي سامي براهم حاول فيها الإجابة عن السؤال المؤرق: لماذا يهاجر شباب تونس إلى دولة "داعش"؟ من خلال بحث ميداني أنجزه شمل مئات الحالات. والنتيجة التي توصل إليها الباحث مفادها أن تونس على الرغم من أنّها نجحت في اجتياز مدخل التحول الديمقراطي، وتوافرت على دور قوي للإسلام السياسي السلمي المعتدل، فإن فشل مشروع المزاوجة بين الحداثة والقيم الإسلامية للمجتمع، وفي بناء تنمية عادلة، أدى لتهميش وإقصاء فئات واسعة من السكان، نتيجة غياب العدالة الاجتماعية وفشل التنمية. وأكد الباحث أن "خريطة الإرهاب هي نفسها خريطة التهميش الاجتماعي، والإرهابيون ينتمون إلى المناطق المحرومة المهمشة التي لم تمهدها قدما الدولة. فهناك مناطق لا تدخلها التنمية ولا الماء الشروب ولا المرافق الاجتماعية الخدماتية. وحيث تغيب الدولة ينشط دعاة داعش، ويجد المواطنون أنفسهم مع خطاب الاستقطاب الداعشي الذي يوفر حاجات نفسية واجتماعية واقتصادية". هذه الشقوق التي تركتها الدولة، تحرك فيها هذا النموذج بسرعة ليملأ الفراغ؛ ف"داعش" ليس تنظيماً عسكرياً في تونس، وإنما هو ظاهرة اجتماعية، نفسية، سياسية، واقتصادية، وحتى إعلامية، والأهم شبابية، يجد فيها كثير من الشباب الحلم/الوهم الذي يبحثون عنه. فالمهاجرون التونسيون إلى "داعش" يبحثون عن "دولة جديدة، تنتدب شعباً جديداً، من دون المرور عبر طابور طويل من المناظرات والمصعد الاجتماعي الطويل"؛ هي هجرة جماعية من مشاعر التهميش والفقر واحتقار الذات، إلى "مشاعر الفخر والاعتزاز بالذات، والانتقال من الهامش إلى قادة في المركز الجديد"!. وغير بعيد عن تونس، فإن نتائج تحقيقات اجتماعية حول ظروف وأصول الشباب الإرهابيين في المغرب تدعم وتؤكد النتيجة التي توصل إليها برهام بخصوص تونس. فأكثر الإرهابيين ينحدرون من أحياء هامشية فقيرة تعاني كثافة سكانية هائلة، ويشكل النازحون القرويون 80% من سكانها. أحياء تنتشر فيها البطالة، تعاني التهميش والإقصاء، والافتقار إلى المرافق والفضاءات التي تتيح للشباب استثمار أوقات فراغه وتطوير إمكاناته وقدراته، ما يجعلهم أسهل استقطابا إلى الجماعات المتشددة التي تجد في أحزمة الفقر تربة خصبة لأفكارها ومعتقداتها. أحياء فقيرة منتجة للتطرف بشتى أنواعه، سواء كان دينيا أو تطرفا في السلوك والانحراف، من قبيل تفشي الجرائم والمخدرات، الوعي المتدني الذي يمس كثيرا هذه الفئات، والذي يجعل بنيتها هشة قابلة للاستقطاب من أي جهة متطرفة، فضلا عن الإغراءات المادية التي تستقطب بها هذه التنظيمات هؤلاء الشباب، ما يجعلهم يرون في الالتحاق خلاصا دنيويا وأخرويا معا. فالشباب الذين يتجهون نحو الإرهاب والعنف عموما يجسدون العلاقة المفترضة بين أحزمة الفقر بالأحياء المهمشة، وبين الإرهاب والعنف الديني، على الرغم من أنهم قد لا يمثلون الحقيقة كلها، لوجود حالات لشباب في وضعية اجتماعية واقتصادية جيدة وقعوا أيضا في براثن العنف الديني، إلا أن التجارب دلت على أن المدمجين اجتماعيا من أقل الناس التحاقا بالتطرف، خاصة في الدول الإسلامية. الدول الإسلامية المغذية ل"داعش" فشلت تنمويًا وثقافيًا، لم تنجح في إدماج الشباب في اللعبة السياسية، ولا إقناعهم بالمؤسسات التمثيلية الانتخابية لتحسين ظروفهم، فتفشّت القناعة بأنّ هذه الأنظمة وصلت إلى مرحلة من الاستبداد والفساد والإقطاع السياسي والتوريث في المصالح بين فئة محدودة مع استبعاد الشريحة الاجتماعية الواسعة من الكعكة الاقتصادية والسياسية. فثقافة العنف والإرهاب نشأت وأينعت في ظل عوامل اقتصادية اجتماعية متدنية. البنية الثقافية للفقر سلوك العنف أو التسامح، والمشاركة السياسية، وقبول الاختلاف، وغير ذلك، هي أمور تحددها البنية الثقافية للمجتمع، فالمجتمع يتكون من بنية أساسية تشكل القاعدة الاقتصادية، ويشمل البنية الاقتصادية بما تحويه من الوسائل والأدوات التي تنتج بها نفسها وثروتها، وبنية فوقية تشمل كل ما هو ثقافي بالمفهوم الواسع للثقافة، من عقائد وسياسات وفنون وآداب وأعراف وتعليم وقوانين، تحدد طرق التفكير وأساليب الحياة ونماذج السلوك التي تنشأ نتيجة الأساس الاقتصادي من ناحية، وتستخدم في إنتاج وإعادة إنتاج هذا الأساس من ناحية أخرى. فالثقافة هي بنية فوقية لقاعدة اقتصادية، فإذا كانت هناك بنية تحتية اقتصادية قوية، بالتأكيد سيزدهر الوعي والثقافة بين الناس. إن الممارسة الثقافية والمنتج الثقافي ليسا مجرد أجزاء اشتقت من نظام اجتماعي، أو بعض عناصر انفصلت عن نسق تم تشكيله بمعزل عنهما، وإنما هما عنصرين أساسيين وبنيتين جوهريتين في تشكيل هذا النظام وبنية ذلك النسق. إن الأحياء السكنية الفقيرة التي تعاني الحرمان والبطالة المتشابكة مع مستويات متدنية في الصحة والإسكان والتعليم تكتسب سمات أكثر خطورة، منها: السمعة السيئة ومستويات الجريمة المرتفعة وكثرة الاضطرابات الناتجة عن سوء التفاعل الاجتماعي، هذه السمات السلبية تحد من الفرص المتاحة أمام السكان، وتخفض نوعية حياتهم، وتخلق في نفوسهم مشاعر العجز والاغتراب، وتغذي سلوكات العنف واللاتسامح. فحين يعجز الأب الفقير المحبط عن رفع الظلم الاجتماعي عن أسرته، يحاول أن يستبدله بأفعال وتصرفات استحواذية، تعيد إليه بعضا من كرامته المفقودة، يتجلى هذا في استخدام العنف المعنوي والمادي تجاه الزوجة والأبناء وغيرهم، بهدف ستر عار التخاذل، واستعادة جزء من قوة الشخصية والمهابة، فالإنسان المصاب بالعجز القهري يشعر بعقدة ذنب عميقة تتحكم بصورة لا شعورية في توجيه أفعاله. لذلك فالعنف الأسري شائع في أوساط الفقراء مثل ضرب الزوجة والأولاد، حتى عنف الأبناء تجاه الأصول، وضد بعضهم البعض، بالإضافة إلى عنف الأطفال ضد بعضهم في الحارات وفي ساحات المدارس والطرقات. وتتم ممارسة العنف فورية ومباشرة عند الاختلاف، أو لدى الشعور بأي نوع من الإهانة، حتى لو كانت شكلية وبسيطة. ونجد التباهي بالقوة الجسدية والتباهي بالقدرة على الضرب والتغني بضرب الناس، أو التهديد بممارسة العنف بأشكاله للمعارضين والمخالفين لهم بالرأي، أو للحصول أو استرداد ما يعتبرونه حقا لهم. فالسلوك العنيف يزدهر ويزداد في المنظومات المتخلفة، والثقافة المتخلفة تفرز وتغذي ثقافة العنف، وإذا أخذنا في الاعتبار أن حوالي 80% من السكان فقراء يعيشون دون مستوى الرفاه، سيعني ذلك أن هذا الفقر المتفشي ينتج ثقافة متخلفة، ويلازمه عنف اجتماعي وفردي، مادي ومعنوي، سائد في كل جوانب الحياة الاجتماعية أيضا، يزداد حدة وانتشارا في الأحياء الهامشية التي تضم الكثافة السكانية العشوائية والفقيرة. في هذا المناخ، تزدهر مفاهيم الرجولة والشرف والتباهي بالقوة العضلية، وسائر مفاهيم ثقافة الحارة. وتتعدد مظاهر العنف من الأشكال القمعية اللفظية إلى العنف الجسدي والبدني والجنسي، والغلو والتطرف باستخدام القوة لإلغاء الغير وتدميره، وفي أعلى حالاته وأخطرها يتحول إلى إرهاب مدمر. إن سلوكا أو نظرة حذرة موجهة نحو شخص غريب مثلا تفسر استعدادنا لمواجهة أي سلوك صادر منه نحونا، بكلمة عنف أو حتى نظرة توحي بأنها هجوم ودفاع في الآن نفسه. في ظل الفقر لا تستطيع المجتمعات أن توفر المقومات البنيوية للبناء النفسي المسالم، الذي يؤمن بمبدأ سيادة القانون، وبمبادئ المساواة والديمقراطية، فالأسرة الفقيرة، وهي المجموعة الأولى الأساسية في تكوين المنظومة الفكرية للفرد، لا تستطيع أن توفر المناخ النفسي الملائم لإشاعة مناخ مناهض للعنف، وهي بالكاد تستطيع توفير الطعام أو الكساء وشروط البقاء على قيد الحياة في حدودها الدنيا. التفاوتات مصدر الشرور الدول الإسلامية المغذية ل"داعش" هي دول نامية ذات كثافة سكانية عالية وناتج قومي منخفض، ومن ثم دخل منخفض، وحتى على مستوى الدولة الواحدة، نجد تفاوتا في متوسط نصيب الأفراد من الدخل القومي، وجود طبقة واسعة من الفقراء جنبا إلى جنب مع فئة قليلة فاحشة الثراء داخل الدولة، وهذا التفاوت يكون في الغالب في صالح بعض الفئات الساكنة في المدن أو بعض الأسر دون غيرها ، بينما تظل الغالبية العظمى من المسلمين تعيش في فقر. هذا التفاوت في الدخل بين أفراد المجتمع يقابله غياب برامج لحماية أصحاب الدخل المحدود بمساعدات مالية كالضمان الاجتماعي، وكذلك توفير الرعاية التعليمية والصحية، ما يديم الفقر ويجعل تأثيراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية تتفاقم، ويدل على غياب المساواة بين أفراد المجتمع، وغياب العدالة في توزيع الثروة الوطنية. يرى الأكاديمي البريطاني ريتشارد ولكنسون في محاضرة ألقاها بالرباط في مارس 2015، أن التفاوتات الاجتماعية مدخل لكل الشرور التي يمكن أنْ تطفوَ على سطح مجتمعٍ من المجتمعات، فاتساع الفوارق الاجتماعية تترتب عنه آثار وخيمة على البناء النفسي والصحة العقلية للمواطنين نتيجة إحساسهم بالإحباط والدونية، ويفتح الباب أمام ارتفاع معدلات الجريمة. ففي المجتمعات التي تتسع الهوة فيها بين الأغنياء والفقراء يتراجع متوسط عمر الإنسان فيها بحوالي عشر سنوات، وترتفع نسبة الأمراض النفسية وعلى الأخص القلق والكآبة، وتنتشر فيها التشوهات الاجتماعية، من مثل ظواهر العنف والجريمة والإدمان والانتحار وضعف الحراك الاجتماعي وضعف ثقة الناس في بعضهم البعض. والأنكى من ذلك أن التفاوتات الاجتماعية تسمِّمُ العلاقات الاجتماعية داخل البلد الواحد، وتخلق جوا من عدم الثقة لدى الناس، وهي السبب الأول لكثير من الأمراض الاجتماعية والمفاسد المالية والسياسية، كالعنف السياسي والاجتماعي والفردي، ومن ذلك الإرهاب والسرقة والسطو، البغاء، الفساد السياسي، الهجرة، الغش، والرشوة وهلم جرا. لذا، فتجفيف منابع الإرهاب يبدأ بمحاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي والقضاء عليهما.