إن ما يعيشه المغرب اليوم من استعدادات للدخول في مرحلة جديدة والتوقيع على تعاقد اجتماعي جديد يتطلب توفير ظروف اشتغال جديدة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، تفرض معها مقاربة جديدة ترتبط بإشكالية خلق فرص الشغل الضامن للكرامة وللتنمية الاجتماعية... وابتكار تدابير استراتيجية عابرة للحكومات وللفاعل الحزبي والسياسي... ولعل خطاب العرش لسنة 2018 حمل المدخل الرئيسي لهذه الإشكالية بقوله إن "أسمى أشكال الحماية الاجتماعية هو الذي يأتي عن طريق خلق فرص الشغل المُنتج والضامن للكرامة". وبمعنى أوضح، فإن بوابة التنمية الاجتماعية هي الإقلاع الاقتصادي وخلق فرص الشغل الضامن للكرامة الإنسانية، وهو ما جعل من الشق الاجتماعي وما يرتبط به من برامج الدعم الاجتماعي كالمبادرة الوطنية وبرنامج التغطية الصحية "راميد"، والحوار الاجتماعي بين النقابات والحكومة، والهدر المدرسي، والعالم القروي، والتكوين المهني... أولويات ملحة فوق طاولة مهندسي النموذج التنموي الجديد. ولأنها مرحلة جديدة، فإن الأمر يتطلب توصيفا جديدا وتوسيع الاهتمام ليشمل المُكون الثقافي المغربي والتعامل معه باعتباره رأسمالا حقيقيا مُنتجا للثروة ولفرص الشغل، وبوابة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. وهو ما يجعلنا نميل إلى أن النموذج التنموي القادم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار "العرض الثقافي المغربي" كقاطرة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وكخزان لفرص الشغل... وليس كترف ذهني نُخبوي، بل باعتباره "قوة ناعمة" في تحسين صورة المغرب بالخارج وجعله محل "جذب" للسياح ولرؤوس الأموال. إن العديد من دول العالم تعتمد في تحسين صورتها على تقديم "عرض ثقافي" يُمثل وضعها الصناعي والحضاري والتاريخي، ويُجسد من جهة أخرى قوتها وجودة منتوجاتها وقوة تعليمها، وحرصها على صيانة حقوق الفرد والجماعات، كما يُمثل-العرض الثقافي-تعددها وتنوعها الثقافي والحضاري. ولأنه يصعب فصل الفعل الثقافي بكل أنواعه عن الميدان السياحي، فإن العديد من الدول جمعت بينهما في "وزارة السياحة والثقافة" كدولة الإمارات العربية وتركيا وايطاليا وغيرها... بالإضافة إلى أذرعها الثقافية والفنية والإعلامية ومصالحها الخارجية ومراصدها ومكاتبها الدراسية، وطابور طويل من الباحثين والمهتمين في مجال السياحة والثقافة والإعلام. فكل هذه المؤسسات وغيرها من الفاعلين يشتغلون على أرقام وإحصائيات تخُص القوة الشرائية وجودة المنتوج السياحي وتنوعه، كما يشتغلون على دراسة عقلية المستهلك/السائح، وكيفية استغلال الثروات الطبيعية والبيئية وكذا التراثية من جهة، وتحسين البنية التحتية من جهة ثانية، وتطوير عناصر "جذب" السياح من جهة ثالثة. وعندما نتحدث عن "العرض الثقافي"، فإننا نعني به كل ما يتعلق بالتراث وفضاءات الفنون، كالمتاحف والمسارح والمكتبات والمهرجانات الفنية والسينمائية ومعارض الكتاب والفنون التشكيلية وكل المآثر التاريخية المغربية المسجلة في لائحة التراث العالمي حسب معايير منظمة اليونيسكو... هذا إلى جانب كل ما يتمتع به المغرب من جمال الطبيعة وتنوعها واعتدال طقسه، إلا أن هذا يظل غير كاف أمام المنافسة الشرسة من طرف الدول الرائدة في صناعة السياحة، كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي تتوفر على بينة تحتية قوية وتكوين للعنصر البشري. لذلك، فالنموذج التنموي الجديد يجب أن يُوفر هامشا كبيرا للاستثمار في العنصر البشري عبر تكوينه في مجالات السياحة المتنوعة، بين سياحة الأعمال والسياحة الثقافية والسياحة الجبلية والسياحة البحرية والسياحة الدينية والسياحة القروية، بالإضافة إلى توظيف الثقافة الرقمية. وهو ما نبه إليه الملك سواء في خطاب ثورة 2019 بتذكيره بضرورة "استغلال الفرص والإمكانات التي تتيحها القطاعات الأخرى، غير الفلاحية، كالسياحة القروية... وذلك من أجل الدفع قُدما بتنمية وتشجيع المبادرة الخاصة، والتشغيل الذاتي"، أو في الرسالة الملكية بمناسبة إحدى المناظرات الوطنية للسياحة التي جاء فيها: "إن السياحة في منظورنا وإن كانت نشاطا اقتصاديا من الأهمية بمكان، فإنها أيضا ثقافة وفن للتواصل مع الآخر". وفي الضفة الشمالية للمتوسط، صرح وزير الثقافة والسياحة الإيطالي السابق داريو فرانشيسكيني في أكتوبر سنة 2015 بأن الموروث التاريخي والثقافي يجب أن يكون في خدمة التنمية، وكرر أن الثقافة هي مصدر للشغل أيضا. ونعتقد أنه كلام بعيد عن كل استهلاك إعلامي، خاصة إذا علمنا أن المداخيل المباشرة للسياحة بإيطاليا مثلا (المؤسسات الفندقية ووكالات الوساطة السياحية وشركات الطيران...) سنة 2014 سجلت 66 مليار يورو، ويُتوقع أن تصل إلى 82 مليارا بحلول سنة 2025. أما المداخيل غير المباشرة في قطاع السفر والسياحة فقد سجلت نسبة 10% من الدخل القومي بحوالي 162 مليار يورو، ويُتوقع أن ترتفع بحلول سنة 2025 إلى حوالي 195 مليار يورو. وهو ما كان له تأثير على فرص العمل المباشرة بإيطاليا حيث وصلت إلى نسبة 1.1 مليون منصب شغل، أما التأثير غير المباشر في سوق الشغل فقد وصل إلى 2.6 مليون فرصة عمل. فقطاع السياحة بإيطاليا يتضمن أكثر من 700 ألف وحدة بين فنادق ومطاعم ونقل ووساطة... وجلب استثمارات خارجية سنة 2014 تقدر بحوالي 9 مليارات يورو في انتظار وصولها إلى 11 مليار يورو سنة 2025. وحسب المعهد الوطني للإحصاء الإسباني، فقد عرفت إسبانيا رقما قياسيا من حيث عدد السياح سنة 2016 حيث فاق 75 مليون سائح، بارتفاع بنسبة 9.9% عن سنة 2015، أي بزيادة حوالي 7.2 مليون سائح. وقد تركوا في إسبانيا حوالي 77 مليار يورو، بارتفاع 8.3% عن سنة 2015. أما فرنسا فتعتبر بلد السياحة بامتياز؛ ففي سنة 2014 وصل رقم سياحها إلى 83.8 مليون سائح، كأول وجهة سياحية عالمية، فمتحف اللوفر يستقبل لوحده حوالي 9 ملايين و700 ألف زائر سنويا، متربعا بذلك في أعلى هرم المتاحف في العالم، وحسب المركز الاقتصادي التابع لجامعة السوربون، فإن اللوفر يعود بفوائد مهمة على الاقتصاد الفرنسي تقدر بين 600 مليون وبليون يورو سنويا، وأن حوالي 70% من زوار اللوفر ليسوا فرنسيين. وينْضم مركز بومبيدو إلى كتيبة صناعة السياحة بفرنسا منذ فبراير 1977، ويضم أهم مجموعات الفن المعاصر، كما يعتبر أيقونة لهندسة القرن العشرين. إن كل هذه الأرقام، سواء عدد السُياح أو ما يتركونه من عملة صعبة كنتيجة للاستهلاك المباشر أو في شراء الهدايا، وما تُوفره من فرص الشغل بملايين المناصب وما تجلبه من استثمارات خارجية بالمليارات، يجعل الدول تتسابق من أجل أن تكون وجهة مفضلة ومكان "جذب" للسُياح ولرؤوس الأموال. لذلك، فهي تعتبر "العرض الثقافي" صناعة مهمة وتحرص على تقديم خدمات بجودة عالية مع تنويع المنتوج السياحي بين الشاطئي والجبلي والديني والثقافي والرياضي... فالعرض الثقافي إذن ليس بتصور عابر أو سلعة ارتجالية، بل هو استثمار لتراكمات اقتصادية وثقافية وتواصلية وتُراثية ولأحداث تاريخية وعُنصر بشري بتكوين عال، وهو منتوج سياحي متنوع فيه كل عناصر" الجذب" تجمع بين التاريخ والفن والثقافة... وهو بهذه المواصفات ينتقل إلى "قوة ناعمة" تدافع عن صورة المغرب بالخارج وعن منتوجاته الصناعية والفكرية وعن نموذجه التنموي وعن تسامحه المجتمعي والروحي وعن تعدده الثقافي والحضاري... ويسمح له بجلب السياح والاستثمار لخلق فرص الشغل الذي تتحقق معه التنمية والعدالة الاجتماعية. لكل ذلك، نتساءل: هل سيشكل العرض الثقافي "القوة الناعمة" في النموذج التنموي الجديد؟