إن تعدد الزوجات كان أحد الأمور التي واجهها الإسلام بتشريع متدرج تحوطه مجموعة من الشروط تجعل إباحته في النهاية حالة استثنائية أو ضرورة لها مبرراتها وضماناتها في الوقت نفسه، ونحن إذا قرأنا النصوص القرآنية نجد فيها تلقين الاقتصار على زوجة واحدة هو الأقوى. "" وإن إباحة التعدد ليست إلا مخرجا لحالات وضرورات استثنائية تستوجبها، ولنسترجع معا ما يتطلبه الإسلام بالنسبة لإنشاء العلاقة الزوجية ابتداء ليتضح لنا موقفه من التعدد، حيث نجد أنه يشترط للزواج عدة أمور هي ما يلي: أولا الباءة: وهي المقدرة المادية والنفسية والتربوية، وفي حالة التعدد يوفر لأسرتين سبل الحياة المادية المتساوية والكريمة مع قيامه برعاية كل أسرة وإحاطتها بمودته وبره وعطفه، ورعايته الكاملة لأبنائه في كلتا الأسرتين بدرجة متساوية. ثانيا: إن هدف الزواج كما حدده الإسلام أن يحقق لصاحبه الإحصان، وإذا نظرنا في هذا الهدف للراغب في التعدد نجده منتفيا؛ أما إذا كان الرجل يسعى من وراء زواجه بأخرى إلى مجرد إشباع شهوة فهذا ما لا يقره الإسلام، حيث روي عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قوله: "لعن الله الذواقين والذواقات"، أي الذين يكثرون من التزوج من رجال ونساء طلبا للشهوة لا غير، (أورد السيوطي في الجامع الصغير ما نصه: "لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات". وقال: ضعيف). ثالثا: أن يكون الهدف من الإقدام على الزواج هو إنجاب الذرية داخل إطاره الأسري المحدد. أي أن الله شرع الزواج ليتحقق للناس ثلاثة أهداف: إرضاء الغريزة الفطرية والحصول على الولد، والأنس النفسي إلى الألفة، والحصول على السكن والتعاون على مواجهة الشدائد التي تواجهنا في الحياة وأحداثها وصدوفها. حالات محدودة وعلى ضوء ما سبق يصبح التعدد هنا محصورا في حالات محدودة للغاية وهي: أولا: أن تكون الزوجة عاقرا وأكد الأطباء عدم إنجابها أبدًا. ثانيا: مرض الزوجة مرضا شديداً مستعصيا يحول بين الرجل ولقائه الشرعي بها على النحو المعروف (الجماع)، والرجل ما زال في سن تلح فيه الغريزة عليه إلحاحا شديدًا يدفعه دفعا إلى طلب المرأة، وهو مع هذا ما يزال مرتبطا بزوجته، بالمودة والمحبة والرعاية والرحمة لا يريد أن يفارقها سواء كانت محتاجة إليه ماليا بعد ذلك أم لم تكن. ثالثا: أو أن الرجل قد وقع في حب امرأة أخرى غير زوجته وأحبها حبًّا شديدًا ملك عليه قلبه ونفسه، ولم يستطع أن يدفع هذا الحب عن نفسه ويخشى عليها الوقوع في فاحشة الزنا. رابعًا: عدم الانسجام الجنسي بين الزوجين والجهل به وهو ما يشكل 50% من المشاكل الزوجية، وسنعرض لهذه الجزئية وكيفية علاجها والخروج من مشاكلها خروجا جميلا يحقق للزوجين المتعة الكاملة والانسجام التام بإذن الله، وهو ما نجح فيه المتخصصون من علماء الطب، والاجتماع، والنفس بعد أن أصاب هذه العلاقة الفتور والبرود. خامسا: من الرجال من تلح عليه غريزته إلحاحا متكررًا، ومن النساء من هي على النقيض من ذلك تماما مع خلوها من المرض، لكن طبيعتها ومزاجها وتكوينها الجسدي والنفسي على نحو خاص يدفعها إلى الإقلال من النشاط الغريزي وينتهي بها إلى تعب نفسي وجسدي غير محتمل إذا هي استجابت بصفة دائمة لغريزة زوجها الملحة المتكررة، وهذا –إن يكن قليلا أو نادرًا– فهو موجود يوقع الزوجة فيما عرضنا له، ويوقع الزوج في العنت الشديد إذا طلبنا منه كبح جماحه ودفن غريزته، وقد يلجئه ذلك إلى فاحشة الزنا، أو يجعله أقرب إلى الوقوع فيه إذا عرضت له لحظات الضعف البشري وواتته الظروف. وأيضًا فإن مطالبة الزوجة بالاستجابة الدائمة لزوجها التي تنتهي بها حتما إلى التعب الجسدي والنفسي الذي يجعلها تكره هذه العلاقة أصلا، وقد تكره الزوجية كلها من أجل ذلك. مع أنه إذا خلا الأمر من هذا الإلحاح فكل منهما محب للآخر حريص على استيفاء العلاقة الزوجية الأسرية. العدل شرط أساسي ما الذي أوجبه الإسلام على الزوج الذي ارتبط بزوجة ثانية؟ إن الإسلام طالب وأوجب على الزوج الذي يرتبط بزوجة ثانية بالعدل بينهما، والعدل الذي يطلبه الإسلام له شعبه المتعددة ويتطرق ليمس أدق الأمور في الحياة الزوجية، ويكفي أن تقرأ ما ورد في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– عندما جاءه أحد المسلمين يستشيره في أن يتزوج على امرأته فسأله عمر: "أتستطيع أن تعدل بينهما؟". فأجابه الرجل: "نعم". فقال عمر –رضي الله عنه–: "حتى في عدد القبلات؟". فقال الرجل: "لا". فرد عليه عمر –رضي الله عنه-: "إذن لا يحق لك الزواج بأخرى". ومما يؤكد ما نذهب إليه أن القرآن الكريم أحاط إباحة تعدد الزوجات بالكثير من التحفظات نلمسها في قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) [النساء: 3]. أي أن الإسلام منع التعدد لمجرد الخشية، وليس التيقن من عدم المقدرة على العدل في المستقبل. وأكثر من هذا فإن القرآن يحسم القضية من خلال قوله تعالى: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل". (النساء: 129). ومن هنا يتضح لنا أن التوجيه القرآني هو الاقتصار على زوجة واحدة، وأن إباحة التعدد ليست إلا مخرجا لحالات وضرورات استثنائية لها مبرراتها وضماناتها في الوقت نفسه حسب ما سبق وأشرنا. تحريم التعدد بحكم الحاكم كان السلف الصالح من المسلمين يتحرجون في النساء أن يظلموهن شيئا، فقد تكررت وصايا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بهن، والتحذير من ظلمهن والبغي عليهن في مواضع عديدة. وبالرغم من أن كبار الفقهاء قد قاموا بما ينبغي عليهم من تقرير ما شرعه الله من عدل واجب فإنه يبدو أن ابتعاد جمهور المسلمين في عصور انحطاطهم الديني والفكري والحضاري بعامة عن تفهم أمور دينهم وتطبيقها بصورة سليمة قد انعكس بالضرورة على قضية التعدد وتجلى فيها بصورة واضحة، حيث نقرأ كتابات متتابعة لكتاب ومصلحين يبدو فيها الأمر على هذا النحو، حتى وصل الأمر ببعض دعاة الإصلاح الديني من أواخر القرن الميلادي الماضي وأوائل هذا القرن إلى التضييق الشديد بالتعدد إلى حد يقرب من التحريم تحقيقا للمصلحة ودرءًا للمفاسد. فقال بتحريم التعدد بحكم الحاكم: قاسم أمين، ورشيد رضا، وقد اقترب الإمام محمد عبده في بعض كلامه منه شيئا ما، ويستند القائلون بهذا إلى القاعدة الفقهية التي تقول: "إن للحاكم المسلم أن يمنع جمهور المسلمين من بعض ما هو مباح في الأصل، إذا ترتب على فعلهم لهذا المباح مفاسد كبيرة تبرر هذا الحظر، على أن يكون هذا الحظر مقدرا في نوعه وزمنه بمقدار ما يترتب عليه من المفاسد، فهو أشبه بمنع الطبيب المريض من بعض الأطعمة –المباحة في الأصل– لعلة مؤقتة ينتهي المنع بانتهائها". ولذلك نظائر في الشريعة الإسلامية من عمل الخلفاء الراشدين وحكم الأئمة الفقهاء، ومن أشهر نماذج ذلك في عصر الصحابة نهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ولاته في البلاد المفتوحة عن التزويج بالكتابيات (مسيحيات – يهوديات) أو إمساكهن مع علمه بأن أصل نكاحهن حلال كما ورد في سورة المائدة الآية 5. لكن عمر رضي الله عنه أقدم على هذا النهي لما تضمن هذا الزواج من الأضرار الكبيرة وعملا بمصلحة المجتمع الإسلامي عامة، إن عمر رضي الله عنه نهى أمراءه على البلاد المفتوحة عن التزويج بالكتابيات خوفا من أن يقتدي بهم عامة المسلمين فيختاروا أهل الكتاب لجمالهن "وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين" كما صرح به في سبب النهي. المصلحة العامة ولم تكن تترتب على النهي مفاسد ومضار، إنما ترتب عليه المصلحة العامة والمنع من مفاسد كثيرة يسببها إقبال جمهور المسلمين على بعض ما هو مباح في أصله، فكان من المناسب عندئذ أن يصدر عمر –رضي الله عنه– النهي الذي يحقق المصلحة العامة دون أن تترتب عليه مفاسد عامة تساويه أو تقاربه، إنما هي التضحية ببعض الأهواء الفردية وإلجامها فلا بد من تقييد تعدد الزوجات بالتأكد من قدرة مريد التعدد على القيام بما يقتضيه العدل المشترك من إنفاق وحسن عشرة. والسبيل إلى ذلك هو إصدار قانون بألا يتم زواج مريد الجمع بين زوجتين إلا بعد أن يرجع أمره إلى القاضي الذي يأذن له بالجمع بين زوجتين إذا تحقق من قدرته على الإنفاق والعدل بإعطاء كل زوجة حقوقها المشروعة، وإلالا يأذن له. ويمكن أن يصاغ ذلك على نحو ما فعلت لجنة الأحوال الشخصية المشكلة سنة 1926م من تلاميذ الشيخ محمد عبده حيث صاغته على النحو التالي: تقيد رغبة الرجل في تعدد الأزواج، فيشترط لتزوج الرجل بأخرى ألا يعقد الزواج أو يسجل إلا بإذن القاضي، الذي لا يأذن لغير القادر على القيام بحسن العشرة والإنفاق على أكثر ممن في عصمته وممن تجب نفقتهم عليه من أصوله وفروعه وغيرهم، وقد أخذ بذلك قانون الأحوال الشخصية السوري بنحو ذلك في نص المادة السابعة منه. كما نص التشريع العراقي للأحوال الشخصية في المادة الرابعة منه، ووجهة نظر القائلين بهذا التقييد مبنية على أن الله تعالى أوجب العدل وأمر بالاقتصار على واحدة إذاخشي الجور، وحينما كانت قلوب المسلمين عامرة بالإيمان والتقى فإنهم كانوا يتحرجون في النساء فلا يعددون إذا خافوا الجور، وحينما كانوا يعددون فإنهم كانوا يتقون الله في النساء وفي أنفسهم وفي أبنائهم فيعدلون. في نهاية الأمر ليس التعدد أمرًا مفروضا على الرجل –كما سبق– إنما هو مباح إذا أمن الظلم. د.إمتثال النحراوي <***1> داعية إسلامية ، دكتوراة في الشريعة الإسلامية – كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ماجستير في التفسير وعلوم القرآن.