"وأمُّ ديارَ الحيّ من سجلماسة..فتلك ديار تجمعُ العز والفخرا..وسلّم على تلك الخيام وأهلها..سلامُ محبّ لم يطق عنهم صبرا..فعندي لهم حبّ جرى في جوارحي..ومازجَ مني العظم والدم والشعرا"، هذا المقطع الشعري تمَّ نظمهُ خلال قرونٍ خلتْ، احتفاءً بمقدم أوَّلَ أميرٍ من تافيلالت إلى سجلماسة، وهو مولاي علي الشريف؛ أمّا اليوم فقد تحولتْ سجلماسة إلى أطلالٍ تبكي "الاندثار" وتقاومُ "وجَعَ" تقلّب الأزمان. ويقترحُ خبراء مغاربة وأجانب التأموا في ندوة فكرية دولية حول "سجلماسة، بوابة إفريقيا، تراث مشترك وموقع تاريخي مهدد"، نظّمتها أكاديمية المملكة بمقرها في العاصمة الرباط، استعجالاً ثلاثيا لإنقاذ "المدينة التاريخية"؛ استعجال أركيولوجي يتمثل في "حماية الموقع بواسطة سياج وحراس ووضع تشريعات واتخاذ تدابير تعتمدُ على الأركيولوجيا الوقائية، من أجل الحيلولة دون استمرار التدمير، وبالتالي زوال الآثار المندثرة الفاطمية والمرابطية والموحدية والمرينية والسعدية والعلوية". ثاني استعجال يقدمه ثلة من الأركيولوجيين المغاربة والأجانب "استعجال تراثي يتمثل في الرفع من وسائل البحث من أجل توثيق الآثار التي مازالت قائمة، وكذا تلك التي تكشف عنها الحفريات من أجل حمايتها من التقلبات الجوية عندما يكون ذلك ممكنا، ومن التخريب الذي يتسبب فيه الإنسان، وذلك قبل فوات الأوان". وأخيراً، استعجال استثماري يتمثل في تكوين مرشدين سياحيين محليين، وتيسير الولوج إلى الموقع بالنسبة للزوار المغاربة والأجانب، الذين يرغبون في التعرف عليه؛ وكذا تسجيل موقع سجلماسة في المسارات السياحية من أجل المساهمة في التنمية الاقتصادية للريصاني وتافيلات والمنطقة ككل. ويقول الباحث الأركيولوجي العربي الرباطي إنه "منذ نصف قرن تتم بانتظام حفريات أركيولوجية بسجلماسة، وفي كل سنة تقوم البعثة المغربية الفرنسية منذ عشر سنوات بحفريات تدوم عدة أسابيع". وقد أدرجت سجلماسة منذ سنة 2017 في لائحة التراث الوطني المغربي، غير أن هذا الاعتراف بالأهمية التي تكتسيها من لدن الأركيوجيين المغاربة والأجانب لم يتولد عنه بعد وعي بفائدة الموقع والطابع الإستراتيجي لحمايته، وكذا التعريف به بشكل أفضل لدى المغاربة والسياح الأجانب. ويوضح الرباطي، وهو أستاذ تعليم عال في المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث: "لا تعزى هذه الوضعية إلى سبب وحيد، إذ لا يمكننا اتهام لا مبالاة المجتمع الفيلالي الذي يشاركُ في الحفريات العلمية ويهتم بالنتائج، كما لا يمكن كذلك أن نلقي باللائمة على عمليات الإفساد المرتكبة عمداً أو من دون عمد من طرف السكان أو أصحاب المقاولات المحلية الذين يجهلون القيمة التاريخية للموقع". من جانبه، قال أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، عبد الجليل الحجمري، إن الأكاديمية تولي أهمية خاصة للتراث الوطني وتساهم في فهم أفضل لمكوناته الرئيسية، كما تسهر على تثمينه والحفاظ عليه، مشيرا إلى أن "سجلماسة، هذه الواحة الجميلة، تظل بامتياز إحدى الأساطير للمدن المختفية التي لها ماض مرموق". وزاد الحجمري أن أكاديمية المملكة المغربية تطلق جرس إنذار بهدف تحسيس الفاعلين، على كافة المستويات، بشأن الرهانات الرئيسية المتمثلة في حماية هذا التراث ذي القيمة الكبيرة، والتنمية المحلية وإعداد التراب، مشددا على أهمية الاستكشاف الدقيق والمنهجي لهذا الموقع الأثري الذي يتقاسمه المغرب مع إفريقيا، وبلدان البحر الأبيض المتوسط، وباقي الدول؛ كما قال إن "الأمر يتعلق بأحد المواقع التاريخية التي تحتل مكانة خاصة في المخيال والذاكرة الجماعية؛ أي سجلماسة". ويبرزُ إدريس العلوي العبد اللاوي، عضو ّأكاديمية المملكة المغربية، أن "مدينة سجلماسة لعبت دورا كبيرا خلال العصر الوسيط بحكم موقعها في جنوب شرق المملكة في قلب الصحراء الشرقية، حيث شكلت ملتقى تاريخيا للطرق التجارية العابرة للعالم أجمع"، مورداً أنها "تمثل رمزاً وقطبا تنمويا محليا". وبدأت الحفريات الأركيولوجية بموقع سجلماسة سنتي 1971 و1972 تحت إشراف بوريس راشفينز، وهو عالم إيطالي متخصص في الآثار المصرية، وأنجز بعض عمليات السبر في قطاع "المنطقة الأركيولوجية" وحفريات مكثفة في شمال الموقع، حيث تم اكتشاف بنيات هيدرولوجية. وكانت نتائج هذه الحملة مهمة إذ كشفت وجود مركب مائي مكون من "ساقيات" ومن قنوات سطحية وصهريج كبير لتخزين المياه، بالإضافة إلى أربعة أحواض صغيرة. ومنذ سنة 2012 استأنف فريق مغربي فرنسي تحت إشراف العربي الرباطي وفرنسوا كزافين فوفيل الحفريات بموقع سجلماسة. ومكنت أعمال هذا الفريق من وضع تصميم أركيولوجي أولي يتعلق بتوزيع البقايا الأركيولوجية لسجلماسة. ويبين التصميم أن الموقع يتوفر على عدة مجموعات مختلفة من حيث الزمن وغير مرتبطة في ما بينها في المكان.