وفجأة، هبت قوافل جحافل الظلام هبّة مُضرية؛ وبكت منابر الدعاة المأجورة في سُرادق حزنا على الفنانة المصرية حلا شيحا وهي تخلع نقابها، ليهدد شَعْرها الدين الإسلامي ويخلق الفتنة والبلبلة بين آنام قامت ولم تقعد. يبدو الأمر مضحكا وتافها، وأنا أخوض في موضوع فنانة قررت خلع نقابها، وما شأني أنا في أمر يخص معتقدها؟ هو أمر يعنيها طبعا؛ لكن، بقدرة قادر وبسلطة لاهوتية عليا كما يزعمون، صار شأنا مجتمعيا وفرصة لإرهاب الناس وإلهائهم عن قضايا تمس وجودهم وآدميتهم وجوهر دينهم، والتظاهر بالتلفع بعباءة الحزن احتجاجا على امرأة نزعت نقابها، مع العلم أن العلاقة بين المعتقد والمعتقَد فيه تتأسس على الإرادة الحرة والمشيئة والاختيارات الشخصية. كما أن زوجات وبنات علماء الدين لا يستحيين من الشَّعر، كسلوك عفوي يمارسه بشر أسوياء شقائق في هذا الفضاء العام، لنتساءل: هل يجوز للرجل كشف شعر رأسه؟ إنها ثقافة الوصاية والأنساق المتسلطة والمؤسسة الأبوية الطبقية وثقافة التدخل القميئة في حياة الآخر، وخاصة المرأة، العنصر "الأضعف" في وجهة نظرهم، حفاظا على "الجوهرة الثمينة" داخل صندوق الحلي، بكيفية جعلت الكل يهبّ ليصب جام غضبه عليها وهي تنزع نقابها. فالمرأة صارت ترعبهم، فهي في مقدمة الصفوف وشغلت المواقع المهمة وقدمت نموذجًا مبهرًا للعالم بأسره. وإزاء اكتساح التيارات الدينية المختلفة لجُملة من التيارات الأخرى، القومية واليسارية والليبرالية، أتت تمثيليتها في البرلمان بعد 20 فبراير وما بعد "الربيع العربي" مخيبةً لآمال المرأة ومقوضةً لأحلامها، فماذا هم فاعلون بها؟.. هل سينقضّون على كفاحها وعطائها المبذول على مرّ سنوات، ويدعونها إلى أن تقرّ في بيتها، فتعود البلاد عشرات القرون إلى الوراء؟ هي ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بسلطة اللحية وجبروتها فقط، وليس بالعمق الديني القائم على المهادنة والسلم والتسامح، تلك التي سادت مجتمعاتنا نتيجة التردي السياسي والانحطاط السلوكي، إلى جانب مظاهر أخرى من التدين الطقوسي الذي تضج بها شوارعنا، بدءا من إطلاق اللحية والنقاب وعدم مصافحة المرأة وإظهار أثر التقوى على الجبين وترديد عبارات لاهوتية أمام الملأ، وإطلاق رنات قدسية في الهواتف المحمولة، وإخبار الجميع بنية الصلاة، وسماع القرآن في أقراص مدمجة بأعلى صوت، واتخاذ صلاة الجمعة ذريعة للهرب من العمل والزبائن، وأخذ "سيلفيات" أمام الكعبة المشرفة، والبكاء أمام الناس عند سماع خطب عمرو خالد وجفاف الدمع حين رؤية امرأة أو طفل متشرد... وغير ذلك من أشكال التدين الشكلي، القادم من ثقافة أخرى، والمنتصب في مشهد جنائزي يزدحم بالذقون والعبايات والجلابيب الباكستانية القصيرة والنقاب.. تنطع ديني يمنح المتظاهر "المؤمن" إحساسا بالهدوء النفسي وقيامه بواجبه الديني كاملا، وأن ما عدا ذلك من مسؤوليات أخلاقية زائد ولا نفع فيه. حالة الفنانة حلا شيحا ليست إلا نموذجا مبسطا من ظواهر حشرية خانقة تناسلت كالفطر في مجتمعاتنا العربية؛ محتكرة الدين لها وحدها، احترفت الصراخ والعويل عند ظهور أي بادرة تستهدف التغيير حتى لو كان طفيفاً يأتي على استحياء لم تألفه ثقافة السكون، حتى بتنا أسرى أمزجتهم وتسلطهم. ولاعجب أن تحتل المرأة بؤرة تلك الرؤى المتزمتة، فهي مادتها وموضوعها، وهي التي تمثل مركز الثقل في فكر التخلف.