على الرغم من مرور عقد كامل على اندلاع أزمة الرهن العقاري في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن ثمّ تحوّلها إلى أزمة مالية عالمية واسعة النطاق، وبرغم أن هذه الأزمة شهدت انحسارًا ملحوظًا خلال الأعوام الأخيرة، لا سيما خلال عام 2017، حيث سجل الاقتصاد الأمريكي نموًّا ملحوظًا، وتحسن أداء منطقة اليورو. وانحسرت مخاوف التباطؤ والتضخم في الصين، إلا أن المخاوف تجددت مرة أخرى خلال الفترة القصيرة الماضية، وبدا أن هناك مخلفات للأزمة ما زالت جاثمة على صدر الاقتصاد العالمي، أُضيف إليها مظاهر ضعف وتأزم جديدة، حتى بدا الاقتصاد مقبلٌ على أزمة جديدة، أزمة يمكن وصفها ب"الأزمة ثلاثية الأبعاد". وأول أبعاد الأزمة المحتملة وأقربها إلى الذهن هي التداعيات المحتملة للحرب التجارية الدائرة بين الولاياتالمتحدةوالصين. وثانيها تباطؤ معدلات النمو ولا سيما في الاقتصاديات الصاعدة، مع تراجع قيم عملاتها وخروج رؤوس الأموال منها. أما البعد الثالث، فهو أزمة المديونية العالمية، التي لم تعد قاصرة على المديونية الحكومية، بل أضيفت إليها نوعية جديدة زادتها تعقيدًا، وهي مديونية الشركات. وفي مواجهة هذا الوضع المُعقد تطفو على السطح تساؤلات عدة بشأن المسارات التي يُمكن أن يتبناها الاقتصاد في العالمي المستقبل. تهديد الحرب التجارية: على مدى الأسبوع المنصرم عقد صندوق النقد والبنك الدوليين اجتماعهما السنوي في منتجع بالي في إندونيسيا، وشهد الاجتماع نظرة مغايرة من قبل المؤسستين الاقتصاديتين الأكبر والأهم عالميًّا. إذ سيطرت عليهما حالة من التشاؤم بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي. وقد خفض الصندوق توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي في عامي 2018 و2019 إلى ما يناهز 3.7% لكل من العامين، بدلًا من توقعات نشرها سابقًا كانت ترى أن النمو سيبلغ 3.9% خلال العامين المذكورين. وبرر الصندوق تخفيضه للنمو المتوقع على هذا النحو بمعاناة الاقتصاد العالمي من مشكلات عدة أهمها التوترات التجارية بين الولاياتالمتحدةوالصين. وتصديقًا لهذا القول، فإن الحرب التجارية الدائرة بين الولاياتالمتحدةوالصين برغم أنها لم تتسبب حتى الآن فيما يمكن وصفه بالانهيار في قيمة وحجم التبادل التجاري السلعي بينهما، لكنها تمثل تهديدًا حقيقيًّا له. ومع الأخذ في الاعتبار أن قيمة هذا التبادل تبلغ 635.4 مليار دولار سنويًّا، ومع إضافة تجارة الخدمات إليه، ترتفع قيمته إلى 710.4 مليارات دولار، فإن تعرضه لأي تراجع نوعي، أو اضطراب، بسبب تلك الحرب، فسيمثل ذلك عائقًا للنمو الاقتصادي في كلا البلدين. وبالفعل قام صندوق النقد بتخفيض معدل النمو المتوقع بالنسبة للولايات المتحدة من 2.7% إلى 2.5% في 2019. وخفض توقعاته للنمو في الصين من 6.4% إلى 6.2%، مبرراً ذلك بالحرب التجارية الدائرة بينهما. وما يزيد المشهد وضوحاً هو أن معدل نمو الاقتصاد الأمريكي المتوقع للعام الجاري (2018) يبلغ نحو 3.7% في عام 2018، وأن الاقتصاد الصيني حقق نموًّا بنحو 6.9% في عام 2017، ويتوقع أن يبلغ نموه 6.6% في عام 2018. وهو ما يوضح حجم التراجع في معدلات نمو البلدين بسبب الحرب التجارية. ومع الأخذ في الاعتبار أنه يُعوَل على النمو الصيني في تحفيز النمو العالمي الآن، في ظل كون الصين صاحبة أكبر اقتصاد عالمي صاعد، وثاني أكبر اقتصاد من حيث الحجم عالميًّا على الإطلاق. فإن كل ذلك يوضح إلى أي مدى سيخسر الاقتصاد العالمي بسبب الحرب التجارية بين البلدين. ويبدو أن هذا الأمر هو ما دفع صندوق النقد إلى تحذير من أن الحرب التجارية بين هاتين الدولتين "تنذر بجعل العالم أكثر فقرًا وأكثر خطورة". ويزداد احتمال حدوث ما حذر من الصندوق في حال تمادي البلدين في نفس الممارسات، ومن ثم اندفاع باقي دول العالم (على اختلاف تصنيفاتها، متقدمة وصاعدة ونامية) خلفهما، لتصبح الحرب التجارية نهج سلوكي عالمي، تسعى من خلاله الدول إلى حماية أسواقها المحلية وفرص العمل المتوافرة لديها في مواجهة المنافسين. تباطؤ الاقتصاديات الصاعدة: بالرغم من بعض مظاهر التعافي التي بدت على العديد من الاقتصاديات المتقدمة خلال السنوات الماضية، لا سيما منطقة اليورو، لكن الفترة القصيرة الماضية أظهرت أن اقتصادات المنطقة تشهد بعض مظاهر الانتكاس في الأداء، كانكماش ناتجها الصناعي بمعدل 0.9% خلال النصف الأول من العام، وفق بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي، وتراجع معدل النمو بها إلى 1.5%، مقارنة بنحو 2.8% خلال نصف العام السابق مباشرة. وبرغم أن هذا التراجع في أداء اقتصادات منطقة اليورو يعود في جزء منه إلى عوامل استثنائية هذا العام، كارتفاع معدلات الإضرابات العمالية، وسوء الأحوال الجوية في بعض الدول، إلا أنه بشكل عام يعكس في مضمونه عيوبًا هيكلية لا تزال تلك الاقتصادات تعاني منها، كارتفاع معدلات البطالة التي ما زالت أعلى من 8% في المتوسط، وارتفاع معدلات المديونية إلى ما يزيد عن 100% من الناتج في بعض دولها. وما سبق ذكره فيما يتعلق بالتباطؤ المتوقع في أداء الاقتصاد الأمريكي يعضد هذا الحكم أيضًا، بل إن توقعات صندوق النقد للنمو الاقتصاد الأمريكي، والتي تشير إلى أنه لن يتجاوز 1.4% بنهاية السنوات الخمس المقبلة تصب في الاتجاه نفسه. وفي هذا السياق، يأتي أيضاً الاقتصاد الياباني، فهو ما يزال يعاني ضعفًا شديدًا في النمو، الذي لم يتجاوز 1.7% في 2017، ويتوقع تراجعه إلى 1.2% بنهاية العام الجاري، وإلى 0.9% في عام 2019. والأمر الأكثر أهمية في هذا الموضع هو ما شهدته الاقتصاديات الصاعدة خلال الفترة الأخيرة، حيث برزت بعض التحديات التي تعوق أداءها، ما تسبب في تراجع معدلات نموها بشكل كبير مقارنة بما دأبت عليه خلال السنوات الماضية، بما في ذلك السنوات التي تلت اندلاع الأزمة المالية العالمية مباشرة، حيث استطاعت هذه الاقتصاديات، وعلى رأسها الصين، المحافظة على معدلات نمو تفوق 7% سنويًّا آنذاك. وسجلت هذه الدول مجتمعة متوسط معدل نمو سنوي يبلغ نحو 4.5% على مدار السنوات الخمس الماضية. لكن الضغوط التي تشهدها الآن، والمتمثلة في ارتفاع معدلات الفائدة، وخروج رؤوس الأموال الأجنبية من بعضها، ولاسيما الأرجنتين والبرازيل وتركيا وجنوب إفريقيا وإندونيسيا والمكسيك (وفق صندوق النقد الدولي)، تمثل عائقًا حقيقيًّا أمامها، لا سيما أن هذه المشكلة لا تقتصر آثارها على تقليص معدلات النمو بهذه الدول، بل إنها تدفع بها إلى مشكلات أخرى كتراجع قيم العملات المحلية، وارتفاع معدلات التضخم. وقد أظهر مسح أجراه "بنك أوف أمريكا ميريل لينش" مؤخرًا أن عملات هذه الدول مقومة الآن بأقل من قيمتها الحقيقية، وأن مؤشر "إم.إس.سي.آي" لهذه العملات تراجع بمقدار 4.5% منذ بداية العام الجاري. ومن أجل محاصرة تدهور قيم العملات بهذه الدول، تضطر الحكومات إلى القيام بالمزيد من عمليات رفع أسعار الفائدة، مولدة بذلك المزيد من الضغوط على الاستثمار، ما من شأنه تقليص فرص النمو الكلي الخاص بها. ومن هنا فمن المتوقع أن يتراجع متوسط معدلات النمو بالاقتصادات الصاعدة ككل إلى 3.3% خلال السنوات الخمس المقبلة. وهذا سيُفقد الاقتصاد العالمي أحد أهم القوى المحفزة لنموه، لا سيما أن هذه الاقتصاد تمثل الآن نحو 59% من حجم الاقتصاد العالمي. ارتفاع المديونية العالمية: تلوح في أُفق الاقتصاد العالمي الآن أزمة من نوع جديد، قوامها نمو مثير للمخاوف في المديونية، التي تنقسم إلى صنفين هما: المديونية الحكومية، ومديونية الشركات. وبالنسبة للنوع الأول أي المديونية الحكومية، توضح البيانات أنها تفوق الآن حجم الناتج المحلي الإجمالي في كل من اليابان واليونان وإيطاليا والبرتغال وبلجيكا وفرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة، كما لا تعتبر الولاياتالمتحدة بعيدة عن هذا التصنيف. وتشير بيانات بلومبيرج إلى أن متوسط نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الدول المتقدمة بشكل عام بلغت 105% في عام 2017، وهو ما يقلص أمام حكوماتها هامش الحركة فيما يتعلق بإيجاد خيارات التمويل لأي خطط تحفيزية للنمو الاقتصادي خلال الفترة المقبلة. وبرغم أن متوسط المديونية الحكومية في الدول النامية والصاعدة لا يتجاوز 46% من الناتج، إلا أن هناك بعض الدول منها، ولاسيما الدول في مجموعة الدول منخفضة الدخل، تعاني محنة مديونية في الوقت الراهن وفق تصنيف صندوق النقد لها، كما أنها تعاني ارتفاعًا كبيرًا من مخاطر عدم القدرة على السداد. وفيما يتعلق بالنوع الثاني، الخاص بمديونية الشركات، وهو الأهم في هذا الموضع، فهو قد تضاعفت قيمته على مدار العقد الماضي، لتصل إلى 66 تريليون دولار في عام 2017. والسبب الرئيسي لذلك هو أن الشركات اتجهت إلى الاقتراض بمعدلات كبيرة مستغلة معدلات الفائدة التي كانت منخفضة على مدار العقد، وهو الانخفاض الذي كان جزءًا من سياسات التحفيز الاقتصادي التي كانت تتبناها الدول. ويُمثل المستوى الحالي لهذا النوع من المديونية أمرًا مقلقًا بالنسبة للاقتصاد العالمي، إذ إنها تُعد معضلة معقدة بالنسبة للشركات ذاتها وبالنسبة لاقتصادات الدول التي تنتمي إليها، كما أنها تمثل خطرًا محدقًا بالنسبة للمؤسسات والأطراف الدائنة لتلك الشركات، في حال تخلف الشركات المدينة عن السداد. وتنبع خطورة هذه المشكلة من عاملين مهمين، هما: أن معظم مديونية الشركات مقترضة بالعملات الأجنبية، وأن ثلثي الزيادة التي طرأت على تلك المديونية حدثت في الدول النامية. واجتماع هذين العاملين معًا يزيد من تعقيد الأزمة، في ظل ما تعانيه الدول الصاعدة من خروج رؤوس الأموال (كما سبق الذكر)، الأمر الذي يعقد مهمة الشركات بشأن توفير العملات الأجنبية التي تحتاجها لكي تسدد ما عليها من مديونيات. ختاماً لا بد من التأكيد على أن المرحلة التي يمر بها الاقتصاد العالمي الآن، تشبه بشكل أو بآخر المرحلة التي مر بها قبيل اندلاع الأزمة المالية العالمية، وأن "الأزمة ثلاثية الأبعاد" التي تلوح في الأفق قد تسوقه إلى مصير صعب إذا لم تتدارك الدول والحكومات الوضع، ولم تضع حلولًا سريعة وناجعة تعدل مسار الاقتصاد العالمي بعيدًا عن طريق الأزمة. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة