لماذا أُقيل وزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد فجأة؟ ولماذا لم يتم الإفصاح مباشرة عن دواعي الإعفاء؟ ما هي المسؤولية التي بسببها عُزل؟ تجمع جل الآراء والتحليلات التي تتسم بنوع من المصداقية والواقعية على ربط الإعفاء بمضمون تقريري والي بنك المغرب ورئيس المجلس الأعلى للحسابات حول الوضعية المالية والاقتصادية للمغرب. كان هناك إذن فشل وإخلال بالمسؤولية، فاقتضى تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، عزل المسؤول. لكن أليس فشل التلميذ علامة على تقصير الأستاذ والمؤسسة؟ ألم يكن طرد التلامذة مؤشرا سلبيا على فشل المنظومة؟ هل تم فجأة الانتباه للوضعية الاقتصادية والمالية الصعبة للبلد وللتوجهات والأخطاء الفادحة للوزير؟ ألم يكن هناك ما يكفي من التقارير والمقالات التي تحذر من الانعكاسات السلبية لهذه السياسة على سير عدد من الأوراش والبرامج الاجتماعية ووضع البلد اجمالا؟ ألا يبدو موقف رئيس الحكومة من هذا القرار مبهما ومثيرا للاستغراب وهو الذي أجاب عن دوافع إقالة بوسعيد، حينما حل ضيفا على جريدة "ليكونوميست"، بكون بلاغ الإعفاء واضح وكاف عكس ما يعتقد جل المغاربة؟ ألم يكن حريا إزاء ما رشح من مبررات الإعفاء، استقالة العثماني باعتباره المسؤول الأول عن كل قطاعات وتوجهات الحكومة؟ أم إنه لا يتحمل المسؤولية باعتبار أن من يتحكم في المال هو من يملك القرار، وبالتالي فهو لم يكن يملك القرار ويحدد التوجهات وانما أطراف أخرى نسجا على منوال عدد من القضايا التي رافقت تشكيل حكومته؟ ثم لماذا أصبح الفشل والتعثر قرينين بجل الأوراش والبرامج بالمغرب؟ فتكفي نظرة سريعة إلى المؤسسات القريبة منا وإلى مختلف الأوراش المحلية والوطنية لتتجلى لنا مظاهر الفشل والتعثر والرداءة التي يعتريها. هذا المعطى تعضده كذلك جل تقارير المجلس الأعلى للحسابات المنشورة على موقعه بخصوص حصيلة وسير عدد من المؤسسات والبرامج والاستراتيجيات. فباعتراف الجميع، وعلى رأسهم المسؤولون، فإن النموذج التنموي للمغرب متجاوز، منظومة التعليم والصحة فاشلتان، البطالة تستفحل ومظاهر الفقر والتسول تغزو المدن، أثر مختلف البرامج الاجتماعية دون المستوى، مردودية الاستثمار العمومي جد ضعيفة، الاستثمار الخارجي في تراجع، صناديق التقاعد على شفا الإفلاس، 8000 مقاولة أفلست سنة 2017، عدد من الشركات الكبرى (لاسامير، بعض مقاولات الأشغال العمومية...) أغلقت أبوابها، الاستراتيجيات القطاعية حبيسة الادراج ومعدل تنزيلها جد هزيل، الأوراش الكبرى متوقفة في عدد من الجهات... فمن يتحمل إذن مسؤولية كل هذا الفشل؟ أهم الوزراء كل حسب قطاعه؟ أم رئيس الحكومة؟ أم النظام السياسي بأكمله؟ في ظل نظام حكم شمولي تتداخل فيه مجموعة من القوى الظاهرة والعميقة ولا يكاد ينجلي ظاهره من باطنه ولا ما هو مسطر على الورق على ما درج عليه العرف من تحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات، ما حدود تحمل المسؤولية داخل هذه البنية ومن يتحملها فعليا؟ والى أي مدى يمكن تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة على المسؤولين مهما بلغت درجاتهم وكيفما كانت انتماءاتهم في ظله؟ هل كان الأستاذ حامي الدين على حق عندما صرح بأن النظام بشكله الحالي معيق للتقدم وللتطور وللتنمية؟ هل يعني الخوض في بنية النظام الحالي بالضرورة معاكسة له؟ ألم يكن جُبنا سياسيا أن تئد قيادة "البيجيدي" هذا النقاش في مهده وتتبرأ منه؟ ألا تؤكد الصيرورة التاريخية لمختلف الأنظمة الملكية الأوروبية صواب طرح الأستاذ حامي الدين؟ أليس من شروط الديمقراطية ربط المسؤولية بالمحاسبة وفق ضوابط شفافة وواضحة لا غموض فيها؟ ألا تقتضي الديمقراطية أن يكون الشعب قادرا على اختيار المسؤولين ومحاسبتهم وفق نظام انتخابي يعبر عن اختياراته وتوجهاته؟ أسئلة وتساؤلات تتناسل وتتقاطع لطرح السؤال المحوري: لماذا لم يستطيع المغرب أن يتقدم ويتطور رغم كل ما يزخر به من إمكانيات طبيعية وبشرية لم تتوفر لعدد من الدول المتقدمة شرقا وشمالا؟ فإلى أين يسير المغرب؟ إن أدق وصف لواقع المغرب حاليا هو ما عبر عنه الأستاذ الرميد، حينما اعتبر المغرب حقوقيا كقهوة "نص-نص". فلا هو بسواد القهوة ولا ببياض الحليب، وإنما خليط من هذا وذاك. هذا التعبير المجاز الذي قد يبدو بسيطا من الوهلة الأولى، أبلغ تعبير عن وضع المغرب وسياسته ووضعه في شتى المجالات. فالمغرب لم يختر الديمقراطية نهجا ولا الاستبداد مسلكا، ولم يختر الإصلاح طريقا ولا الفساد قرينا، ولم يختر العدل أساسا للحكم ولا الظلم سبيلا، ولم يختر الحرية راية ولا القمع دأبا، وإنما بنى نظامه على شكل خليط هجين من هذا وذاك. فماذا كانت النتيجة؟ تخبط في المقاربة وتيه في الطريق وفقدان لبوصلة التقدم ثم غرق في سنوات الضياع. ولعل هذا ما انعكس (أو تولّد حسب رؤية كل واحد لاتجاه السببية) ليس فقط على عمل المؤسسات والهيئات، وإنما على سير الأفراد عموما الذين أصيبوا بعدوى خلط القهوة في أمورهم الخاصة وتجاه الوطن. فعلاقة الفرد بالمجتمع أو الجماعة تنبني على مبدأ الحقوق والواجبات. فللفرد حقوق وعليه واجبات. والأسلم أن يبادر النظام القائم على أمر المجتمع أو الجماعة بضمان حقوق الأفراد كي يضمن أداءهم لواجباتهم وليس العكس. فإن لم ينل الفرد حقوقه تقاعس في أداء واجباته لغياب الحافز ولعدم شعوره بجدوى خدمة المجتمع والصالح العام مادامت حقوقه مهضومة. فيقِلّ العمل ويغيب الإتقان والابتكار ويسود الاستهتار والمحسوبية، فتعم المؤسسات سياسة تدبير الإكراهات والحلول الترقيعية والزبونية والرشوة. فلا عجب إذن أن نرى الفشل والتعثر والرداءة والقاء المسؤولية على الآخر عنوانا لمختلف البرامج والأوراش. ما الحل إذن؟ إن استعصاء حل بعض المعضلات بالمغرب لعقود، من قبيل مشكل التنمية والتعليم، لا يعني بالضرورة أن الحل يتطلب عصا سحرية أو اختراعا عجيبا، وإنما مقاربة رصينة وإرادة صريحة للإصلاح قوامها وأساسها تنمية والرقي بالعنصر البشري الذي يشكل أهم ثروة بالمغرب. لكن كيف؟ إن دراسة تاريخ الأمم وقصص نهضتها، وخصوصا منها المعاصرة، ليس بالشرق والغرب فقط، وإنما بالجنوب كذلك، تخبرنا بأن طريق التقدم والازدهار واضح لا غبار عليه، وهو تمتيع الشعوب بحقوقها وعلى رأسها إقامة العدل بين الناس. فالعدل أساس الحكم. ومتى أُقيم العدل قامت الأمم وارتقت وخرج الناس من طور أنانياتهم وتقاعسهم إلى ميدان الجد والبناء والتعاون لإدراك الجميع أن لكل ذي حق حقه. فمن يُقيم العدل؟ *أستاذ باحث