شعاع رقيق يخترق النافذة من الجانب الأيسر ... عليّ أن أستيقظ ، فالساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا ، لقد اعتدت على القيام قبل هذا الوقت بكثير كي ألتحق بأصدقائي قرب مقهى الحي للقيام بحركات رياضية داخل ملعب فريقنا لكرة السلة . كم يبدو هذا الصباح جميلا ! ... ريح غربية خفيفة تحرك دفتي نافذة المطبخ فتحدثان طقطقة غير عادية ، كان علي تثبيتهما بالمعقف المثبت على الحائط الخارجي البارحة وحتى لا يؤديان الجيران . انتفضت واقفا جانب السرير وأنا أتثاءب و أضغط على عينيّ المنتفختين بالنعاس ثم أخذت فوطة مزركشة كبيرة وتوجهت توا إلى الحمام ، بيدي اليمنى قبعة صوف ، وباليد اليسرى سطل صغير به قطعة قماش وصابون معطر وشامبوان أخذته من مخزن خاص. دخلت تحت الرشاشة ، وأنا أوحوح . ثم تناولت الخرقة والصابون وبدأت أفرك جسدي ، بعد ذلك غسلت شعري ثم خرجت من تحت الرشاشة وأنا أغلق صنبور الخلاط . وبينما أنا أنشف جسدي النحيف الذي التهمه السهر أيام الدراسة وشعر رأسي القصير الأسود ، رن جرس الهاتف فأمسكته بيد مرتعشة من شدة البرودة خارج الحمام ، وقلت :- " ألوه ، من معي؟ فرد صوت نسائي :-" ياسمين ، إني أنتظرك قرب المحطة بجانب الباب الرئيس" . فرددت – " أكيه " سأكون هناك بعد ربع ساعة تقريبا" .- فعقبت – " لا بأس سأنتظرك ". بسرعة توجهت إلى المطبخ وفوطة الحمام ما تزال حولي كالتنورة ،كنت ما أزال عاري الصدر ، وعلى رأسي قبعة الصوف . فأخرجت الحليب من الثلاجة ووضعته في الغلاية ثم على نار دافئة ، ثم هيأت القهوة كذلك . كنت دائما أفضل فطور القهوة بالحليب والخبز مع الجبن ومربى التين. بعد الفطور مباشرة ارتديت ملابسي التي كويتها مساء البارحة ، ثم حملت حقيبتي وتوجهت إلى المحطة في سيارة أجرة . كان زحام السيارات كبيرا ، وكان سائق الطاكسي رجلا في عقده الخامس ، ينصت إلى آيات من القرآن الكريم ، وهو يغمغم مرة بعد مرة متجنبا الاحتكاك بسيارات أخرى تسير عكس اتجاهه –" الزحام ولكن الصواب يكون يا سادة!" . بعد عشر دقائق وصلت للمحطة فرأيت ياسمين على بعد أمتار مني تنتظرني . كانت عليها بذلة زرقاء قانية وسروال أسود ، وعلى عينيها نظارتان سوداويتان يعلوهما حاجبان مقوسان زغبهما خفيف ، وبيدها محفظة متوسطة سوداء وتحت إبطها على الجانب الأيمن حقيبتها الجلدية . لما اقتربت منها كثيرا، انفرجت شفتاها عن بسمة خفيفة ، وقالت – " لقد تأخرت شيئا ما ،ماذا كنت تفعل ؟ فحييتها مرة ثانية وأنا ألقي نظرة على ساعتي اليدوية قائلا-" سنصل في الوقت إنشاء الله " ثم قصدنا الشباك للحصول على تذكرتيْ سفر إلى العاصمة الاقتصادية . كان علينا حضور يوم دراسي حول " الإنسان ،البيئة والتنمية " تنظمه جمعية (ج،ب،ت) . فياسمين عضو مؤسس للجمعية ، أما أنا فطبيب مهتم بشؤون البيئة والتنمية البشرية . تعرفت على ياسمين لما زارت إحدى المصحات الخاصة - التي أعمل بها - للكشف عن أخيها الذي كان يعاني من ألم في الرأس ، فكنت طبيبه الذي أشرف على الفحص الأولي ثم على إعادة توجيهه نحو مصحة مختصة أخرى. وقد لا حظت ياسمين استعدادي للتحاور وتقديم الخدمات للناس ففتحت معي موضوع العضوية في الجمعية التي تنتمي إليها ، فقبلت عرضها بعدما أقنعتني بإمكانية التعاون لما فيه خير العباد ، وأوضحت لي بأن في الجمعية أناسا شرفاء طاهرين يضعون أولويات الوطن فوق كل اعتبار. وبينما القطار يخترق حقول القمح والشعير الملونة برشات من زهرة الأقحوان ، وغابات شجرة أوكالبتوس المترامية ذات الأوراق الخضراء ، ومساكن متناثرة صغيرة عن يمين ويسار سكة الحديد ، كنا نتحدث عما وصلت إليه مدننا من تعفن ، وما لحق ببيئتنا من دمار. فالأزبال صارت القاعدة وصار النقاء استثناء . فالأزبال أصبحت تتراكم في كل زقاق وفي كل حي ، بينما العفونة والروائح الكريهة أصبحت تزكم الأنوف و لا أحدا يستطيع القول " اللهم هذا منكر" ...كفى ! ... إننا نقتل أنفسنا دون أن نشعر... ولا أحدا من يتذّكَر فشل الجماعة المحلية في إدارة مشكلة الأزبال بشكل صحيح وعقلاني ، فيعاقب المنتخَبين يوم الاقتراع على سوء إدارتهم للأزمات، بل الأكثر من ذلك ، هناك بعض الأشخاص الذين مازالوا يتصرفون بطرق بدائية بيننا . فلو قمت بجولة في المدينة فحتما ستقف على اختلالات اجتماعية وتربوية ، و ستصادف أشياء يندى لها الجبين : فقد تجد وأنت تعبر طريقا وسط العاصمة قنينة مشروبات غازية قد ملأها صاحبها " بولا" ثم تخلى عنها في الشارع العام ، وقد تجد " كُسْكُسأ " أو مرقا مرميا على قارعة الطريق . والأدهى والأمر أن تمر قرب أكبر الفنادق فتدوخك رائحة " البراز المتنوع " الذي يكسو أرضية ودرج الممرات الأرضية ، ناهيك عن أكياس بقايا " الحوت" التي تُرمى بجانب القناطر والممرات .و من غير القبول قطعا أن نلاحظ القطط وهي تدفن مخلفاتها وكذلك الكلاب بينما الإنسان العاقل .... . فمن المسؤول عن كل هذه الفوضى ؟ شوارع محفرة، وقنوات صرف صحي مختنقة وأعمدة إضاءة متهالكة وما خفي أعظم... ونحن نتبادل الأفكار والملاحظات حول البيئة والتنمية كانت ياسمين تنظر إلى وهي تقلب عينيها يمينا ويسارا بسرعة كرقاص ساعة حائطية وكنت أنا الآخر أسترق نظرات إلى عينيها ببراءة مشحونة بهبّة خفيفة عاطفية كنت أقاومها و أنا أردد بيني وبين نفسي :-" اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " – " اللهم تبثني بالقول الثابت " ، وحتى أتغلب على الوسواس الذي كان يحمي داخلي كالفرن . أما ياسمين فكانت تحمر وجنتاها حينا بعد حين وكان ذلك يضفي عليها أنوثة خاصة ، خصوصا عندما تخفض عينها العسليتين نحو ركبتيها استحياء وهي تستمع إليّ . كان حياؤها واحمرارها بالنسبة إلي أمرا عاديا ، و انفعلاتها طبيعية قد يعرفها أي إنسان يتحدث إلى شخص لا تربطهما علاقة قديمة وعميقة، لذلك بقي الحديث بيننا يدور حول البيئة والتنمية إلى أن دخل القطار محطة الوصول. كانت ياسمين شابة مثقفة فعلا ، وتمتلك قدرات وأفكار ويبدو لي أنها ترعرعت في وسط عائلي متحضر. قالت لي مرة أن أباها كان وزيرا سابقا للفلاحة ، وأخوها مدير بنك في العاصمة الإدارية بينما أمها مديرة معهد تعليم خاص . كانت هي من صرح بهذه الخصوصيات طواعية ، ولم تقصد التباهي بها ولكن كانت تريد أن أتعرف على أصولها وطبقتها الاجتماعية . وقتها حدثها أنا بدوري عن أمي " البنكية " وعن أبي أحد كبار الفلاحين، وعن تعليمي الجامعي بفرنسا والذي كان شاقا بعض الشيء . فلكي تصبح طبيبا يجب أن تكون ذكيا وذاكرتك قوية وأن تكون كالطاحونة تلتهم الدروس النظرية والتطبيقية ، بالإضافة إلى قدرتك على التحمل و صدقك وحبك للمهنة. فكانت ياسمين تمجد أبواي اللذان ضحيا من أجل تعلمي بالغالي والنفيس ،ثم أضافت بعد ذلك بأنها هي الأخرى كانت تحلم بأن تكون طبيبة لكن ظروفا فجائية حتمت عليها التسجيل في كلية الحقوق . بعد خروجنا من محطة العاصمة اقترحت ُ على ياسمين التنقل في طاكسي ، لكنها فضلت بأن نترجل لأن مقر الجمعية غير بعيد . فوجدت الفكرة جيدة ، وقلت لها بأني أنا اللآخر أفضل المشي على الأقدام . فكانت فرصة لي كي أتعرف أكثر على أشياء وأماكن بالعاصمة لم أكن أعرفها في السابق، فدخلنا أزقة لأول مرة ، واكتشفت متاجر واسعة ومكتبات كبيرة ومطاعم راقية وأشياء أخرى . كانت شمس الربيع دافئة ، لكن الضوضاء وأبواق السيارات كانت تملأ الجو ضجيجا متلاحقا. وبعد خمس دقائق تقريبا مشيا على الأقدام ، وصلنا باب مقر الجمعية وكان على أعلى البوابة الكبيرة يافطة مكتوب عليها باللون الأحمر والأزرق "جمعية البيئة والتنمية ترحب بكم " . فولجنا المقر ثم دخلنا قاعة كبيرة غصت بكراسي بلاستيكية بيضاء وأخرى جلدية رفيعة في الأمام تتقدمها منصة على خلفيتها صورة كبيرة لمدينة نقية ومعامل بعيدة على السكان . تقدمت ياسمين ثم جلست خلف المنصة بعد تقديم التحية بوجه بشوش وجدية لأعضاء الجمعية الذين تشرفت أنا بالتعرف عليهم كذلك ثم جلست إلى جانب ياسمين ضمن المجموعة التي ستدير اليوم الدراسي بعدما حيينا الحضور. كانت القاعة قد ملئت عن آخرها . وبآيات بينات افتتح اليوم الدراسي ثم بكلمة السيد رئيس الجمعية ثم كلمة ياسمين ثم أُعطيتُ الكلمة كي أدلو بدلوي . وقد كنت اتفقت مع ياسمين على الكلمة التي يمكن أن ألقيها في حالة ما إذا طُلِب مني ذلك. بعد ذلك طالب السيد رئيس الجمعية من الحضور – وكان أغلبهم من المثقفين : طلبة وأساتذة وعمال وإداريون رجلا ونساء – تكوين ورشات عمل ، كل ورشة ستكون مطالبة بعمل ما ، وعلى أن تُجمّع الاقتراحات والملاحظات لتتدارسها في لجنة خاصة ،وكم كنت مرتاحا وراضيا على عطاءاتي الفكرية . كنت أوضحت مضار التلوث على صحة الإنسان، وبيّنت بأنه بمواطنٍ يعاني من التلوث لا يمكن للتنمية أن تقوم أبداً. لقد أُعجبت بنشاط ياسمين وارتاحت هي لمساهمتي وعطاء الفريق كله. بعد إنهاء المهمة سارعت أنا وياسمين إلى الباب بعد توديع مكتب الجمعية إلا أن رئيسها اقترح علي وعلى ياسمين أن يصحبنا إلى محطة القطار ، فطريقه من هناك ، فصاحبناه وكان رجل نكثة : فشاربه الأشيب وأنفه المقوس نحو ذقنه وعيناه الجاحضتان ، تكسبانه حضورا و سحرا خاصا يجعلك تضحك من الأعماق وهو يُنَكِّتْ بتلقائية. لم نكن نضحك من صورته الآدمية ولكن من طريقة أدائه للنكتة، لقد كان يتمتم بعض الشيء . و هو يعتبر بحق من الناس الموهوبين في أداء النكت وإضحاك الناس دون تكلف . لقد أنستنا نكته تعب اليوم ، فلم نحس أكان الطريق قصيرا أم طويلا ، فوصلنا محطة القطار فجأة، ثم ودعناه وتوجهنا نحو شباك التذاكر للرجوع من حيث أتينا. كان صوت عجلات القطار على السكة الحديدية ( تكدبن- تكدبن – تكدبن) و دفء المقصورة وراء ارتخاء جسمي ، فبدأت أتثاءب . لقد تمكن النوم مني ، فبدأت أجد صعوبة في فتح عينيّ ، فقلت لياسمين – "كان يومنا رائعا ! كسرت خلاله الرتابة والروتين الذي كان يقتلني ، إني أحس بالراحة، وسأنام قليلا " . فوضعت يدي على الجانب الأيسر للمقصورة واستسلمت لنوم خفيف . وفي لحظة من اللحظات ضغطت علي ياسمين بكتفها الأيسر وقال لي -" انظر هنا يسكن أخي في هذا الحي" فحركت رأسي وقلت لها-" إنه حي جميل " فابتسمت مرددة- " كلشي هاي". بعد ساعة ونصف وصلنا مدينتنا ، فودعت ياسمين بعدما واعدتها بأني سأتصل بها بالهاتف مباشرة بعد وصولي إلى منزلي ، وكنت في الواقع لا أعرف أين تسكن هي ، ولم أريد أن أتجرأ و أطلب منها عنوان سكناها ، كنت أنظر إليها كزميلة لا غير . أحيانا على المرء أن يتحكم في نفسه ، حتى لا تتحول الزمالة إلى ارتباطات خارج ذلك الإطار. والحمد لله ، فإن لي تجربة عميقة ، وألتقي يوميا بالعشرات من النساء، ولكني أعرف حدودي جيدا ، ولن أسمح لنفسي بأن أدخل مضمار حرية الآخرين . فمن يريد العزة لنفسه ينزهها عن الشبهات ووساوس النفس الخبيثة. لما وصلت لمنزلي في سيارة أجرة ،كان الظلام قد بدأ يجتاح المدينة وكأنه ضباب خفيف ، وكانت الشوارع مضاءة بضوء خافت برتقالي يزيد للشارع العمومي رونقا وجاذبية . بعد دخولي منزلي توجهت توا نحو مكتبي فوضعت عليه محفظتي، ثم أزلت ملابسي وقصدت الحمام لأستعد بعد نشاطي . ولما استحممت ارتديت منامة بيجاما ، ثم بحث في الثلاجة عن العشاء الذي أحضرته لي الخادمة قبل انصرافها، فتناولت منه قليلا ، ثم جلست وراء شاشة التلفاز أستمع للأخبار . كانت أخبارا تشحن النفوس وتوثر الأعصاب : لا حديث إلا على القتلى والمصابين والجوع والغرق والأزمات الاقتصادية والأوبئة، الأمر الذي يجعل المرء ينظر للحياة نظرة المتشائم . أحسست بتعب حقيقي ، وببعض الألم في رأسي ، نتيجة التلوث الذي تعرضت له سواء في القطار ، حيث كان أحد الركاب يدخن دون الاكتراث بالآخرين، ثم نتيجة ضجيج السيارات وأبواقها ودخانها المترامي ، إضافة إلى المجهود الذي قمت به أثناء مناقشة ما طرحه المشاركون من أفكار واقتراحات، حيث كنا نعمل في فريق يؤطر الورشات ، وفي نفس الوقت كنت مكلفا بمعاينة أعمال المشاركين . فقصدت غرفة نومي واستسلمت لنوم عميق بعدما كنت قد كلمت ياسمين وطمأنتها بإني وصلت على خير إلى منزلي. اليوم فقط علِمَتْ بإني أسكن وحدي بعيدا عن أهلي الذين يقطنون الصويرة. في النصف الثاني من شهر ذي الحجة تبتدئ إجازتي السنوية ، فأرجع إلى مسقط رأسي مدينة الصويرة الجميلة لأحتفل بعيد الأضحى مع أسرتي، وأجدها مناسبة لإحياء الصداقة والمحبة التي كانت تربطني بأبناء الدرب وزملاء الدراسة . منزل الأسرة " فيلا" صغيرة صباغتها بيضاء ونوافذها زرقاء تحيط بها حديقة بها شجيرات مثمرة "خوخ" ورمان حلو" جلبها أبي من ضيعتنا بالبادية " بتالمست" ثم غرسها بيديه ، كي تزيد " الفيلا " جمالا". كنت وأنا صغير أتسلق كاللص شجرة الرمان لأسرق رمانة أو رمانتين ثم أختفي في غرفتي لتناولهما . وكانت أمي شديدة العناية بتلك الشجيرات . كانت الشجيرات بالنسبة لها تزيد صاحب " الفيلا" فخفخة وشأنا أمام الجيران والزوار. ذات صباح بينما كنت راجعا من الحمام البلدي وأنا أضع فوطة عل رأسي ، رأيت من بعيد سيارة أمي وهي تسير بسرعة على غير عادتها نحو منزلنا، ثم توقفت بقوة فخرجت أمي مسرعة وقصدت باب المنزل ثم ضغطت على الجرس رغم أن المفاتح كانت معها: كانت تفضل دائما أن تخرج الخادمة لفتح الباب ، كانت تعتبر ذلك نوعا من الطاعة والتقدير لها. أسرعت أنا الآخر مدفوعا بفضولي ، فدخلت من ورائها دون أن أسألها : هي لا تحب كثرة السؤال . كانت قد ولجتْ غرفتها ثم أغلقت الباب خلفها ، فهي لا تحب أن يطّلع أحد على أسرارها. بعد برهة خرجت وهي تناديني " وليد ! – فقلت: " نعم أمي" . فتوجهت بسرعة نحو غرفتها وأنا أردد في نفسي –" الله يخرج هاذ النهار بخير" . فأنا أعرفها أنها سريعة الغضب وإذا ما غضبت تكون كأمواج البحر في ليالي الشتاء الباردة. فقلت لها بعدما دنوت منها– " هل من خدمة أمي ؟" كنت أعلم أنني كبرت ولم أعد ذلك الطفل الذي يغزل من نظراتها القاسية. فقالت لي تعالى وابحث معي عن " توصيل" دار الضريبة فيما يخص "الضيعة الفلانية" . فبدأت أطلع على ما كنت أجهل سنين بعد الأخرى ، ولقد أُصبتُ بصدمة كبيرة عندما علمت المستور : كانت كل التواصيل والعقود باسم أمي ، ولم يكن أبي يملك شيئا . فأخفيت شعوري وواصلت البحث معها إلى أن عثرت على " التوصيل" فخطفته من يدي ، وجمعت المسندات الأخرى قائلة-" سأرتبها بعد عودتي" . لم أزد وقتها ولا كلمة واحدة، فخرجت من غرفتها وقصدت غرفتي خائر القوة كأن بي إسهال حاد ، وأنا أطرح السؤال تلو السؤال : تلك كلها أملاكها ، فماذا يملك أبي إذن؟ في نهاية الأسبوع كالعادة لا تشتغل أمي ، ولذلك يرجع أبي كل زوال يوم سبت قادما من ضيعتنا بعدما يكون قد قضى باقي الأيام هناك يرعى شؤون الضيعة من أبقار وأغنام وحقول زرع وخضروات وأشجار فاكهة . حيث يُسَيّرُ الضيعة بنفسه ، ويسجل الواردات والصادرات في سجل كبير ، ويضبط كل المعاملات، ويحصر الأرباح .وهو مطالب بتقديم كل المستجدات لأمي بعد عودته للبيت كل زوال يوم سبت وهما يرتشفان قهوة الزوال تحت شجرة الرمان في ساحة الفيلا . كانت أمي تنهض أحيانا راضية عن التقرير وأحيانا غاضبة وكنت ألاحظ أن أبي كان دائما مستقر الطبع أمام رضاها وأمام غضبها ، وكان ذلك لا يعني شيئا بالنسبة إلي وأعتبرها أمورا تخصهما ولا تخصني. اغتنمت صباح يوم الأحد ، حيث تذهب أمي للحمام البلدي كعادتها لتسخين أطرافها ، ولتغسل شعرها من الحناء التي تكسوه بها، هي تقول بأن الحناء تصلح لجلدة الرأس أفضل من أدوية الصيدلية . فطلبتُ من أبي أن يصحبني للضيعة التي اشتقت لرؤيتها فوافق . فاغتنمت فرصة خلوتي به فسألته : -" قل يا أبي ، أهذه الضيعة اشتريتها أم هي لجدي؟" فاضطرب أبي وتغير لونه إلى حمرة قانية ، ثم إلى صفرة وانكماش وجفاف لبشرة وجهه . كنت أعرف أني طرحت عليه السؤال الصعب ، وكنت أعلم الإجابة (أنه لا يملك الضيعة) ولكني كنت فقط أريد أن أزيل الغبار على بعض تاريخه وأعلم إن كان قد ساهم ولو بقدر بسيط مالي لشراء الضيعة التي يسهر عليها منذ سنوات ، بينما هي باسم أمي. فحاول تغيير مجرى الحديث بقوله :-" أكون أملك أم لا أكون أملك سيان ، فالملك لله. لم أعقب ...كنت واثق أني وضعت يدي على جرح يداويه أبي بالصبر والتواضع. لما أوشكت الشمس على الغروب طلبت منه أن نعود بسرعة فقد تكون " أمي " في انتظراننا خاصة أننا خرجنا من المنزل دون أن نترك لها ولا كلمة تهديها حيث نوجد.كان علي أن أسير بسرعة كي نصل قبل صلاة العشاء إلى المدينة ، وحتى نتمكن من تناول طعام العشاء جميعا. وعلى طول المسافة تقريبا استسلم أبي لنوم عميق ، وكنت أنظر إله مرة مرة، لقد بدأ الشيب يكسو كل شعر رأسه وزغب ذقنه ، كما بدأت ترسم خطوط تجاعيد عميقة على جبينه وحول عينيه . لقد أخذ منه الزمان مأخذه ، فهو "حار" " ونفس" لا يرضى بالهزيمة ، فهو مقاتل حقيقي . بعد صلاة العشاء التي نؤديها عادة في مسجد مجاور ، اجتمعنا حول طاولة الطعام كما هي العادة . فجلست أنا وأبي على الفوتيل وتأخرت أمي . قدمت الخادمة الطعام ، فبدأ أبي ينادي أمي – "نحن نتظرك " فأجابتنا – " غير اقضوا إني آتية" . فانتظرناها حتى أتت . فشاركتنا الأكل ولم تتناول إلا القليل منه . بعد ذلك طلبت منا الدخول للدار فدخلنا جلست وجلس أبي بجانبها وجلست أنا مقابلا لهما داخل غرفة الاستضافة. فنظرت إلى أبي وهي تبتسم وقالت له:-" حصلتُ على فرصة لا تعوض ، هناك ضيعة عصرية للبيع وصاحبها الحاج الميلودي الذي حج معنا قبل أربع سنوات ، وثمنها جد مناسب ، فماذا ترون؟" فقال أبي :- عرفتها" ثم بدأ يحك جبينه بأنامله ، وينظر إلى الأرض ثم سأل:- "وماذا عن ضيعتنا في تالمست؟" فأجابته على الفور- " سنبيعها" . فقلت مع نفسي –" قولي سأبيعها ". فعقب أبي:- " ومن سيسيرها؟ فأجابته-" كالعادة "، أي أنت كالعادة. فصمتا. فاخترقتُ صمتهما وسألت أمي-" وكم تطلبين ؟" فأجابت –"مئة وعشرون مليونا ، الضيعة وما فيها. قلت لها أتركي لي فرصة هناك من سيشتريها .فقالت لك أسبوعا كاملا . كنت خلال الأسبوع أراقب أبي ، وأقرأ على محياه الكثير من الأسى والحسرة ، وفي عينيه تعب الأيام التي قضاها في تلك الضيعة التي تحولت إلى جزء منه وها أمي تريد بيعها.