منذ ظهور الفكر المتطرف وانتشار التنظيمات الإرهابية، وهناك إشكالية أساسية في تعامل تلك التنظيمات مع الدولة من ناحية، وتعاملها مع بعضها بعضًا من ناحية أخرى، حيث دخلت في صدامات كبيرة مع الدولة، كما خاضت حروبًا مفتوحة مع التنظيمات المتطرفة الأخرى. وقد كان هذا نابعًا بالدرجة الأولى من نهم تلك الجماعات للسلطة وتطرفها الأيديولوجي، فضلًا عن فقدانها الفكر الاستراتيجي، وضيق الأفق، مع تطبيقها المفرط والمغلوط للشريعة الإسلامية. وهذا ما يطرحه الدكتور محمد حافظ، الأستاذ المساعد في شئون الأمن القومي بكلية الدراسات العليا البحرية في مونتيري بكاليفورنيا، في دراسته المنشورة بمجلة "سياسة الشرق الأوسط"، عدد (صيف 2018)، المعنونة: "الجهاديون الأشقاء: لماذا يخسر الإسلاميون في حروبهم الأهلية؟"، حيث تحاول هذه الدراسة إلقاء الضوء على تلك الإشكالية من خلال دراسة ثلاثة أجيال مختلفة لتلك التنظيمات على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، مركزًا على التنظيمات المسلحة الجزائرية، وتنظيمي القاعدة وداعش الانغلاق الأيديولوجي: يُشير المؤلف إلى وجود مجموعة من الأسباب الاستراتيجية التي تقود إلى العنف المتطرف بين التنظيمات الإرهابية، مثل: التنافس من أجل السيطرة على الأراضي والموارد، والزعامة. ولكن تلك ليست السمة الغالبة في سلوك كل التنظيمات المتطرفة، فبعضها يفضل إقامة تحالفات متوازنة، أو معارضة التنظيمات الأخرى، وإفشال مخططاتها من أجل التوصل إلى صيغة توافقية مع النظام القائم. ويضيف أن التنظيمات المتطرفة أيديولوجيًّا هي الأكثر ميلًا للدخول في مواجهات قتالية مع نظيرتها، وذلك بسبب ما تحمله من أيديولوجية منغلقة لا تسمح بمناقشة الفكر الآخر، والتعرف عليه، أو الدخول في تحالفات، بل تسعى للسيطرة على كل الحركات الأخرى، واحتكار القيادة باعتبارها الممثل الوحيد والشرعي للحركة "الجهادية الإسلامية". وقد أدت تلك النظرة الأيديولوجية المتشددة في نهاية المطاف إلى تفكك الحركة الإسلامية، واشتعال الاقتتال الداخلي بين جماعاتها، مما عرضها للهزيمة والتراجع عن تحقيق مشروعها. وتمثل الخبرة الجزائرية أحد الشواهد على الانغلاق الأيديولوجي، حيث أدى اشتباك الجماعة الإسلامية المسلحة مع الجيش الإسلامي للإنقاذ إلى تقويض الحركة الإسلامية في الجزائر، بل واختفائها من المشهد السياسي. وتتحدث الدراسة عن أنه في أعقاب أعمال الشغب المناهضة للدولة الجزائرية عام 1989، فُتح المجال أمام التحرر السياسي، حيث أنهت الدولة نظام الحزب الواحد، ومهدت الطريق أمام جماعات المعارضة الليبرالية والإسلامية للمشاركة في العملية السياسية. وقد استغل الإسلاميون هذه الفرصة وشكلوا حزب الجبهة الإسلامية للانقاذ، الذي حصل على 188 مقعدًا من أصل 430 في الجمعية الوطنية في الجولة الأولى من الانتخابات التي جرت في ديسمبر 1991، وكان على وشك الفوز بأغلبية ساحقة من المقاعد في الجولة الثانية من الانتخابات، لكن تدخل كبار قادة الجيش في الجزائر لوقف العملية الانتخابية، واعتقال العديد من كوادر جبهة الانقاذ، الأمر الذي أدى إلى اندلاع أعنف احتجاجات شهدتها الجزائر في تاريخها الحديث. وعلى إثر ذلك، ظهرت العديد من التنظيمات المسلحة، مثل: الجماعة الإسلامية المسلحة، والجيش الإسلامي للانقاذ؛ من أجل الإطاحة بالنظام العسكري. ونتيجة لهيمنة المتشددين الإسلاميين (الجماعة الإسلامية المسلحة) على المشهد، ورفضهم المسار الانتخابي، وإصرارهم على الحرب الشاملة ضد الدولة الجزائرية؛ قامت الجبهة الإسلامية للانقاذ بإنشاء الجيش الإسلامي للانقاذ كبديل للجماعة الإسلامية المسلحة في يوليو 1994، من أجل استعادة التوازن الذي كان موجودًا قبل الحرب، والوصول إلى تسوية سياسية مع النظام العسكري، والعودة إلى الوضع القائم قبل إلغاء نتائج الانتخابات، وذلك بسبب رفضهم أعمال العنف العشوائية التي قامت بها الجماعة الإسلامية المسلحة. فقد كانت هناك خلافات أيديولوجية بين الفصيلين حول دور الديمقراطية في الإسلام، ومدى جواز انضمام الإسلاميين إلى الأنظمة السياسية، ومركزية العنف في بناء الدولة الإسلامية المزعومة. فمنذ بداية الحرب الأهلية عام 1992، بين النظام الجزائري والتنظيمات المتطرفة، صورت الجماعة الإسلامية المسلحة النظام السياسي في الجزائر على أنه "نظام مستبد ومرتد"، واعتبرت قواتِ الأمن والعاملين بالحكومة جزءًا من ذلك النظام "المرتد"، كما عمدت إلى تحويل المسألة لحرب شاملة، ورفعت شعار "لا حوار، لا وقف لإطلاق النار، لا مصالحة، ولا أمن أو ضمانات مع النظام المرتد". وعلى النقيض تمامًا، لم يحمل جيش الإنقاذ تلك الأفكار المتطرفة، بل سعى إلى إدماج الإسلاميين في العملية السياسية، ورفض التحول إلى دولة ثيوقراطية. وقد أدى ذلك إلى حدوث حرب مفتوحة بين التنظيمين في 4 مايو 1995، والتي وصلت ذروتها في يناير 1996 بقتل 195 من أعضاء جبهة الإنقاذ بينهم 40 قائدًا. ومع تراجع تعاطف الجمهور مع الحركة الإسلامية بسبب أعمال العنف التي مارستها الجماعة الإسلامية المسلحة، عملت الحكومة على تطهير البلاد من الجماعات المتطرفة التي ارتكبت 76 مجزرة في الفترة ما بين 1996 وحتى 2001، وهو ما تحقق بدايةً بتفاوض الحكومة مع جبهة الإنقاذ، والذي انتهى بحل جيشها، مما أدى إلى انتهاء الحرب الأهلية، وقد كان مصير الجماعة الإسلامية المسلحة التفكك مع انضمام مقاتليها إلى جماعات أخرى، فقد خرج من رحمها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" التي غيرت تسمية نفسها إلى "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". ولكن هذه الجماعة الأخيرة لم تعد تشكل أي تهديد استراتيجي للحكومة الجزائرية. القاعدة في العراق: بعد أقل من عقد من الزمن من الفشل الذريع للجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، اتخذ "تنظيم القاعدة في العراق" مسارًا مماثلًا من التطرف وارتكاب الأخطاء الاستراتيجية، والتي أدت إلى تدميره في نهاية العقد الأول من القرن الحالي. يُشير المؤلف إلى أن الغزو الأمريكي للعراق 2003 قد عزز من محور المقاومة له، والذي انقسم إلى فرعين. الأول: يمثل أغلبية التنظيمات الإسلامية القومية، مثل: الجيش الإسلامي في العراق، وجيش المجاهدين في العراق، وكتائب ثورة 1920، وكتائب صلاح الدين الأيوبي. وكان هدفهم المشترك هو إعادة دمج السنة في نظام ما بعد صدام ومساواتهم بالشيعة والأكراد، حيث رفعوا شعار "عراق موحد" يشارك فيه السنة الثروة النفطية والوظائف العامة والمناصب الوزارية والتمثيل في الأجهزة الأمنية. والثاني: يمثل تنظيم القاعدة والتنظيمات المؤيدة التي تتبنى العنف وترفض الديمقراطية وتهدد الشيعة، وكان هدفها يدور حول تحويل العراق إلى دولة إسلامية. وفي سبيل ذلك، عمد التنظيم إلى العنف الشامل، حيث استهدف قوات الاحتلال، وأجهزة الأمن العراقية، ومسئولي الحكومة، والأحزاب الشيعية والكردية، والجماعات السنية التي كانت تميل إلى العمل مع النظام الجديد في العراق. إلا أن استراتيجيته الأساسية كانت تهدف إلى إشعال حرب طائفية من خلال شن هجمات استفزازية ضد المدنيين الشيعة في الأسواق والمساجد والمناسبات الدينية. وُيرجع الكاتب الفشل الذريع لتنظيم "القاعدة في العراق" إلى ارتكابه ثلاثة أخطاء جوهرية، يتمثل أولها في سياسة العنف العشوائي التي اتبعها التنظيم، حيث صور الحرب في العراق على أنها حرب ضد الشيعة من أجل كسب تأييد الكتلة السنية، وقد بلغ ذلك الأمر ذروته بقيام التنظيم بتفجير ضريح العسكريين في سامراء في 22 فبراير 2006، والذي يتميز بقدسيته لدى الشيعة. وقد أثار ذلك أعمال قتل طائفية ضد السنة في بغداد وغيرها من المدن. ويتعلق ثانيها بمحاولة عزل قبائل غرب العراق السنية عن طريق التدخل في الشئون القبلية والاقتصادية، وحظر القنوات الفضائية والموسيقى وقتل رجال القبائل الذين على صلة بقوات التحالف، مما أدى إلى تكوين حركة الصحوة في كل المحافظات والمدن التي ينشط فيها التنظيم من أجل مواجهته ونزع فتيل الأزمة الطائفية. أما ثالثها فينصرف إلى تقديم التنظيم نفسه كقائد وحيد للتنظيمات المتطرفة، حيث شكل مجلس شورى المجاهدين عام 2006، ودولة العراق الإسلامية، ودعا كل الحركات الأخرى للانضمام له، ومن يرفض يدخل معه التنظيم في اشتباكات مفتوحة وقتل قادتهم. وقد أدى ذلك إلى فقدان التنظيم لحلفائه نتيجة سلوكه المتطرف والمبالغة في تقدير قوته. وعلى الجانب الآخر، استغل الجيش الأمريكي والحكومة العراقية تلك الأخطاء التي وقع فيها التنظيم، وعملوا على كسب المزيد من الحلفاء لتقويضه من كافة الجوانب. فشل "داعش": استغل تنظيم داعش الآثار السلبية للسياسة الطائفية في العراق، والحرب الأهلية في سوريا، وانسحاب القوات الأمريكية عام 2011، وأعلن عن تأسيس دولة "الخلافة الإسلامية" المزعومة، وأصر على ضرورة تعهد كل التنظيمات الإسلامية المسلحة بالولاء لخليفته "أبو بكر البغدادي". ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل قام التنظيم بالدخول في مواجهات مباشرة مع التنظيمات الأخرى في الحسكة والرقة ودير الزور، ونظر إلى الشيعة والعلويين والأكراد على أنهم أعداء مناهضون لمشروعه الإسلامي. وقد كان إصرار التنظيم -من وجهة نظر الكاتب- على إقامة دولة إسلامية للسنة فقط، تنتهك السلامة الإقليمية لكلٍّ من سورياوالعراق، نقطة الخلاف الأبرز مع التنظيمات السورية التي سعت لإسقاط نظام "بشار الأسد" وبناء دولة تندمج فيها جميع الفصائل السياسية المعارضة. حيث انشغل تنظيم داعش بالتطهير العرقي والطائفي، وإقامة مؤسسات للحكم بناء على تفسيرات متطرفة للشريعة الإسلامية. وكانت الجرائم التي ارتكبها من عمليات الاغتصاب وقطع الرؤوس والصلب وحرق الناس أحياء، قد جعلت العالم ينظر له على أنه يمثل التهديد الأكبر والأخطر في المنطقة. وعلى ذلك، فقد تحولت التوترات بين داعش والتنظيمات المتطرفة إلى حرب مفتوحة في عام 2013، قتل فيها التنظيم وأعدم العديد من مقاتلي تلك التنظيمات بعد أن رفضوا إعلان الولاء له. وعلى الرغم من أن ذلك التنظيم قد جذب إليه عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب، إلى جانب سيطرته على مساحة تفوق مساحة بريطانيا؛ إلا أن الأخطاء الاستراتيجية التي وقعوا فيها بمعاداة التنظيمات المتطرفة الأخرى، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. الآثار الاستراتيجية: إن مسألة التطرف الأيديولوجي التي يحملها الفكر الإرهابي نتيجة لاعتقادهم بأن تفسيرهم للشريعة الإسلامية هو وحده التفسير الصحيح؛ قد جعل من الصعب للغاية الموازنة بين الاعتبارات البراجماتية والعقيدة المتعصبة التي يحملونها. فشعورهم بالتفرد الأيديولوجي، جعلهم يشعرون بالتميز عما سواهم من تنظيمات أخرى، بل وقادهم إلى محاولة تدمير الدول التي يعملون فيها للسيطرة على مقاليد الحكم. ولذلك يرى الكتاب أنه ينبغي على المجتمع الدولي أن يأخذ بعين الاعتبار عند التعامل مع الأجيال الأخرى من تلك التنظيمات في المستقبل إدراك أن هزيمتها تكمن في التعلم من أخطائهم، فعلى الرغم من التراث الفكري المشترك لهذه التنظيمات؛ إلا أنها منقسمة أيديولوجيًّا، وبالتالي فإن فهم الفروق الدقيقة التي تقسم تلك التنظيمات إلى معسكرات مختلفة، يمثل بداية وأد ذلك الفكر المتطرف في مهده والقضاء عليه. بالإضافة إلى ضرورة تمويل وتسليح خصوم تلك الجماعات بدلًا من الانخراط في البحث عن مقاربة أيديولوجية جديدة تقلل من جاذبية أفكارها، فقد أثبتت الحالات الثلاث فشل تلك الطريقة. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة