مقدمة: في الشهور الأخيرة قبل امتحانات البكالوريا، يشرع تلاميذ الثانية بكالوريا في الحديث عن المعاهد والمدارس العليا والكليات بصنفيها الخصوصي والعمومي، وعن كيفيات التسجيل القبلي بها، وعما تتيحه هذه المعاهد من إمكانات لضمان مستقبل جيد لطالب ما بعد البكالوريا، كما يتحدثون عن الإكراهات المتعلقة بشروط القبول وعتبات القبول المباشر أو القبول من أجل اجتياز المباراة، وكذا الجانب المرتبط بالتمويل بالنسبة للمعاهد الخصوصية الخ... يتقدم أغلب التلاميذ بطلبات التسجيل القبلي لمعظم المعاهد والمدارس العليا حيث غالبا ما ترد العبارة "أنا دْفعْت لْكُلّشِي" على المسامع؛ وذلك حتى يتمكن كل واحد منهم من الرفع من احتمال الولوج الى أحد المعاهد على الأقل، وبعد ذلك يختار الأفضل حسب الميول وحسب الظروف والاكراهات... لكن بمجرد مرور هذه الموجة في وقت معين، يجعل التلاميذ نصب أعينهم اختبارات البكالوريا أولا وتخفت حدة التفكير في معاهد ما بعد البكالوريا "نْدوّزُواْ البكالوريا ومن بعد يْحُلّها ألف حَلاّلْ". بعد ظهور نتائج الدورة الأولى تصبح الصورة أكثر واقعية وتسقط بعض الرهانات وتنتعش أخرى حسب المعدل المحصل عليه... يستنجد أصحاب المعدلات العالية بمراكز الدعم التي تعتبر نفسها مختصة في تقديم وجبات سريعة وجاهزة لتهييء التلاميذ لمختلف المباريات في وقت وجيز. بروفيلات مختلفة: من الطبيعي جدا أن يحدد كل تلميذ طبيعة المعهد أو الكلية، ذات الاستقطاب المحدود غالبا، التي يريد أن يبني مستقبله فيها حسب ميوله وتكوينه واستعداده المادي، حيث إن الإعداد للمستقبل هو استثمار حقيقي يتطلب استعدادا ماديا مهما ليس فقط بالنسبة للطلبة الذين يلجون المعاهد الخصوصية، ولكن حتى بالنسبة لأولئك الذين يدرسون بالمعاهد والكليات التابعة للدولة؛ إذ إن العملية تتطلب مصاريف ولو من أجل التنقل والأكل والسكن والمصاريف الشخصية الأخرى التي لا تقل أهمية. في الجانب الآخر، فإن المعهد أو الكلية ذات الاستقطاب المحدود تحدد مواصفات أو بروفيلا واضح المعالم للطلبة الذين يمكنهم أن يتابعوا دراستهم بها؛ وذلك اعتمادا على بعض المعايير، أهمها الشعبة وعتبة الولوج التي باتت تحسب كمعدل للنقطة المحصل عليها في الاختبارات الوطنية للبكالوريا بنسبة %75 والنقطة المحصل عليها في الاختبارات الجهوية بنسبة %25. وكما هو معلوم، فقد تم التخلي عن احتساب نقط المراقبة المستمرة منذ السنة الدراسية 2015-2016 وهي خطوة جريئة وهامة تحقيقا لتكافؤ الفرص بين التلاميذ عموما من جهة، وكذلك تحقيقا لتكافؤ الفرص بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي من جهة أخرى، بالإضافة الى محاصرة التأثيرات السلبية لاحتمالات "النفخ" في نقط المراقبة المستمرة، ودعما للتنافس الشريف، وتشجيعا للعمل الجاد بين جميع التلاميذ. اختبار الرياضيات للمدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بالقنيطرة 2018: يتكون اختبار الرياضيات لولوج السنة الأولى للمدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بمدينة القنيطرة من 20 سؤالا، عشرة منها حول الدوال والمتتاليات، وخمسة منها حول الهندسة الفضائية، والخمسة الأخيرة حول التعداد وحساب الاحتمالات. هناك ملاحظات تقنية كان لها تأثير كبير على إجابات التلاميذ؛ حيث تم استعمال رمز غير معروف لدى التلاميذ جميعا في التمارين الأخيرة، ويتعلق الأمر برمز التأليفات (Combinaisons) حيث استعمل رمز معتمد بفرنسا وغير معتمد في المغرب؛ الشيء الذي سيجعل التلاميذ مكتوفي الأيدي أمام هذه الأسئلة ولن يتمكنوا من الإجابة عليها... وهذا نوع من الاقصاء غير المبرر. كما تم استعمال كلمة appartient في غير محلها في تمرين الهندسة الفضائية (La droite (FD) appartient au plan (IJK))، وكان من المفروض القول(La droite (FD) est contenue dans le plan (IJK))، لكن لا أعتقد أن لهذه المسألة تأثير على الإجابات. التمارين كانت عموما صعبة حتى بالنسبة لتلاميذ العلوم الرياضيةK وبالخصوص التمارين العشرة الأولى؛ حيث كانت تتطرق لبعض الخصوصيات التي لا يمكن أن يجيب عنها إلا التلاميذ الذين هم على دراية بهذا النوع من التمارين، فقط التمارين المتعلقة بالهندسة الفضائية كانت نوعا ما في المتناول، لكن عدم قدرة التلاميذ على استخراج إحداثيات النقط من الشكل، عكس التلاميذ الذين يدرسون في المدارس التابعة للبعثات الفرنسية، بسبب أن برنامج الهندسة الفضائية في المغرب لا يستخدم الأشكال أبدا، وهذا سيشكل خطورة كذلك بالنسبة لقدرة التلاميذ على الإجابة لأنه بدون معرفة الإحداثيات لا يمكن أبدا الإجابة عن الأسئلة ولو أنها ظاهريا في المتناول. إضافة الى كل هذا، فإن استخدام الدالة Arctan ثلاث مرات، المرة الأولى بشكل مباشر ومرتان من خلال حساب التكامل، يجعل تلاميذ العلوم التجريبية خارج السياق لأن هذه الدالة لا تدخل ضمن نطاق برنامجهم. وهكذا يتبين أن اختبار الرياضيات لولوج السنة الأولى من المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بمدينة القنيطرة كان اختبارا كله ملغما بطريقة واضحة، وكأن المقصود والهدف هو الاقصاء ما أمكن. وعزاء التلاميذ هو المثل القائل "إذا عمت هانت". إقصاء واضح للعلوم التجريبية: يبدو من خلال الاطلاع على عدد من اختبارات الرياضيات والفيزياء الخاصة بالولوج للسنة الأولى من المدارس الوطنية للعلوم التطبيقية أن البروفيل المطلوب أساسا هو بروفيل تلميذ حاصل على البكالوريا علوم رياضية، ولو بمعدل لا يتجاور 20/12 كما هو الحال هذه السنة، في حين كانت عتبة القبول بالنسبة للعلوم الفيزيائية هي 15,40، أما بالنسبة لعلوم الحياة والأرض فقد كانت هي 16,50. اللي بغا يحرث العام طويل: رغم بعض الانتقادات الموجهة لاختبار الرياضيات الخاصة بالولوج للسنة الأولى من المدارس الوطنية للعلوم التطبيقية، التي اتخذناها كنموذج فقط، فإن المشاكل المسببة للإقصاء لا تكمن فقط في المعاهد ولا في نوعية الاختبارات التي تقدمها هذه المعاهد، بل إن المشكل الأساسي يكمن في عدم اهتمام التلاميذ بمستقبلهم بشكل جيد ومدروس بشكل قبلي؛ حيث كل شيء يأتي بالصدفة وفي آخر لحظة، مما يفتح المجال على كل الاحتمالات والمفاجآت. خلاصة: تذكرت هنا أن باراك أوباما، الرئيس السابق للولايات المتحدةالأمريكية، الذي كتب إنشاء حول موضوع "ماذا تريد أن تكون في المستقبل" يقول فيه إنه يطمح لأن يكون رئيسا لبلاده وهو ما يزال تلميذا، ومرت الأيام وأصبح فعلا رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية، لم يصبح هكذا بالصدفة، بل إن قوة الفكرة وقوة الطموح الذي يخالجه جعله يضع الهدف بين عينيه ويخطط لكل صغيرة وكبيرة من أجل الوصول إليه وتحقيقه. من هنا، فإن مستقبل الفرد لا يحدد هكذا بالصدفة وفي آخر لحظة وحسب ما تمليه الظروف، بل المستقبل طموح وتخطيط وإرادة وتعب ومعاناة. بدون تخطيط للمستقبل يضيع هذا الأخير في آخر لحظة. *مفتش ممتاز لمادة الرياضيات سابقا [email protected]