نشر الأستاذ حسن أوريد مقالا تحت عنوان: "أنا "بربري" والأمازيغية طوق نجاة"، وأود هنا مناقشته في بعض فقرات مقاله التي تبدو لي أنها فقرات مستفزة وتستحق المناقشة، فقد جاء في المقال ما يلي: "إن كان لي أن أختار ما بين ليوطي وموسى بن نصير فلسوف أختار ليوطي. وبعض الشر أهون من بعض". أنا كقارئ مغربي للأستاذ حسن أوريد كنت أتصوره كاتبا حداثيا ومنفتحا وتنويريا، وأن واعزه للكتابة والنشر هو شحذ فكر قرائه ودفعهم إلى الثورة على واقعهم البئيس، للنهوض ببلدهم المغرب من هذا التخلف الذي يرزح فيه، لكن الفقرة المشار إليها أعلاه تدل، للأسف، على أن صاحبها لا تربطه صلة بالحداثة والانفتاح والتسامح، إنه لا يزال يعيش أسيرا في وقائع الماضي وأحداثه، ولم يتخلص بعد من الأحقاد المترتبة عنها، إنه لم يغادر بعد الزمن الذي مرَّ فيه موسى بن نصير من المغرب. الكاتب الذي يناضل بقلمه ويتطلع إلى غد أفضل لأبناء مجتمعه، لا يضعهم بين خيارين أحلاهما مرُّ: موسى بن نصير أو ليوطي؟ ثم يفرض عليهم واحدا من هذين الخيارين، والذي هو ليوطي. الكاتب الحقيقي يُفترض فيه أنه منتج لأفكار، وتصورات، وأطروحات متعددة، بخيارات مختلفة يقترحها على قرائه تكون أفضل وأحسن وأرقى مما هو موجود ومفروض من أفكار ووقائع سيئة وشريرة وقائمة في الواقع السائد. حين يعيش المثقف بإحساس الحاقد والناقم، ويقوم بتخيير قارئه بين الكوليرا والطاعون، فإن صفة المثقف تُسحب منه، ويصبح واحدا من العوام، أي أنه لم يعد قادرا على الاجتهاد والإبداع، واقتراح الحلول للمشاكل المنتصبة في مجتمعه، وعليه في هذه الحالة أن ينسحب من الساحة الثقافية، وأن يتركها لغيره من المثقفين الحاملين للأفكار، التي تتضمن اقتراحات تهيء المجتمع للتغلب على مشاكله وتجاوزها، بنظرة غير ماضوية، بل نظرة تشرئب إلى المستقبل، وتكون مهمومة بجمع أفراد الشعب لا بتشتيتهم.. هذا من حيث الشكل، ولكن تعالوا نناقش مضمون كلام الأستاذ أوريد، انطلاقا من مرجعيته كبربري، كما حددها هو في مقاله، والتي يرى فيها أن الأمازيغية طوق نجاة للمغرب والمغاربة. فموسى بن نصير غزا، كما يريد النشطاء الأمازيغ، وليس فتح المغرب في القرن السابع الميلادي، ثم حسب السردية التاريخية الأمازيغية، هُزم العرب لاحقا في معركة الأشراف، وطُردوا من المغرب، وصار مرورهم به مجرد تاريخ، ليس له مفعول في الواقع المغربي، فالنشطاء الأمازيغ يقولون، في كتاباتهم كلها، ومقالات الأستاذ بودهان تعبر عن ذلك أحسن تعبير، إن المغرب لم يتأثر بتاتا بالغزو العربي، سواء في عهد موسى بن نصير أو العرب الذين جاؤوا من بعده، وأنه صمد في وجههم وطردهم من البلاد، وظل المغاربة كلهم أمازيغ، واللغة السائدة في مجتمعهم هي الأمازيغية، ولم يتغير هذا الواقع إلا ابتداء من سنة 1912 حين فرضت فرنسا الحماية على المغرب، ومنذ ذلك التاريخ شرعت الإدارة الفرنسية، بقيادة الجنرال ليوطي، في تعريب المغرب، ونزع الصفة الأمازيغية عنه. فإذا كان المغرب، في نظر النشطاء الأمازيغ، قد أصبح، في جزء منه، يتكلم العربية ويتطلع إلى عروبته، فلأن ليوطي هو الذي أشرف بنفسه على تحويله من أمازيغي، وتعريبه بالشكل الذي وصله اليوم، وعلى هذا الأساس، فإن تفضيل الأستاذ أوريد للجنرال ليوطي على موسى بن نصير ليس تفضيلا مبنيا على وقائع تاريخية انطلاقا من مصلحة أمازيغية خالصة، فالجنرال ليوطي أبُ تعريب الأمازيغ المغاربة، أسوأ من موسى بن نصير، لجهة الضرر الذي لا يزال يلحق بالأمازيغ إلى وقتنا الراهن، والمتمثل في التعريب الذي يخضعون له حاليا، ناهيك عن قصف الريف بالسلاح الكيماوي، الذي لا تزال الساكنة الريفية تعاني، إلى اليوم، تبعاته المدمرة والقاسية، وهو القصف الذي جرى حين كان ليوطي مقيما عاما في المغرب. وفي الواقع، فإن الأستاذ أوريد لا يقصد أن يفيد القارئ، بتفضيله ليوطي على موسى بن نصير، هكذا دون أي خلفية أو قصد، إذ واضح أنه لا يقارن بين الرجلين للمقارنة فحسب، إنه يريد أن يغيض المغاربة من أصول عربية، بالقول إنكم في نظرنا، نحن الأمازيغ أهل هذه الأرض، أجانب ومحتلون لها، كما كان الفرنسيون سابقا، فجدكم، أو رمزكم موسى بن نصير، لا يختلف فقط، بالنسبة إلينا، نحن الأمازيغ، عن ليوطي، بل هو أسوأ منه، وإذا كان لنا أن نختار بين استعماركم، أنتم سلالة ابن نصير، وبين استعمار الفرنسيين من ذرية ليوطي، فلن نتردد في اختيار الفرنسيين، لأنهم، في نظرنا، أفضل منكم. فهذا هو منطوق الفقرة أعلاه، وهو الخطاب ذاته، الذي لا يتوقف العديد من غلاة النشطاء الأمازيغ عن ترديده على مسامعنا بصيغ مختلفة، ولكنها واحدة، أي أن العرب محتلون للمغرب. المثير في الأمر هو أن الأستاذ أوريد لا يكتفي بالإعلان عن هذا الخطاب شديد الغلو وتبنيه، وإنما يُنظّر له، ويجد له المسوغات والمبررات عند الغلاة الأمازيغ الآخرين بالقول: "إذا كان خطاب ممن يُنعتون بالغلاة يؤذي، فكم هو أشد غلوا الواقع الذي يتلظون به، من فقر، وشظف وخصاص، وحيف، وافتئات، وكذب، وبهتان". فالفقر والخصاص والشظف، بتعبير الأستاذ، ماركة أمازيغية خالصة، أما المغاربة غير الأمازيغ، فكلهم، طبقا لهذا المنطق، ينعمون بالخيرات والملذات، وتأتيهم الفوائد والأرباح من الصفقات والشركات إلى منازلهم، وجميع حقوقهم محفوظة ومصانة، فالضحايا هم الأمازيغ كلهم ودون استثناء، والجلادون كلهم، ومن غير تردد، عرب، فالمغرب يعيش، وفقا لما يُستَشف من كلام الأستاذ أوريد، تمييزا عنصريا وعرقيا، الأقلية العربية تضطهد، في ظله، الأغلبية الأمازيغية وتطحنها.. غير أن واقع الحال المغربي يخالف تماما هذا الزعم، فالمغاربة باختلاف مكوناتهم يعيشون المعاناة نفسها، ويواجهون المشاكل ذاتها، ويحيون متناغمين، متساكنين مع بعضهم البعض، ولديهم التطلعات نفسها، ويناضلون لتحقيق أهدافهم المشتركة في التحرر من الاستغلال والتسلط والفساد. وإذا كان من بين الأمازيغ فقراء ومظلومون، فإن من بينهم أيضا أثرياء وظالمون، وإذا كان من العرب أغنياء وقاهرون لغيرهم، فإن منهم أيضا معدمين ومغلوبين على أمرهم، والظلم في المغرب لا يميز بين المغاربة على أساس عرقهم، وكذلك الفقر لا يختار عرقا معينا وينصَبُّ عليه. الشعب في أغلبيته المطلقة، بعربه وأمازيغييه، موضوع تحت رحمة اختيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية ليست نابعة من إرادته، وإنما مفروضة عليه من طرف الفئة التي تحكمه، والمؤلفة من الأمازيغ والعرب، وقد كان الأستاذ أوريد ناطقا رسميا للقصر الملكي، وكان مؤرخا للملكة، وواليا على مكناس ونواحيها، أي أنه كان من الدائرة المقربة للملك، الدائرة التي تصنع القرار في المغرب، ولم تحُلْ أمازيغيته دون تبوئه تلكم المناصب الحساسة والرفيعة.. التهميش لا يطال سكان قمم الجبال لوحدهم، كما يردد ذلك النشطاء الأمازيغ، ففي قلب المدن المغربية لدينا فئات اجتماعية واسعة تعاني الفقر والحرمان، ففي الرباط، وفي شارع محمد الخامس ومن حوله، وقرب مقري البرلمان والحكومة، أصبحت توجد بيوت من القصدير فوق أسطح العمارات يسكنها فقراء الرباط، ويعيشون فيها محرومين من خيرات الوطن، وحتى إذا كان هناك تهميش في قمم الجبال، فإن معالجة التهميش لا تتم بالتهييج، وبتسعير الخطاب العرقي الهوياتي وتضخيمه لممارسة الضغط والابتزاز بواسطته، فالمعالجة تتم بالحوار بهدوء، وبتبني الحكمة وتشغيل العقل، ومن خلال النضال الوطني، لا التصرف العرقي الأهوج الذي يضر أكثر مما ينفع. إنما الأمر الذي شدَّني في مقال الأستاذ أوريد وأثار استغرابي الكبير هو التناقض الواضح الذي سقط فيه، فهو من جهة يقول: "لست أتنكر لأمازيغيتي، ولست أتنكر لعروبتي، وأجدهما مجتمعين في هذا العقد الفريد الذي يهمني أن أترضاه، وهو المغرب، بلدي، لا أجحف حق أي مكون منه"، ولكنه يعود، من جهة أخرى، في خاتمة المقال لإنهائه بالقول: "نعم أنا بربري، وفخور بذلك.. لا تعجب، لأن الأرض أمازيغية، ووعيي التاريخي يسعفني في إدراك ذلك، فمتى تدرك أنت ذلك؟ ذلك أن الأمازيغية، متى فكرنا في الأمر في روية وأناة، هي طوق النجاة". الأرض التي نعيش فيها ليست أمازيغية، كما أورد الأستاذ أوريد، الأرض مغربية، أي أنها ملك لكل المغاربة من غير استثناء، ولهم جميعهم، مغاربة وأمازيغ وصحراويين..، حق تدبير شؤونها، وإذا كان المرء يتمسك بعروبته وبأمازيغيته، فإنه لا يفضل واحدة منهما على الأخرى، إذ يفترض أنهما معا على الدرجة نفسها من المحبة لديه، فالمغربي خليط من العربي والأمازيغي، ولا وجود لعربي خالص أو أمازيغي صرف في المغرب، كل من يتكلم عن النقاء العرقي يعيش في الوهم، ويقول كلاما غير علمي وغير واقعي. فأنت، يا أستاذ أوريد، لست بربريا كما تتوهم، أنت مغربي، وحين تتكلم بمنطق أنا بربري فأنت "تخندق نفسك" حسب تعبير الناشط الأمازيغي الأستاذ مبارك بلقاسم، ولكن في إطار عرقي ضيق. إنك تخرج من عروبتك ومن مغربيتك، وتصبح غريبا عنهما، ولا تعود المثقف الجامع الذي ينير الطريق لشعبه في موج الظلام الذي يحيط به.. إنه لأمر محزن أن يستسلم الأستاذ أوريد لعرقيته ليصيح في وجهنا بوثوقية لا مثيل لها: "الأمازيغية.. هي طوق النجاة"، دون أن يوضح لنا كيف تكون الأمازيغية طوق نجاة؟ هل بالتخلي عن العربية ونبذها، وقطع أي صلة لنا بالعرب، وتعبئة دواخلنا بالحقد عليهم وكراهيتهم؟ هل هذا تصور منطقي وسليم؟ وهل هو عملي؟ وكيف السبيل إلى تطبيق هذه النظرية التي أتحفنا بها؟ وهل لها ما يسندها في التاريخ المغربي؟ وهل يراها نظرية عادلة، ولا يشعر معها أي مغربي بالغبن والظلم؟ هل يقترح علينا الأستاذ أن نحمل الأمازيغية ونتحرك لنشحذ بواسطتها في واشنطن ولندن وباريس وتل أبيب ونقول لهم هناك إننا لم نعد عربا وأصبحنا أمازيغ، هيا تفضلوا علينا بقبولنا في ناديكم الخاص بكم وحلوا لنا، من فضلكم، جميع مشاكلنا؟ هل سيتجاوبون معنا في مسعانا هذا؟ ألن يسخروا منا وقتها؟ ألا نكون كالغراب الذي أراد تقليد مشية الحمام فنسي مشيته..؟؟ بخلاف هذا الطرح الذي عرضه علينا الأستاذ أوريد، أظن، أنا هذا العبد المذنب البسيط، أن كل مغربي عاقل، لا يرى في الأمازيغية إلا مكونا واحدا من المكونات الأخرى التي تَضمَّنها الدستور المغربي لسنة 2011، وأن طوق نجاة المغاربة لا يتمثل في الأمازيغية، إنه يكمن في وحدتهم الوطنية، وتضامنهم، وتكاثف جهودهم، بجميع مكونات هويتهم، لتحقيق تنميتهم المنشودة، ونشر المساواة في الحقوق والواجبات، وانتزاع الحق في الثروة الوطنية، وبثِّ العدل الاجتماعي بين المواطنين، ولن يتأتى ذلك إلا عبر قطع دابر الفساد، والتغلب على الاستبداد، بإقرار الديمقراطية الحقيقية، حيث لا مكان في ظلها لسجين رأي، أو معتقل بسبب الاحتجاج على وضع اجتماعي مزرٍ. ما عدا هذا الخيار رَغْوُ كلام، وتزكيةٌ وتكريسٌ لمنطق: فَرّق تَسُد، هذا المنطق الذي يشتغل في إطاره ويروج له بعض المثقفين الانتهازيين، مقابل الريع الذي يتمرغون فيه، على حساب قوت الفقراء المغاربة، عربا وأمازيغ..