تصاب بالدهشة وأنت تتابع وتستمع لبعض الشيوخ والدعاة في القنوات الفضائية اﻹسلامية هذه الأيام، من خلال برامج دينية رمضانية وهم ينظرون لمستقبل اﻷمة اﻹسلامية، وكيفية النهوض بها، لتستلم مشعل الحضارة العالمية من جديد؛ فتراهم يستشهدون ببعض اﻷحاديث النبوية، وببعض اﻵيات القرآنية الكريمة يزكون بها جهلهم، ويكشفون عن بؤسهم الفقهي والعلمي لمعاني كتاب الله الحكيم كقولهم : "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " (الأعراف: 96) وقوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمد: 7) وقوله :"إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" (الحج: 38) وقوله تعالى: " وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ.. "( الطلاق: 3) فمشكلة هؤلاء أنهم يفهمون هذه الآيات وخصوصا التوكل على الله بمفاهيم عرجاء، وبعقول خرساء، وبآذان صماء، فمفهوم التوكل على الله كما اعتبره الإسلام، وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم على أرضية حياته الإجتماعية والسياسية والعملية، لا يتنافى مع اتخاذ الأسباب الكونية، والسعي في مجالات الحياة، فهناك كتاب الله المسطور (القرآن الكريم) وهو كتاب تزكية وتوجيه وإرشاد وهداية، وهناك كتاب الله المنظور (الكون) وما أودع الله فيه من نواميس وقوانين كونية يجب البحث عليها واكتشافها والتفقه فيها ومعرفتها وبالتالي تسخيرها لخدمة هذا الإنسان في عالم الشهادة، فمثلا عندما حرم الله سبحانه وتعالى بعض الأطعمة والأشربة لضررها الظاهر أو الخفي، ولكون العالم أصبح قرية صغيرة كما يقال، سهل على التجار استيراد بعض المواد والمنتوجات الغذائية وبيعها في الأسواق الإسلامية، ومع عدم معرفتنا لهذه المنتوجات الغذائية هل أختلطت بمواد حرام، وإذا كان هذا الأمر لايمكن أن يعلم إلا باستخدام المختبرات والبحوث والتحاليل لتلك الأطعمة، فلاضير من استخدامها؛ بل تصبح من أوجب الواجبات في إنشاء هذه المختبرات والتعمق في العلوم المرتبطة بها؛ لأن بدونها لا تتحقق العبودية لله كاملة، وﻻ يعرف الحلال من الحرام؛ والخبيث من الطيب إلا بهذه الأدوات المخبرية؛ لهذا علماؤنا رحمهم الله تعالى وضعوا قاعدة جليلة في هذا وقالوا: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". فالمسلم الواعي بحقيقة رسالة اﻹسلام وجوهر الدين وفلسفة القرآن ، يعتبر الدنيا بمثابة حقل زراعة، وميدان تنافس في إعمار اﻷرض وإصلاحها بما يسعد الناس وينفعهم.. فالطائرة والسيارة والغسالة والثلاجة والكناسة وأدوات الزينة، وأدوات الترفيه، والأثاث واللباس، وما هنالك من مخترعات ومنتجات وأدوات، التي تنتجها المصانع عبر شرق الدنيا وغربها، ماهي إلا وسائل وأدوات مسخرة للإنسان لينعم فيها وبها، كما سخر لنا باقي مخلوقاته وجماداته من طير وحيوان ونبات وشجر وعجر وماء وهواء.. وسورة النحل أبلغ تعبير في هذا الباب حيث يقول تعالى: "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ،وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" (النحل: 5-18) . فهل فهم ساداتنا المشايخ ودعاتنا الكرام من كتاب الله المسطور وكتاب الله المنظور هذه المعاني، وشمروا عن سواعدهم للإعمار والإبداع والتخطيط والإنتاج في صفحات هذه الحياة ؟ علما أننا في هذه الميادين عيال على ماينتجه الآخر، جهلاء بقوانين الحياة والطبيعة والكون والاجتماع، وبكتاب الله المنظور (الكون) على وجه الخصوص . كم من صناعة طبية وغذائية وعسكرية ومدنية تتعلق بالذهب الأسود- وغيره من المعادن- واستخراجه وتكريره لانعرف منها أي شيء ؟!! ولولا الغرب "الكافر" كما يعتبره هؤﻻء الشيوخ والدعاة، لكانت هذه النعم ماتزال تحت بطون اﻷرض ولا تستفيد منها البشرية بشيء! ولبقينا نحن أهل الإسلام إلى يوم الناس هذا نصلي في مساجدنا ونقرأ كتاب الله تعالى بالقناديل والشموع ، كما أننا لبقيا إلى يومنا هذا نحج بيت الله الحرام على الخيول والبغال والحمير، وعلى سبيل المثال لو أرادت أوروبا اليوم أن تقتل جميع المسلمين وبدون دبابات ولا طائرات ولا جيوش؛ بل بشئ بسيط يمكن أن تفعله هو وضع السم في علب الأدوية المصدرة إلى عالمنا اﻹسلامي والعربي؛ لأن شيوخنا ودعاتنا هذه اﻷيام منهمكين في تكفير بعضهم البعض، وليس لهم الوقت الكافي للقيام بتوجيه شباب الأمة اﻹسلامية إلى اكتساب وتعلم هذه العلوم والفنون والمعارف الجديدة الضرورية لحياتنا المعاصرة، والله المستعان