تقديم سأتناول بالتحليل في هذا المقال فيلم " ولولة الروح" (cri de l'ame) للمخرج المغربي عبد الإله الجوهري. الفيلم الذي يعيد إنتاج فترة محددة من التاريخ الثقافي والسياسي المغربي في بناء درامي تخييلي. الشيء الذي يتطلب مقاربة خاصة حذرة، لا تنجرف نحو التاريخي أو الفني، أو إسقاط السياق الخارجي على النص الفيلمي، أو قراءة الخطاب الفيلمي على ضوء هذا السياق. يتطلب الأمر إذن قراءة تفكيكية من داخل الفيلم، تكشف على مكوناته الفيلمية السمعية البصرية، وتحققاته المقطعيه، وتبنينه الحكائي، وعلى العلاقات العميقة المتحكمة في بناء الخطاب وآلياته الحجاجية أو التأثيرية. ما يهمنا بالدرجة الأولى هي إنتاج المعنى، وإدراك الجوانب الخفية العميقة وتعالقاتها في بناء العالم الفيلمي. مدخل نقف في البداية عند عنوان الفيلم. "ولولة الروح" عنوان مغر، مستفز. عنوان لا يبدو أنه يهدف إلى تحقيق التواصل التجاري أو وسم الفيلم بعلامة معينة – وإن تحقق هذا بكيفية آلية – بل إنه يقدم نفسه كبؤرة تجتمع عندها كل الخيوط المقطعية والحكائية والدلالية للفيلم. إذ يوجه المتلقي إلى البحث في سيرورة المشاهدة عن الروح وعن ولولتها. قد ننخدع ونسير في هذه الوجهة، ونبحث عن العلاقة بين عالمين معجميين متقابلين: عالم مادي ملموس يتجسد في الأصوات ( ولولة – صراخ..)، وبين عالم مجرد ( عالم الأرواح). ويمكن لهذا الاختيار أن يقودنا إلى تتبع العالمين في تحققاتهما المختلفة داخل الفيلم. هذا ممكن. لكن المسافة بين العالمين ستظل قائمة. كيف تتجسد الروح؟. أي كيف تتحول إلى فاعل يصرخ؟ وأي نوع من الصراخ؟ هل هو تمرد أم أنين وبكاء؟ لا بد إذن من إدراك العوالم الخفية للفيلم لإقامة جسر متين بين العالمين. لنبدأ من البداية. البنية المقطعية يمتد الفيلم على مدى اثنين وتسعين دقيقة واثنين وعشرين ثانية، ويتكون من 73 وسبعين مقطعا. نميز داخل المقاطع بين مقاطع قليلة اللقطات (32 مقطعا)، ومقاطع وحيدة اللقطات (21 مقطعا)، تليها مقاطع متوسطة اللقطات (17 مقطعا)، أما المقاطع قليلة اللقطات، فلم تتجاوز ثلاثة مقاطع. هيمنة المقاطع وحيدة أو قليلة اللقطات ( 53 مقطعا) تضعنا أمام طبيعة مقطعية تشكيلية، تقدم لوحات تركيبية تستقل بذاتها خاصة في المقاطع وحيدة اللقطات، ذات الإيقاع الهادئ الممتد في زمن اللقطات، الذي يضع المتلقي في وضعية المتأمل، وليس في وضعية المنفعل جسديا، اللاهث وراء الأحداث. على مستوى التأطير، نسجل هيمنة التأطير الكلي في تشكيل الفضاءات الحكائية الخارجية، وتحركات الشخصيات خلالها ( لقطات عامة، لقطات مجموع أو متوسطة) في حين يقتصر التأطير الجزئي على الحوارات والمونولوجات الشخصية. وقد اتخذ التركيب التأطيري في الفيلم تحققا متكررا ينطلق من العام إلى العام، أو من العام إلى الخاص ليعود إلى العام، مما يعني أن الفيلم اهتم بالإطار العام أكثر مما اهتم بالتفاصيل. يهيمن الثبات على حركة الكاميرا على امتداد الفيلم، وقد تنفتح المقاطع أحيانا بحركة ماسحة بطيئة، لكنها تنتهي بدورها إلى الثبات؛ أما الحركة السائرة فتكاد تكون منعدمة، بهذا يظل المتلقي في وضعية ثابتة يستقبل الحكائية دون كثير انفعال أو اضطراب. بالنسبة لموقع الكاميرا يلاحظ سيادة الموقع الأفقي سيادة مطلقة، مع استعمال نادر للموقع العصفوري ( مقطع الاستنطاق/ تناول الدش)، و أيضا للقطات الصاعدة ( تأطير النجوم في السماء/ تأطير الحمام الطائر..). هنا أيضا تأتي المعطيات الفيلمية والحكائية إلى مستوى الإدراك المباشر للمتلقي المستفيد من وضعية متميزة. بالنسبة للعلاقات القولية بين مبدع الفيلم ومتلقيه نسجل أيضا هيمنة الزاوية الخارجية التي تجعل مبدع الفيلم مسيطرا على المعطيات البصرية على امتداد الفيلم، كل شيء يتم عبر عيني الراوي، ونادرا ما نرى بأعين الشخصيات خاصة في المشاهد الحوارية النادرة حيث سادت بنية التناظر الحقلي. ينتج عن هذا أن العلاقة بين المتلقي وبين الشخصيات تكاد تكون منعدمة، لا يرى بأعينهم، لا يحس أحاسيسهم، مما يجعل التماهي معهم أمرا عسيرا، وهذا يغلب اختيار التأمل على اختيار الانفعال. اعتمد الالتحام المقطعي، سواء بين اللقطات أو بين المقاطع على تقنية القطع الحاد على امتداد الفيلم، وعلى الموسيقى والقطع في أماكن كثيرة خاصة في التنقل بين الحكايات المتجاورة، كما أعتمد على الربط بالسواد والموسيقى في الانتقال بين المحطات الكبرى للحكاية الفيلمية. من هذا الالتحام ثنائي المكونات تحققت سلاسة الحكي وسهولة التتبع والتلقي. تحقق المكون السمعي للبنية المقطعية اعتمادا على مكونين أساسين ( الحوار والموسيقى) إضافة إلى التضجيج المرتبط بالمحتوى البصري داخل اللقطات ( رنين، أصوات الباعة، صوت السيارات، رنين الهاتف، نباح..). وقد ساد الحوار في 47 مقطعا موزعة بين حوارات، مناجاة، قراءة نصوص، وترديد أشعار وحكم؛ كما سادت الموسيقى والغناء في 30 مقطعا، موزعة بين موسيقى بدون غناء، وأغاني العيطة، وأغاني عبيدات الرماة. وكثيرا ما شكل الحوار امتدادا للموسيقى، أو الموسيقى إطارا للحوار. وتجدر الإشارة إلى أن الموسيقى منتوج محلي خالص تمزج بين الوظيفة السردية (الربط بين المقاطع) وبين الوظيفة التعبيرية ( تعميق الإحساس بفن العيطة)، كما تشكل إلى جانب الغرافيك في اللقطات- المقاطع حكاية العيطة التي سنعود إليها أثناء دراستنا للحكاية الفيلمية. على مستوى العلاقات بين المتلقي وعالم الحكاية، يلاحظ أن الزاوية السمعية قامت على التناوب بين الزاوية الداخلية (حوارات وغناء شخوص الحكاية)، وبين الزاوية الخارجية المرتبطة بالمقاطع الرابطة بين المحطات الكبرى أو الأغاني الثراتية المجاورة للحكاية الفيلمية. هنا يجد المتلقي نفسه في موقع أكثر تميزا، موقع المكتشف والمتمتع بتراث العيطة، كخلفية عميقة للحكاية الفيلمية. نخلص من دراستنا للبنية المقطعية إلى أننا أمام بنية مشهدية تشكيلية بسيطة، بطيئة الإيقاع، كلية التأطير، تتميز بحركة الكاميرا الثابتة وبموقعها الأفقي، وبزاوية النظر الخارجية، وانسيابية الالتحام المقطعي؛ فضلا عن هيمنة الحوار والموسيقى على المكون السمعي. كل هذه الخصائص المميزة للبنية المقطعية تمنح الهيمنة المطلقة لمبدع الفيلم في البناء الفيلمي، وتجعل المتلقي في وضعية المتأمل الرائي والسامع، البعيد عن التأثر والانفعال. ترى كيف سيبني الحكاية الفيلمية؟. البنية الحكائية يتشكل العالم الحكائي من عدد من الحكايات الفرعية المتجاورة على المستوى السطحي للفيلم. لنرصد تحقق هذا العالم والعلاقات المتحكمة فيه، من خلال إعادة تنظيم المتن الحكائي. يتكون هذا المتن من أربع حكايات: حكاية إدريس، وتتحقق 32 مقطعا تمتد على طول الفيلم كالتالي: [ 1- 4- 7 – 9 – 11 – 14 – 17 – 19 – 22 – 23 – 29 – 32 – 33 – 34 – 37 – 42 – 49 – 52- 53 – 55 – 56 – 57 – 59 – 61 – 62 – 63- 64 – 65 – 66 – 67 – 71 – 72 ] ، وتحكي حكاية الضابط إدريس الشاب المعيّن في منطقة هامشية من مدينة خريبكة. طالب قديم للفلسفة يلتحق بالشرطة لأسباب لا إرادية. يعجز عن الملاءمة بين تكوينه وبين مهنته، وعن فهم الظواهر الغريبة المحيطة به. يخفق. يغرق في الكحول وينتهي إلى التمرد. يستقيل من مهامه، ويغادر المدينة. حكاية الأستاذ عبد الفتاح، وتتحقق في 16 مقطعا كالتالي: [ 2 – 3 – 5 – 10 – 12 – 18 – 24 – 25 – 28 – 30 – 35 – 36 – 38 – 41 – 42 – 50 ]، وتتمحور حول شخصية الأستاذ عبد الفتاح المناضل الشيوعي. يقضي الأستاذ وقته في تأطير التلاميذ وزرع أفكار الثورة عبر النادي السينمائي والقصائد الثورية، والبحث في فن العيطة. يطاله الاعتقال ويرحّل من المدينة. حكاية الحارس عبد الوارث وتتحقق في 16 مقطعا: [ 11 – 16 – 20 – 21 – 31 – 37 – 39 – 40 – 46 – 56 – 57 – 58 – 59 – 60 – 62 – 64 ]، وتحكي قصة واحد من أشهر الرماة في الماضي – عبد الوارث – ينتهي به المطاف إلى حارس لنادٍ لقنص الحمام. يتحسر على ماضيه مع وحش الغابة وأغاني الرماة، ويعيش الهامش مع كلبه وزوجته. يُكلف بمهمة القنص من موقع خفي، لإيهام شخصية مهمة بالتفوق في الرماية. يرفض. يتمرد. يتصالح مع الماضي، مع الذات. حكاية العيطة، وتتحقق في 19 مقطعا، وتظل حاضرة على امتداد الفيلم [ 1 – 3 – 5 – 6 – 8 – 11- 13 – 15 – 18 – 23 – 27 – 43 – 44 – 45 – 51 – 55 – 68 – 69 – 70]، وتحكي قصة الشيخ الروحاني والشيخة الزوهرة العاجزين عن الغناء. شيخ يقضي أيامه في الشرب وتدخين الكيف، وعد النجوم في انتظار الرحمة، وشيخة تعيش اليومي وتحكي عن طفولتها وشبابها وقصة غرامها. خلف هذا التحقق السطحي للحكاية، تقدم المقاطع وحيدة اللقطات حكايات لا زالت تعيش في ذاكرة الشيخين قصائد وشخوص ( العلوة – الشهبة بنت الفاسي – منانة خربوشة – ما زال الحق يبان..). ينتهي عد النجوم. تنطق الكمنجة. يغني الشيخ والشيخة. تنغلق الحكاية. يأتي الرحيل. من هذه الحكايات الأربع يتشكل العالم الحكائي للفيلم، وينتظم وفق بنية سردية خطية، تنطلق من مقدمة، وتنقسم إلى ثلاثة فصول وخاتمة [ لعتوب – فصل 1 – فصل 2 – فصل 3 – لقفول ]. ولكل حكاية صغرى بدورها بداية وحبكة ونهاية وتطورها الخطي. تقوم العلاقة بين الحكايات على مبدأ التجاور عن طريق التركيب التناوبي، إذ ننطلق من حكاية إدريس مثلا إلى حكاية الأستاذ، ونكرر العملية، وتحافظ كل حكاية على استقلاليتها. أوتعتمد على مبدأ التداخل بين الحكايات عن طريق التواجد داخل نفس المقاطع؛ إذ تلتقي حكاية إدريس مع حكاية عبد الوارث في ستة مقاطع [ 11 – 56 – 57 – 59 – 62 - 64]، وتلتقي حكاية الأستاذ مع حكاية العيطة في ثلاثة مقاطع [ 3 – 5 – 18]، كما تلتقي حكاية إدريس مع حكاية العيطة في أربعة مقاطع [ 1 – 11 – 23 – 55]، في حين لم تلتق حكاية إدريس مع حكاية الأستاذ إلا في مقطع واحد [ 42]. من التوازي والتداخل بين الحكايات تشكل العالم الحكائي. انسجاما مع الطبيعة التأملية للبنية الفيلمية لم تشكل البنية الحدثية أهمية كبرى في دينامية التطور الدرامي للفيلم؛ إذ أن أغلب الأحداث تظل عادية مرتبطة باليومي المعيش [ حركات الشخوص – الصيد – عمليات البحث]، أورموزا أو إحالات خارج فيلمية [ اعتقال الأستاذ عبد الفتاح – اعتقال سعيدة - تمرد الحارس – رحيل الشيخين] أو أداة سردية تغري بالمتابعة [ موت الشهيبة بنت الفاسي – موت خربوش – اختفاء الجثة ..]. أو تحريك الحكي [ البحث في فن العيطة ]. بمعنى أوضح لا تتولد عن الأحداث أحداث أخرى خضوعا لسببية ضرورية. يتحقق العالم الحكائي في مجموعة من الفضاءات ترتبط بالحكايات الفرعية [ منزل الشيخين - مكتب العميد – شقة إدريس – شقة الأستاذ – بيت عبد الوارث – النادي – الخرابة (الكاريان) – خارج النادي – الفضاءات الطلقة – الخلاء - السماء – باب المدينة – بعض الشوارع- فضاءات العيطة الخربة – الغابة ]. في مقابل هذه الفضاءات نجد فضائات خارج الحقل منفتحة على المجهول [ الدارالبيضاء – الرباط ]. باستثناء هذا التقابل بين الحقل وخارج الحقل، بين الهنا والهناك، يخضع الفضاء في تبنينه لحركة الشخوص، بنفس التجاور والتلاقي الذي تعرفه الحكايات الأربع. لا ينبغي أن ننسى أن هذه الفضاءات موسومة بفضاء مدينة خريبكة أو المغرب كإطار عام يمنحها بعدها الجغرافي الواقعي ودلالاتها الرمزية. يمتد العالم الحكائي في إطار زماني يمزج بين الحاضر كمحطة للحكي ومسار للحكايات الفيلمية، وتتحدد في الزمن الواقعي في سنة 1973، وبين الماضي كخلفية تمتد في التاريخ الثقافي والوجداني للشخوص. وإذا كان الحاضر الحكائي مرتبطا في بنائه بتبنين الحكايات الصغرى وحركات الشخوص، فإن الماضي ينفلت من التبنين الحكائي، ويقتصر على أداء وظيفة رمزية واستعارية تحتاج إلى الغوص لفهم الخلفية البعيدة لعالم الحكاية. تعيش في العالم الحكائي عدد من الشخصيات المحورية [ إدريس – الأستاذ عبد الفتاح – عبد الوارث – الشيخ الروحاني – الشيخة الزوهرة ] وشخصيات موازية [ الشرطي- الكومسير – مدير النادي – منانة – منير – زوجة عبد الوارث – القايد – زوجة منير – الرجل المهم ] وشخصيات رمزية [ العيساوي – خربوش – الشهبة – الكلب سيتل – أولاد العلوة - سعيدة ]. لا تقوم الشخوص بدور كبير في تطوير البنية الدرامية للفيلم. لا مواجهات. لا صراع، ولا تفاعل. شخصيات تقاد إلى مصير محتوم دون أن يكون لها أي دور في تحديد أو توجيه هذا المصير. وبالرغم من خضوع الشخصيات في تبنينها لنفس المنطق المتحكم في باقي المكونات. وبالرغم من الاختلاف في بعض التفاصيل، يمكن اختزال كل الشخصيات في شخصية واحدة. شخصية محبطة، انهزامية، ساخطة على الحاضر، منغمسة في عالمها الداخلي، تعيش في المثال وتهرب من الواقع. شخصية رمزية أكثر منها ذوات حية أو فاعلة. إنها نماذج وحالات للتأمل والتأويل. نخلص من دراستنا للبنية الحكائية في "ولولة الروح " إلى أننا أمام بنية خطية، مركبة من حكايات فرعية محكومة بمنطق التجاور والالتقائية. وأن هذه البنية تشكل عالما حكائيا هادئا، ينتج عن اختيار سردي، يتجنب عن أدرمة الأحداث والفضاءات، ويبتعد عن الانفعال والتفاعل، ويفتح أمام المتلقي فرصة للتأمل والتفكير والاستجابة العقلانية. لماذا هذا الاختيار؟ أي خلفية تحكمه؟ وأي موقف يتبناه؟. الخطاب الفيلمي يضع قائل الفيلم متلقيه في وضعية تأملية قائمة على بنية مقطعية مشهدية تأملية، ويضع أمامه عالما رمزيا استعاريا يسهل تتبعه وإدراكه، بل والاستمتاع به. لنقف عند القضايا المثارة وأبعادها الخطابية. غربة الفلسفة، وقد تجسدت في سخرية الجميع من الفلسفة، إذ وردت على لسان عميد الشرطة، و الشرطي المصاحب، و في حانة النادي، وفي تشبيه قضية خربوش بأسطورة سيزيف، و في عجز الضابط إدريس على فهم الواقع المحيط به. يسخر الخطاب من هذه السخرية لأنها صادرة عن أشخاصغير مؤهلين، وعن محيط ثقافي متخلف. ينعي الخطاب غربة الفلسفة. النضال السياسي والثقافي، المتمثل في شخصية الأستاذ عبد الفتاح، الذي يرمز إلى الحركة الطلابية والثقافية مجسدة في ترديد أشعار ثورية أو عرض أفلام وقراءتها من زاوية إيديولوجية شيوعية على الخصوص، وفي اعتبار السينما من المنظور اللينيني أقوى وسيلة فنية للتأثير على الجماهير وتوجيه اختياراتهم. وفي هذا تكريم لفترة السبعينات من القرن العشرين وإدانة حركة القمع والاعتقالات التي طالتها. في هذا الصدد كان الخطاب الفيلمي واضحا، إذ يهدى في جينيريك النهاية فيلمه إلى روح المناضل عبد الفتاح الفكهاني وروح سعيدة المنبهي وروح الشيخة منانة خربوشة, حماية التراث والثقافة الشعبيين المجسدة في العيطة أساسا وفي فن عبيدات الرماة. يدعو الفيلم إلى البحث في التراث وتدوينه وإعادة الاعتبار إليه. في الفيلم إحياء التراث، انتصار لقيم الجمال والحب والشهامة. تجسد الآلة البكماء والشيخ الأخرس، والعيساوي التائه حالة التراث الحاضرة، حالة الإهمال والتهميش. ويجسد تحرر الشيخ والشيخة وصرخة الآلة استحضارا للماضي بكل نبله وقيمه واستنباتا له في الحاضر السلبي. التقابل بين المركز والمحيط، بين العاصمة مجسدة في اسمها وفي شخصياتها المهمة، وبين المدن الصغرى الهامشية مجسدة في خريبكة. يعتبر الفيلم نوعا من الفضح والإدانة للعلاقة غير السوية التي تجعل المحيط في خدمة المركز ( قصة الكولونبل المخمور، والشخصية المهمة ). من كل ما تقدم يتضح أن موقف الخطاب الفيلمي يتوزع بين الدفاع عن الفكر، وتكريم النضال السياسي والثقافي، والانتصار لقيم الحب والفن والجمال، وتعميق الإحساس بالهوية والامتداد التاريخي، واستعادة الروح الضائعة. إلى أي حد توفق الفيلم في الإقناع بمواقفه وقضاياه؟ وما درجة تأثيره على متلقيه؟.هل تحقق الإمتاع المنشود؟.. أسئلة تخرج عن دائرة اهتمام هذه المقاربة، وتبقى مفتوحة أمام القراءات والتآويل الممكنة.