إن عنوانا كهذا العنوان يحيل إلى أنني سَأعطيك وصفة سحرية تُحولك من إنسان عادٍ، عامي وتافه، إلى فيلسوف عظيم ومفكر، وهذه الوصفة مأخوذة من كتب رائد التنمية البشرية الدكتور إبراهيم الفقهي، وستعتمد هذه الوصفة على مدى استيقاظك في الصباح الباكر والتزامك بطي فراشك، والأهم من هذا كله شُربك للحليب باعتباره غذاء متكاملا. اعذرني يا صديقي لأنني لا أنوي تقديم كل هذا. وإنني سأكون تافها وغبيا إن قلت لك إن الفلسفة فعل مكتسب ويمكن لأي كان أن يتفلسف. إن الفلسفة شيء تعيشه دون أن تختاره ولا ترتبط بفعل ستقوم به لتصبح من خلاله فيلسوفا، بل بمدى مقدار تذوقك للألم الوجودي الذي يتجرعه المغضوب عليهم كل يوم وبمدى إحساسك المازوشي بعبثية القدر. تعال معي لترى ما الذي يقوله فيلسوف اشتهر في تاريخ الفلسفة بأنه فيلسوف تشاؤمي، بل وأنه كان مربيا لفيلسوف عظيم آخر ألا وهو نيتشه والمؤلف لكتاب "شوبنهاور مربيا"، يقول شوبنهاور في كتابه العالم كإرادة وتمثل "إن التفكير في الألم وفي بؤس الحياة لهو الدافع الأكبر للتفكير الفلسفي". إن هذه القولة تحيل إلى الدافع الأول للتفكير والتفلسف. ستجد هذه القولة في كتابه المعنون بالعالم كإرادة وتمثل، وستجد كذلك هذه القولة بالذات في نص صغير في الكتاب المدرسي المخصص لتلامذة الجذع المشترك في مادة الفلسفة، هذا النص يأتي كدعامة لدرس الدهشة المنضوي تحت محور لماذا التفلسف؟ لم يكن اختيار هذا النص عبثا ولا بشكل اعتباطي ولكنه يعكس بحق الخطوة الأساس التي يمكن أن نفسر بها فعل التفلسف. فالدهشة كأول فعل يقوم به الإنسان تجاه أي فعل غريب بالنسبة له. هذه الدهشة هي التي تفصل منذ البدء بين الإنسان العادي والإنسان الفيلسوف. فالشخص العادي يقوم برد فعل سيكولوجي يتجسد إما في تقديس الغرابة بأن يُرجعها إلى قوى خارقة مخالفة للمنطق فيكثر بذلك من التسبيح والتهليل، وإما سيقوم بالتبخيس بجعلها شيئا غير قابل للتصديق وبأنها شيء لا عقلاني. هاهنا يصبح الإنسان العادي في قمة العقلانية، لأن ما رآه يخالف نسقه القدسي ويعارض منظومته التعبدية. إلا أن الإنسان الفيلسوف يندهش اندهاش الطفل الذي يعقب دهشته بسؤال. إن الإنسان الفيلسوف لا ينتظر الغرابة ليعبر عن دهشته، لكنه بفعل عدم اقتناعه بالجاهز يُسائل البديهي والمعتاد، الذي يعد بالنسبة للجميع شيئا عاديا لا يستحق حتى التفكير. فموضوعات من قبيل الحياة والموت والتفاوت الطبقي والظلم والشر والاستعباد والخير، كلها مواضيع لا يُقيم لها الانسان العادي وزنا ولا يفكر بها، بل إنه لا يستطيع حتى مُساءلتها. لكن وجب علينا طرح سؤال قبل أن نسترسل في القول، ما الذي يجعل الإنسان الفيلسوف يندهش ليتسائل؟ بمعنى آخر ما الذي ميزه عن الإنسان العادي الذي ارتاح للجواب العادي القائم على ردود الفعل السيكولوجية. إن الجواب في نظري هو مدى الإحساس بالألم والوعي به. وهذه هي النقطة الأساس التي يجب أن نفهمها جيدا وهي مسألة الوعي بالألم. فهذا الوعي هو الذي يزيل تلك الأجوبة السيكولوجية المتمثلة في التقديس أو التبخيس وهو الذي يفتح ذهن المرء ويجبره على السؤال. فالفقير، مثلا، الذي يتجرع دائما وأبدا مرارة وألم فقره، واجب عليه أن يكون ماركسيا، أي أن يفكر من خلال انتمائه الطبقي الذي يفرض عليه أن يفكر في أصل الفقر والتفاوت الطبقي، ويعيد طرح سؤال لينين: ما العمل؟ من أجل أن نعيش متساوين ودون تفاوت ولا ظلم. لكن هذا الفقير بالذات إن غَيّب الوعي والتفكير، فإنه سيستنجد بالله الذي سيطلب منه أن يعوضه في الدار الآخرة ما لم يَمتلكه في الحياة الدنيا، وسيُنسج بعد ذلك قصصا على أن الأغنياء يعيشون التعاسة والحزن بسبب مالِهم، وسيردد على مسامعك القولة الشهيرة: "لا تغُرنّك المظاهر". إن الفرق هاهنا بين الفقير العادي والفقير الفيلسوف هو فرق بسيط يتمثل في الوعي بمدى الظلم والألم الذي نتجرعه من جراء أخطاء وتقسيمات لم نخترها ولم نتدخل فيها، بل فُرضت علينا بدون سابق إنذار. بعد الدهشة التي تكون بمثابة العتبة الأولى للتفكير الفلسفي، يأتي دور الشك، وهو عملية أساس تكون بمثابة فعل الهدم الذي يَلزم من أجل تشييد أي بناء جديد. فالشك هو عبارة عن عملية نَفي لأي شيء غير واضح وبديهي كما يقول ديكارت. غير أن الأوساط المعرفية تُدخل الشك في مأزق ميتافيزيقي أكثر منه معرفي حين تُقسم الشك إلى شك مذهبي وشك معرفي. فتدخل بهذا في نِيّة الممارس لفعل الشك. فالشك هو فعل هَدم، يقتضي البحث عن الحقيقة، لا فعل تمويه يعمل على تبرير الحقيقة. فلا وجود لتقسيم للشك إلى مذهبي ومعرفي لكنه فعل واحد يقوم به كل صادق شجاع لا يخاف لَومة لائم. إن الشك في نظر الإنسان العادي نوع من التهديد للقائم وضرب صريح لسلطة المعتاد. فالشك مرادف للكفر والإلحاد في ثقافتنا العربية لأن أي شك هو في نظرهم شك في الذات الإلهية وشك في الإسلام. غير أن الشك فعل بريء فهو يريد فقط إعادة طرح السؤال من أجل إعادة بناء الجواب. بعد الشك الذي يعد خطوة صعبة وجريئة تتطلب كثيرا من الصبر والصدق والشجاعة، يأتي دور السؤال والبحث والمساءلة التي تحمل بيدها مطرقة تُدمر بها كل صنم أُعتقد أنه صورة الحق المطلق. إن عملية السؤال هذه تستلزم كثيرا من البحث والقراءة والتواضع. إن السؤال هاهنا يكون بمثابة المصباح الذي يضيء طريق بحار في عتمة الليل، فالبحر هو الحياة المظلمة المليئة بكل شيء، ففيها الصواب والخطأ وفيها الكذب والصدق وفيها الشر والخير، فيها كل شيء، لكنها مظلمة لأن فعل الشك أطفأ كل الأضواء الزائفة وجعلنا أمام الظلمة، فلا يوجد أحد ليرشدك إلى الطريق سوى عقلك والسؤال هو العاكس لمدى عظمة عقلك. إنني لن أستطيع ايقاف قلمي بخصوص هذا الموضوع ما لم أُجبره اضطرارا على ذلك. لكن ما يمكن أن أختتم به هذه المقالة هو أن الفيلسوف ليس شخصا غريبا، ولا هو كائن قرأ جُلّ ما يوجد في المكتبات. ولكنه في نظري إنسان يتألم ويعي ألمه ويفكر فيه وفي سبل تغييره. *استاذ الفلسفة الدارالبيضاء [email protected]