بعد خطاب أجدير ظنَّ الكثيرون أنَّ الوقت حان لإعادة بناء الهُوِّية الأمازيغية على أسُسٍ منطقية وَوَاضحة. ثم اندلع الربيع المغربي فنتج عنه دستور 2011، اتضح أنه لِباس على غير مَقاس، بالنسبة إلى الأمازيغية على الأقل، إذْ لم تمر أكثر من سنتين عن صدوره حتى انهارت كل مكتسباتها، على الخصوص، في مجال التعليم. كان ذلك كارثة لأن التعليم هو الطريق المَلَكي لنقل الحضارة الأمازيغية من الشفوي إلى الكتابي، وبالتالي ضمان الحفاظ عليها وانتقالها من جيل إلى جيل. لقد اعترض العروبيون قائلين: إدراج الأمازيغية في الدستور خطر، والحقيقة أن هؤلاء كانوا يوَدُّون أن تنفرد اللغة العربية بالمستوى الدستوري، أن يبقى الشأن العام مُسيَّراً وخاضعا للغة العربية وللثقافة العربية وللنص العربي. يجب أن تبقى الأمازيغية مُبعدة عن الدستور ليسهل التعاطي معها سياسيا. وشاء الضغط الكبير للشارع آنذاك أن لا يُحققوا أغراضهم، إذ تمت دسترة الأمازيغية لغةً رسمية للبلاد. لكن تلك الدسترة كانت ملغومة، مُطوَّقة بشرط القانون التنظيمي، لذا فدستور 2011 بالنسبة إلى الأمازيغية هو دستور ممنوح، دستور لا هو تكريس للرغبة الملكية التي عبر عنها في خطاب أجدير، ولا هو تحقيق لِما حلم به الأمازيغيون، أي الدفع بالأمازيغية نحو طفرة هائلة على كل الأصعدة. كانت العملية كلها، في العُمق، احتيالاً، إذْ جعلت العروبيين يَسْتعيدون الهيمنة التي سُلبت منهم، بالضبط، منذ خطاب أجدير. نتج عن ذلك إرجاع الأمازيغية إلى خانة الأصالة وتطويقها بما يلزم حتى لا تنتقل إلى خانة الحداثة، خصوصا على مستوى اللغة: من هنا نفهم إخفاق تبنِّي الحرف اللاَّتِينِي في رسم اللغة الأمازيغية. إلزام الأمازيغية بمنطق الأصالة هو جعلها تكتفي وتفتخر فقط بتُرَاثِها، أي بالرِّواية الرسمية لماضي الأمازيغ، رواية فوقية دائمة ونهائية لا تحتمل أي نوع من النقاش. من تجرأ على ذلك رُمِيَ بالنزعة الانفصالية وزَرْع الفتنة. ترويج الأمازيغية عبر التعليم والإعلام يجب ألاَّ يخرج من هذا الحيِّز. مهمة هذا الترويج قابلة للتفويض لمن هو تحت نظر المخزن العروبي. بهذه الطريقة تنشأ هيئات أمازيغية خاضعة ومسلوبة الإرادة، إذ لا تعْدُو أن تكون سوى وسائل مؤسساتية صورية لضبط وزجر كل مطلب أمازيغي طموح، ولترويض ضمائر وإضعاف عزائم من يُقدِّمون ذلك المطلب. منع الانتقال الحداثي للأمازيغية هو تحريم أي تدخُّل لها في مجال تدبير الوسائل والهياكل التي هدفها الإعمار، استغلال الخيرات الطبيعية، تنظيم وتأهيل اليد العاملة، رفع مردودية المال المُستثمر والجهد المبذول، الخ... اللغة العربية يجب أن تبقى وحدها هي الساهرة على تسيير هذه المصالح. من هنا حساسية إمكانية أن تغزو الأمازيغية الحكومة والبرلمان، إذْ على هذين المستويين يتمُّ، بالتتابع، تدبير ومراقبة تسيير المصالح المذكورة. الأمازيغية، في أحسن الأحوال، يجب أن تبقى مُلحقة بالعربية، التي هي لغة النظام والحُكم. الحكومة هي مجلس إدارة "شركة المغرب" ويجب أن تبقى العربية هي سيدة الموقف فيها. إنْ تراجعت فيها فقدَت، في الآن ذاته، كل الثروات، واندحرت، في المآل، أيديولوجيتها. والبرلمان بِما أنه يُراقِب الحكومة، فلا يمكن السماح بأن يراقبها بلغة غير اللغة العربية. ماذا يتبقَّى؟ يتبقَّى أنه يمكن، حسب مستوى الضغط الوطني والدولي، إدخال الأمازيغية إلى البرلمان والحكومة، لكن بشروط، أي كمُنافسة للغة الفرنسية وليس كمزاحمة لمن هي فوق، أي اللغة العربية. لكن هذا مَكْرٌ، إذْ نتيجته النهائية هي إدخال الأمازيغية في معركة غير متكافئة مع الفرنسية، ستنتهي حتما بسحقها. واضح الآن أن القوانين التنظيمية للأمازيغية ستحكمها آلية عامة هي آلية التطويق بالأصالة: تطويق شامل ودائم، مرة من فوق، ومرة من تحت. تتفرع عن تلك الآلية بالضرورة تطويقات لاحقة متنوعة، مؤقتة ومشروطة. كل تطويق لاحق يتمُّ في صورة ترخيص حذر للأمازيغية بولوج دائرة رسمية مُعيَّنة. لا أمل في ترخيص شامل لأنه يُعاكس التطويق الشامل. يبدو اليوم جَليّاً أن دستور 2011 لم يستطع تحقيق القطيعة التي تمنَّاها الأمازيغيون مع اللَّعنة التي لاحقت لغتهم منذ دخول الإسلام إلى المغرب. لو أدركوا مُبتغاهم وحُرِّر الدستور بذلك المنطق لما سمَّيناه دستورا مَمْنوحا، بل لكان أول دستور بالمعنى الكامل للكلمة، ولتمكنَّا بواسطته من تحقيق قفزة سياسية واجتماعية وثقافية هائلة إلى الأمام. لكن ما حصل هو العكس، عُدنا إلى الوراء، نجحت الثورة المُضادَّة وسَحقت مُكتسبات الامازيغية بالكامل. لهذا، فبعد أن مرَّ على صدور الدستور المَمْنوح أكثر من سبع سنوات، أصبح الأمل تقريبا مُنعدما، وأصبحنا مُجبرين على العودة إلى المُنطلق، واستئناف العملية الأمازيغية من الصِّفر.