غالباً ما يطرح هذا السؤال: هل المسيحية رسالة توحيدية أم بها التعدد؟ وغالباً ما يجيب الذي وجه له السؤال، بأنها رسالة توحيدية بثلاثة أقانيم (الأب والابن والروح القدس)، فهل هذا جواب فيه إشباع للسائلين؟ ذلك ما سنحاول أن نجيب عنه ونبينه في هذه الورقة المجتزأة، التي ندافع من خلالها ونؤكد أن المسيحية رسالة توحيدية وليست رسالة تعددية. إن البحث في المسائل الإلهية والروحية من أصعب المواضيع التي يمكن أن يتناولها العقل البشري؛ ذلك لأن الطبيعة الإلهية تختلف تماماً عن الطبيعة البشرية أو الطبيعة المادية، لكن العقل لا يستطيع أن يتوقف عن البحث حتى فيما يتجاوز الواقع الذي نستشعره بحواسنا، أي وجود الله، الإنسان أيضاً لا يستطيع التوقف عن البحث والتخمين في خلاصه الوجودي، لأن جرحه يبتدئ هنا بالمعرفة الأولى، معرفة السقوط ومآلاته، فما نعلمه كبشر هو تاريخ للخطية، ولا نعرف تاريخنا ما قبل الخطية؛ لذلك ترانا نسعى إلى البحث عن الفردوس paradise المفقود. إن الغرض من هذه الدراسة التي هي امتداد لمدخل عنواننا الفرعي "المسيحية ليست دينا وإنما رسالة"، وهي في الأصل تتمة لبحثنا الحامل لعنوان "البحث عن الله"، فلسنا في حاجة إلى إثبات وجود الله؛ ذلك لأن الله يعلن عن وجوده في مخلوقاته بما لا يدع مجالاً للشك، فالنبي داوود يقول: "السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه يوم إلى يوم يذيع كلاما وليل إلى ليل يبدي علما" (مزامير داوود 19: 1)، ورسول يسوع المسيح بولس يقول:"إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى إنهم بلا عذر" (19: 1)، أما الإنسان الذي ينكر وجود الله، فقد وصفه الكتاب المقدس بأنه جاهل، فمكتوب: "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مزامير داوود 14: 1). لنلاحظ دقة الوحي الإلهي في إسناد إنكار وجود الله إلى القلب لا إلى العقل؛ ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن ينكر وجود الله بعقله، لأن العقل يبحث في الأسباب والعلل وإذا تتبع الإنسان بعقله سلسلة العلل الفاعلة لا بد وأن يصل إلى العلة الفاعلة الأولى أو واجب الوجود كما يقول القديس "أنسليم" والفيلسوف الإسلامي "إبن رشد"، أي الله تبارك اسمه إلى الأبد، والحكمة من إسناد الإنكار إلى القلب هي أن القلب يعتبر مركز العواطف فعندما تنحرف تلك العواطف إلى الفساد والنجاسة، يتهرب الإنسان عمداً من حقيقة وجود الله بالإنكار بقلبه ليخدر ضميره الذي تلوث بالخطيئة والإثم حتى لا يبكته ويؤنبه فيتوب ويرجع إلى الله، لأن الضمير هو صوت الله في البشر، حسب التعبير الرسولي. ليس لي أن أثبت وحدانية الله هنا، فالأمر واضح بالكتاب المقدس لكل ذي عين بصيرة، ولكل ذي ذهن فهيم وضوح الشمس في كبد السماء، فعقيدة التوحيد تعتبر من أروع وأعظم وأمجد الحقائق الإيمانية التي بنيت عليها المسيحية عكس ما يقوله المعترضون، ولا عجب فالكتاب المقدس في كل أسفاره بالعهد القديم والجديد يعلن عن وحدانية الله بكل وضوح وجلاء، كما أن آباء الكنيسة في القرون الأولى تسلموا هذا الحق من رسل المسيح وسجلوه في كتاباتهم، التي ترجع إلى القرن الأول إلى حدود القرن الرابع للميلاد، ومن ثم تمسك المسيحيون عبر العصور والأجيال بهذا الحق الثمين وسلموه لنا مصونا محفوظا. وفي سبيل ذلك تجرعوا كافة أصناف العذابات والاضطهادات المريرة من الأباطرة الرومان الذين أصدروا قرارات بإبادة المسيحيين في كل الإمبراطورية الرومانية لرفضهم السجود والتعبد لغير الله الواحد الحي، مما عرف في التاريخ بعصور الاستشهاد المسيحي، وفي مواجهة الهراطقة وضع الآباء المجتمعون في مجمع نيقية سنة (325 م) وعلى رأسهم الشاب النابغ النابه اللامع ابن مصر القديس "أثناسيوس"، الذي لقب بحق بالرسولي، قانونا للإيمان المسيحي يبدأ بالعبارة الرائعة الساطعة التالية: "نؤمن بإله واحد..."(النص العربي) "credimus in unum deum" (النص اللاتيني) هذا القانون يردده المسيحيون كافة في أرجاء المسكونة في صلواتهم ليس بأفواههم فقط بل بكل قلوبهم، قائلين: "بالحقيقة نؤمن باله واحد..."، لكن الكاتب المصري يوسف زيدان، مثلاً، يقول إن المسيحيين يؤمنون بالتعدد في كتابه "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، وهنا سنحاول في هذه الدراسة أن نعطي بعض الشروح ونبين أن كل الاعتراضات التي كانت ضد المسيحية بخصوص التعدد واهية ولا قيمة علمية لها، سواء عند أمثال يوسف زيدان أو غيره من الكتاب المشككين في وحدانية الرسالة المسيحية. أولاً: الله الأب في المسيحية لدراسة العلاقة بين الاٌقانيم الثلاثة، ينبغي البدء بالأقنوم الأول (الله الأب). إن مفهوم الله الأب في الرسالة التبشيرية المسيحية يختلف عن مفهوم الله في بعض الأديان التي تدعي الوحدانية. - إن وجود الله الأب لا يعني وجود إلهين آخرين إلى جانبه بأسماء "الابن" و"الروح القدس". - إن وجود الله الأب لا يعني أن الأب هو أحد مظاهر "الله" الثلاثة، ولكن الإله الواحد قائم بثلاثة أقانيم، الأب والابن والروح القدس. - وجود الأب يفترض وجود الابن، ووجود الأقنوم الأول يعني أن هناك أقنوما ثانيا وثالثا. - الاصطلاح "الأب" يعني وجود عدة علاقات رئيسية ضمن جوهر الله الواحد. سوف نتناول هنا معنى أبوية الله، ثم الإثبات لألوهية "الله الأب" ثم وظائف "الله الأب". 1 - معنى أبوية الله يشير الكتاب المقدس إلى أن الله بأقانيمه الثلاثة له صفة الأبوية العاملة لكل الخليقة، فهو "أبو الأرواح" (عبرانيين 12: 9) و"أبو الأنوار" (يعقوب 1: 17) وتدعى الملائكة "أبناء الله" (تكوين 6: 4 أيوب 1: 6 أيوب 2: 1 أيوب 38: 7)، مذكور أيضاً آدم كرأس النسب البشري، هو "ابن الله" (لوقا 3: 38) أيضاً مكتوب بملاخي (2: 10) "أليس أب واحد لكلنا؟ أليس إله واحد خلقنا؟" وقال الرسول بولس أيضاً إلى جمع أهل أثينا "نحن ذرية الله" (أعمال 17: 29) فكل من هو مخلوق هو ملك الله. مع أن الآيات السابقة تشير إلى الثالوث، إلا أنها تنطبق بشكل خاص على الأقنوم الأول "الله الأب"، يقول الرسول بولس إنه من الأب تسمى كل أبوية على الأرض (أفسس 3: 14 - 15) و"لنا إله واحد الأب الذي منه جميع الأشياء ونحن له" (كورنثوس الأولى 8: 6) 2 - أبوية للشعب القديم، الشعب الإسرائيلي. علاقة الله مع الشعب القديم معبر عنها بعلاقة الأب مع ابنه، فهو الذي خلق الشعب القديم واعتنى به كعناية الأب بابنه، لذلك يقول "إسرائيل، ابني البكر" (التثنية 4: 22) "وفي البرية حيث رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في الطريق التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان" (التثنية 14: 1)، "لما كان إسرائيل غلاماً أحببته ومن مصر دعوت ابني" (هوشع 11: 1)، ترى أيضاً العلاقة الأبوية في تعبير الله عن محبته لداوود الذي اختاره ليكون ملك إسرائيل من بيته "هو يدعوني أبي أنت" (مزمور 89: 26)، وامتدت هذه العلاقة إلى ابن داوود سليمان "أناً أكون له أباً وهو يكون لي ابناً" (صمؤيل الثاني 7: 14)، ويعبر شعب إسرائيل عن علاقته مع الله بنفس الأسلوب "فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا إبراهيم، وإن لم يدرنا إسرائيل، أنت يا رب أبونا وليًنا منذ الأبد اسمك" (إشعياء 63: 16) "والآن يا رب أنت أبونا، نحن الطين وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك" (إشعياء 64: 8). 3 - أبوية لكل المؤمنين كون الله أب للجميع على أساس أنه خالقهم يختلف عن أبوته لأولاده المؤمنين به، أبوية الله عن طريق الخلق مرتبطة بأبويته عن طريق الولادة الجديدة (مثال نيقوديموس)، الأولى تتعلق ببعث الحياة لبدأ الوجود المادي، والثانية تتعلق ببعث الحياة لبدء الوجود الروحي، فأب الكل يدعو الجميع حتى يصيروا أولاده بالولادة من فوق، وهذه دعوة من الله حينما يصرح الكتاب "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بدل ابنه الوحيد (uniq) لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (إنجيل يوحنا 3: 16)، وأيضاً "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه" (إنجيل يوحنا 1: 12). الولادة الروحية في المسيحية هي سر يقوم به الله لكل من يأتي إليه عن طريق الإيمان (إنجيل يوحنا 3: 3 إنجيل يوحنا 8: 24 إنجيل يوحنا 14: 6)، فقبل ذلك يكون الإنسان ميتاً روحياً وينال التبني بالولادة الروحية (إنجيل متى 5: 16 رسالة رومية 8: 29،16 رسالة يوحنا الأولى 3: 1 - 2)، فقد شدد المسيح على أبوية الله الأب بحيث إن عدد المرات التي تكررت فيها كلمة "أب" في الأناجيل تساوي أكثر من ضعف عدد تكرارها في بقية العهد الجديد (283 مرة في الأناجيل الأربعة و107 مرات في بقية العهد الجديد)، لكن في كل هذا كان تأكيد المسيح أن أبوية الأب للمؤمنين تختلف عن أبويته له، فهو مساو للأب في الجوهر، فيمكن توجيه الصلاة لله الأب باسم يسوع المسيح (إنجيل متى 6: 23 إنجيل يوحنا 17:11، 25). 4 - أبوية للرب يسوع المسيح لقب "الأب" ينطبق بشكل خاص ومحدد على الأقنوم الأول في علاقته مع الأقنوم الثاني (إنجيل يوحنا 1: 14، 18 إنجيل يوحنا 5: 17 - 26 إنجيل يوحنا 8: 54 إنجيل يوحنا 14: 12 - 13) فالاصطلاح "الله أبو ربنا يسوع المسيح" هو اللقب الكامل للأقنوم الأول في الثالوث (رسالة رومية 15: 6 رسالة كورنثوس الثانية 1: 3 رسالة كولوسي 1: 3 رسالة بطرس الأولى 1: 3). ستتم الإشارة لاحقاً إلى أنه قد يكون مصطلحا "أب" و"ابن" تشابه بشري anthropomorphic كونهما أقرب ما يعبر للعقل البشري عن علاقة الأقنومين دون أن يفهم من ذلك أنهما غير متساويين في الألوهية، فعلاقة الأقنوم الأول بالثاني هي منذ الأزل علاقة الأب بالابن بتمييز عن علاقة الأب بالخليقة، هذه العلاقة هي سرمدية وغير متغيرة، فالأقنوم الثاني لم يصر ابنا مثلاً بالتجسد أو بالقيامة، وليس هو ابنا باللقب فقط، أو لمدة مؤقتة، أو لهدف معين فقط كالفداء، وليس هناك تراتبية بين الأب والابن، بل هما متساويان في الجوهر. وكما تمت الإشارة إليه سابقاً، إن خضوع الابن للأب هو تطوعي ووظيفي، ويصل ذروته في عمل الفداء حيث الأب يعطي الابن ويرسل الابن، ويسلم الابن ويعد جسداً للابن، والابن يقوم بتقسيم مقاصد الأب إلى أن يصل للصليب (إنجيل يوحنا 3: 16 - 17 رسالة رومية 8: 32 رسالة إلى العبرانيين 10: 5 - 7 رسالة فيليبي 2: 8 المزامير 40: 6، 80) وكل هذا ليس لأن الابن أقل في الألوهية من الأب، بل لأن هذا الخضوع التطوعي مؤسس على علاقة البنوة الأزلية العجيبة بين الأقنوم الأول والثاني، وباصطلاحات المجامع الكنسية الأولى، إن الله الأب لا يولد، بل هو يلد الابن ومنه ينبثق الروح القدس، وكل ذلك أزليا، ولأن انبثاق الروح القدس يكون من الابن أيضاً، فإنه من خصائص الأب التي يتميز بها عن الأقانيم الأخرى هي الولادة الأزلية. 5 - ألوهية الله الأب ليست هناك أية صعوبة في إثبات ألوهية الأب، الآيات التي تم ذكرها أعلاه كافية لذلك، ولكن فيما يلي بعض الفقرات التي تحدد ألوهيته بشكل مباشر "هذا الله الأب..." (إنجيل يوحنا 6: 27) "نعمة لكم من الله أبيناً والرب يسوع المسيح" (رسالة رومية 1: 7) "بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان بل ببسوع المسيح والله الأب الذي أقامه من الأموات" (رسالة غلاطية 1: 1) "نعمة لكم وسلام من الله الأب ومن ربنا يسوع المسيح" (رسالة غلاطية 1: 3) "... المختارين بمقتضى علم الله الأب السابق" (رسالة بطرس الأولى 1: 1 - 2) والآيات والفقرات من هذا النوع كثيرة جداً. 6 - وظائف الله الأب كل أعمال الله هي أعمال الثالوث، ولكن في بعض هذه الأعمال يأخذ الأقنوم الأول الدور المميز. أ - الله الأب هو المخطط الأول لوجود الخلق في المراحل الأولى (كورنثوس الأولى 8: 6 أفسس 2: 10) ب - الله الأب هو المخطط لعملية الفداء التي فيها كان الابن هو المنفذ (مزمور 2: 7 - 9 مزمور 40: 6 - 9 إشعياء 53: 10 رسالة أفسس 1: 3 - 6) ج - في التخطيط لعملية الفداء يأتي دور الأب في الاختيار المسبق (رسالة رومية 8: 28 - 32 رسالة أفسس 1: 3 - 6) د - يقوم الأب بتمثيل الثالوث بكونه القدوس الذي قد تم سلب حقه (مزمور 2: 7 - 9 مزمور 40: 6 - 9 إنجيل يوحنا 6: 37 - 38 إنجيل يوحنا 17: 4 - 7 رسالة رومية 5: 10 - 11 رسالة كورنثوس الثانية 5: 18 - 20 رسالة أفسس 2: 16 رسالة كولوسي 1: 20 - 22). ي - أعد الله الأب المخطط لنهاية الدهور ضمن مقاصده الأزلية للملكوت الأرضي والسماوي ليكون ابنه مركز تتميم هذه المقاصد (أعمال الرسل 1: 7 رسالة أفسس 1: 9 - 10 رسالة كولوسي 1: 25 - 27) ولبلوغ أولاده المجد (رسالة رومية 8: 30). ثانياً: الله يكشف وحدانيته ضمن التعددية في جوهره إن فحص التوراة يبرهن عن وجود تعددية ضمن وحدانية في حديثها عن الله، فمع أن التوراة تقدم تكريساً لوحدانية الله، إلا أن هناك مجالاً واسعاً للتعددية في الجوهر الواحد، وتظهر التعددية ضمن الوحدانية بعدة طرق: - في الإعلان عن الوحدانية المركبة. - في الإعلان عن ملاك الرب - في الإعلان عن أسماء الرب - في استخدام التشابيه البشرية. - في الحديث الإلهي - في الإعلان عن روح الله. 1 - رب واحد "الرب إلهنا رب واحد" (التثنية 6: 4) عبارة الرب واحد ترددت مرات عديدة، وترددت في سفر إشعياء النبي على لسان الله نفسه، كما في إشعياء (43: 10 -11 إشعياء 45: 6، 18، 21 إشعياء 46: 9)، والرسالة التبشيرية المسيحية تنادي بأن الأقانيم الثلاثة إله واحد كما ورد برسالة يوحنا الأولى (5: 7)، وكما ورد في قول المسيح "وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس" (إنجيل متى 28: 19) حيث قال باسم، ولم يقل بأسماء. ولعل معترضاً أو سائلاً يسأل - كيف أن 1 + 1 +1 = 1 فنقول 1 x 1 x 1 = 1 الثالوث يمثل الله الواحد بعقله وبروحه، كما نقول إن الإنسان بذاته، وبعقله وبروحه كائن واحد، وإن النار بنورها وحرارتها كيان واحد. تعلن التوراة "أسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك" (التثنية 6: 4 - 5) (3). إن فحص كلمة "واحد" يعطي معلومات مهمة للموضوع تحت الدرس، فهي تشير إلى أنه ضمن هذه الوحدانية، التي يؤمن بها كل المسيحيين واليهود، هناك تعددية؛ إذ نرى عاملين لتأكيد وتأييد هذا المفهوم، أولاً: أن التثنية (6: 4) تستخدم الجمع "إلوهيم"، فتصير الآية "يهوه إلهنا (جمع) يهوه واحد (مفرد)، ثانياً: إن الكلمة "واحد" هي الكلمة المستخدمة للإشارة إلى التمييز ضمن الوحدانية كما في سفر التكوين (2: 24) "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً". إن الكلمة "واحد" هي نعت مرتبط بالكلمة "يحَد" بمعنى "وحًد"، وبالكلمة "يحيدو" بمعنى "معاً"، وبالكلمة "يحيد" بمعنى "وحَيد"، فمن الواضح أن كلمة "واحد" تشير إلى توحيد عناصر متميزة عن بعضها البعض، وأن اختيار الوحي لهذه الكلمة لتكون ضمن شعار إسرائيل المتكرر، صار للمعنى التحليلي لكلمة "واحد" ضرورياً جداً، حيث إن المعنى اللاهوتي يوضح تفرد الله ووحدانيته من جهة، ومن جهة أخرى التعددية ضمن جوهره الواحد هذا. 2 - ملاك "يهوه" من الميزات الغريبة في الكتاب المقدس (التوراة) هو ظهور ملاك الرب، إن هذا الظهور محاط بسرية عن جوهر الله التي تعكس تعددية ضمن الوحدانية، ومرة أخرى، مفهوم العهد القديم هذا يهيئ للإعلان الكامل عن الثالوث في العهد الجديد. إن ملاك الرب الذي ظهر أول مرة في سفر التكوين الإصحاح السادس عشر، يُعًرف على أنه "يهوه" نفسه (سفر التكوين 16: 13 التكوين 22: 11 - 12 التكوين 48: 16 سفر القضاة 6: 11، 16، 22 القضاة 13: 22 - 23)، وفي سفر التكوين الإصحاح الثامن عشر يدون هذا الإصحاح زيارة ثلاثة رجال لإبراهيم عند بلوطات مرة (قارن التكوين 13: 18 التكوين 14: 13)، وكان القصد من هذه الزيارة التأكيد على تتميم مواعيد الرب بالنسبة لنسل إبراهيم (سفر التكوين 12: 1 - 3 التكوين 15: 17) ومن دون شك تعبر هذه الزيارة عن علاقة حميمية، حيث يريد الرب بنفسه أن يؤكد مواعيده، وكان رد فعل إبراهيم لزائريه يبرهن أنه عرفهم إذ "سجد إلى الأرض" (سفر التكوين 18: 2) كتعبير عن عبادة وتقدير كما بحضارة ما بين النهرين القديمة، ثم توسل إبراهيم من السيد أن يبقى (التكوين 18: 4 - 5) وأسرع في الطلب من سارة أن تهيئ وجبة طعام (18: 6) فركض ليحضر عجلاً (18: 7) وهيأ المائدة لضيوفه (18: 8). ومن الواضح كذلك في النص أن أحد الزائرين يعرف بأنه "يهوه" نفسه (التكوين 1: 18، 20، 22، 26، 33) الذي ظهر لإبراهيم، وصيغة الفعل تشير إلى أن الظهور كان بمبادرة من الله نفسه (قارن سفر التكوين 12: 7) ومرة أخرى مكتوب أنه "ذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم" (التكوين 18: 33)، أما الزائرين الآخرين فيعرفاً بأنهما ملاكان، ولكن من الواضح أنه مع أن هناك ثلاثة أشخاص، إلا أن النص ينتقل من المفرد إلى الجمع باستمرار للتعريف بهم، ولكن في الوقت نفسه يميز بين "يهوه" ورفقائه (قارن سفر التكوين 18: 22 التكوين 19: 1). وإذا انتقلنا إلى الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين، نلاحظ أنه يتكلم عن ملاكين (19: 1) المُرسلين من قبل الله (19: 13) ولكن النص العبري يقدم لوط متكلما مع الاثنين بالمفرد (19: 18، 19، 21). هذا فيما يخص هذا الإصحاح، لكن بالإصحاح الثاني والعشرين يتحدث عن الملاك الذي يتكلم مع إبراهيم كأنه فم الرب وفي الوقت نفسه كأنه الرب نفسه، واعتبر إبراهيم هنا أن لقاءه كان مع "يهوه" نفسه (التكوين 22: 14). بدون شك قد قرأنا وتأملنا في النص الذي يقول بمصارعة يعقوب لرجل (التكوين 32: 24 - 30) ولكن في الوقت نفسه يعلن "نظرت الله وجها لوجه" (التكوين 32: 30) ويظهر سفر الخروج أن ملاك "يهوه" ظهر لموسى (3: 2)، ولكن يعرفه أيضاً في (3: 4) بأنه "يهوه" وأنه "إلوهيم" - "فلما رأى الرب (يهوه) أنه مال لينظر ناداه الله (إلوهيم) من وسط العليقة" *باحث في مقارنة الأديان عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية MADA.