حين يتكلم القرآن عن فرعون فهو لا يقصد به الفرعون بيبي الثاني الذي عاش في الألف الثالثة قبل الميلاد وحكم 94 سنة (2278—2184)، بمعنى تاريخي، بل كان جل تركيز القرآن على النموذج والصفات؛ وفي آخر سورة هود التي شاب منها وأمثالها تأثرا رسول الرحمة "ص" حين لمح بعض الصحابة خصلات من الشيب في شعره فسألوه عن السبب، قال "شيبتني هود وأخواتها". هذه السورة تحمل اللعنة لفرعون وجيل كامل معه، بسبب أنهم زرعوا الفساد في البلد؛ فحق عليهم سوط عذاب..يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود، وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود. ولذا كان من الضروري أن ننبته إلى "الظاهرة الفرعونية" إن صح التعبير؛ لأنها قابلة للتكرار، وهلاك المجتمع من خلفها. وإذا قمنا بهذا القياس الذكي فإن الوطن العربي مترع في أقسام كبيرة منه بهذه الظاهرة، فهو اليوم يعبد الوثن، ويتبع قيادات فرعونية، ويقيم الأصنام، حتى لو رفعت راية الإيمان، وبكت على الحسين، وضربت نفسها بالسلسال والشاقور، وارتدت العباءة، ورفعت المصحف، وأنشأت معهد تحفيظ القرآن لتخريج آلات صماء ليست للفهم. ينقل عن الإمام محمد عبده أنه إذا قيل له فلان أتم حفظ القرآن أنه كان يقول زادت نسخ القرآن نسخة؛ فالرجل كان يعرف تماما أنه ليست ثمة آية واحدة تفيد الحفظ، ولكن في 84 موضعا تأكيد على الفهم والتدبر أم على قلوب أقفالها. ومن دافع بضراوة عن طاغية الشام (البراميلي) كان عالم دين ومفتي، وهو أمر معروف ومكرر منذ أيام الفرعون بيبي الثاني، ومملكة أور وأوروك، فقد كان رجل الدين والجلاد بجنب الطاغية دوما، الأول يجلد ويقطع الرقاب مصدرا للرعب الأبدي، والثاني إعطاء الفتوى والمشروعية حسب المقاس، وبقدر دفعة المال والنفوذ. نحن نعرف من سحرة موسى أنهم حين تم استقدامهم إلى صالون فرعون سألوه المال أولا؛ فقال اطمئنوا ومعها النفوذ: أئنا لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذن لمن المقربين. ولعل الصفة الثانية أهم من الأولى لأنها تفتح الباب عريضا لمال لا ينتهي. ولو نظرنا في آخر سورة "التوبة" لراعنا منظر مسجد يهدم لأنه يتم من جوفه حبك المؤامرات، ما دعا نبي الرحمة "ص" أن يهدمه ولو كان مسجدا. (اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون)؛ فالعبرة ليست في الشعارات بل الحقائق. ولو نظرنا في التاريخ لمزيد من الفهم في الظاهرة الفرعونية، كما هو الحال في أصنام مثيرة حية وميتة في العالم العربي، بل والعالم، لراعتنا النماذج. لنبدأ من الاتحاد السوفييتي الذي دفن بدون جنازة؛ ففي 25 فبراير 1956 م في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي استهل خروتشوف خطابه بهذه الفقرة: "إنه من غير الجائز ومن الغريب عن روح الماركسية اللينينية أن ترفع شخصاً واحداً وتحوله إلى سوبرمان يملك صفات غير طبيعية مماثلة لصفات إله يعرف كل شيء، ويرى كل شيء، ويستطيع أن يصنع كل شيء، ويفكر عن الجميع، ويكون معصوماً في سلوكه". أما ستالين فكان يجمع في شخصه أنه "أعظم فلولوجي، أعظم اقتصادي، وأعظم مؤرخ، وهو قائد الإنسانية العبقري، وأعظم قائد عسكري في جميع الأزمنة والأمم، وهو قائد الطبقة العمالية في كل مكان، وقائد الإنسانية التقدمي، والزعيم المعصوم، وأكبر عبقرية عرفتها الإنسانية"، في الوقت الذي كان يرسل إلى معسكرات الاعتقال سبعة ملايين إنسان ويقتل ما لا يقل عن نصف مليون، وفي عام 1938 م كان يعدم من نخبة المجتمع السوفيتي (الأدمغة) في وجبة واحدة كل يوم ألف إنسان في موسكو، وتمت طباعة ما لا يقل عن 600 كتاب عن قدسيته بين عامي 1946 و1952 ووزعت منها عشرون مليون نسخة؛ ما جعل المؤرخ الماركسي "ميديفيف" يقول إن ستالين "عمل على خلق دين اشتراكي. أما إله ذلك الدين الجديد الكلي القدرة الكلي المعرفة الكلي القداسة فكان ستالين نفسه". وينقل "نديم البيطار" في كتابه من "التجزئة إلى الوحدة"، عن كتاب "دع التاريخ يحكم" لمؤلفه "كوالاكوفسكي" أنه: "ليس هناك بين طغاة ومستبدي الماضي من اضطهد ودمر عدداً كهذا من مواطنيه". أما ماوتسي تونغ في الصين فينقل البيطار أنه قد حلت صوره محل صور الآلهة القديمة، وأعلن مجلس السوفيات البلدي في بكين: "في السابق عبدنا كوان لينج الذي قيل فيه إنه كلي القدرة، أين قدرته الآن؟ من يجب أن نعبد؟ يجب أن نعبد الرئيس ماو؟". أما الشعراء فقد وصفوه بأنه لو كان في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدها من بعده سبعة أبحر من المداد لعجزت عن كتابة آيات حسنه وكماله.. "من الممكن استنزاف جميع كلمات المدح في العالم، ولكن هذه الكلمات لا تستطيع التعبير عن حكمتك وعظمتك..يمكن استنزاف جميع أناشيد العالم ولكن هذه الأناشيد لا تستطيع التعبير عن صفاتك ومنجزاتك الكبيرة". وتقريباً في كل بلد عربي تحظى بعبادة الأشخاص صور شاهقة بألوان فاقعة تنفق عليها حكومات، ونخب تمد يدها إلى آخر قرش من جيب مواطن مفلس، تطل عليك من الميادين بثالوث جديد من مركب الأقانيم، الذي تورط فيه الفكر الكنسي بدون نص واحد من الإنجيل. وجاء الإسلام لسحب كل مظاهر الألوهية من البشر، وإعادتهم إلى خانة البشر الذين يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ويموتون؛ فلا يحظى أحد بالأبدية، وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين. ومنه حرم الإسلام الصور والأصنام وما أهل لغير الله به من التعظيم والشعارات والهتافات، ولكن كما يقول الفيلسوف محمد إقبال "تبدل في كل حال مناة...شاب بنو الدهر وهي فتاة"، وهكذا نفخت الحياة في مفاصل اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ما يجعل أبو لهب مستريح العظام في قبره، ودخلنا عصر الوثنية السياسية بكل قوة، وطلقنا التوحيد ثلاثاً لا رجعة فيها. يذكر الكاتب والصحافي الألماني "بيتر شول لاتور" أنه زار سوريا عام 1982 حين كانت مدينة حماة تدك بالمدفعية والطيران ويقتل من سكانها أربعون ألفا من الأنام؛ طالعته في الساحة العامة صورة الرئيس الوحش (الأسد) بحجم هائل، تطل من علياء. قال الرجل يرحمه الله الذي مات من فترة قصيرة تاركا خلفه أكثر من تسعين كتابا: أدركت يومها لماذا حرم الإسلام الصور؛ أما نحن فلا نصل إلى هذا الفهم ولو جاءتنا كل آية. في بعض أماكن الجنون الديني يحرمون صور الهوية وذكريات الجامعة ومناسبات الخطبة في فهم سقيم لآلية عمل النصوص. نحن حرمنا الموسيقى والغناء مطلقاً بدون نص واحد من القرآن والسنة، ولم نستوعب أنه تعبير عن وضح الحضارة تألقاً أو تفسخاً. نحن نشترط "المحرم" ولو كان فيه كل العنت والإرهاق ولا نفهمه ضمن آلية "الأمن"، وأننا يجب أن نخاف في وسط مغلق متشدد على الصبي قبل المرأة، ولو في خطوات إلى المدرسة، مقابل الأمن للمرأة بسفر عشرة آلاف كيلومتر إلى كندا، وأن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، حيث دارت. وكتب ابن رشد بحثاً جميلاً للاقتراب من فهم هذا (الميكانيزم) في "فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال". واعتبر ابن قيم الجوزية أن الحرام ما كان كله أو معظمه ضاراً، والله يحل الطيبات ويحرم الخبائث، ولكن عقولنا القاصرة قد ترى في بلد ما أن تعليق صورة مسؤول حرام، ولكن لا حرج من امتلاء جدار بارتفاع عشرة أمتار بكل عبارات التمجيد له، أو عفوا صورا شاهقات بقمم الجبال، أما العبارات المأثورة من كلامه السقيم فهي أهم من وضع لوحات تعيين المسافات والاتجاهات على الطرق العامة. إن هذه العلة القاتلة في الثقافة قضت في ضربة ماحقة على كل التطوير الفني في التاريخ الإسلامي من أدب ومسرح وسينما وموسيقى ونحت وتصوير ورسم. مع هذا فإن التوصيف قد يفرغ شحنة محبوسة في الصدر، ولكنه لا يخبر إلا عن مدى ارتفاع درجة حرارة المريض، وأنه يهذي. نعم إن الجماهير العربية تهذي مثل المحموم. لنتصور أن مظاهرة خرجت في مدينة فرانكفورت في ألمانيا تضم السيد "ستيفان شبين" من وكالة بيع سيارات المرسيدس، والسيدة "فراو كوب" مديرة فرع دويتشي بنك، و "الهر: هانس= الهر Herr" من مصنع "تيسين" للصلب والفولاذ والسيد "ستيفان كروزه" من مصلحة البريد، لنتصور أن تعليمات جاءتهم لترك أعمالهم هم وعشرات من أمثالهم لينزلوا إلى الشارع ليهتفوا للرئيسة الألمانية (ميركل): بالروح بالدم نفديك يا ميركل!! ولنفترض المستحيل، فافتراض الكفر لا يعني الكفر. ما الذي سيقوله الناس عن هذا النفر من الهتافة؟ أتصور أنهم سيعتبرونهم رهطا نجحوا في الهرب من مصحة للأمراض العقلية، قد ضلوا سبيلهم، ويجب الاتصال بالبوليس لحجزهم فوراً، وإيداعهم خلف القضبان، حيث يجب أن يودعوا. نعم إن الوطن العربي اليوم مصح كبير للأمراض العقلية. أو كما في تعبير الصادق النيهوم في كتابه "محنة ثقافة مزورة" "غياب الديمقراطية لا يجعل الناس مجانين، بل يجعلهم يفقدون عقلهم الجماعي، وهي محنة لا تختلف عملياً عن محنة الجنون نفسه إلا في نقطتين؛ الأولى أن أوجاع المصاب لا تكشفها أدوات التشخيص الطبي. والثانية أن علاجه يتطلب جراحة من دون تخدير. إن كل مواطن على حدة يبدو رجلاً عاقلاً في تمام وعيه وإدراكه، ولكن الأمة ككل تبدو غائبة عن الوعي، ومصدر هذا التناقض بين وعي المواطن الفرد، وبين جهل الأمة مجتمعة، أن العرب خسروا المناخ الحر، ومعه خسروا العقل الجماعي، وورطوا أنفسهم في ثقافة فردية، لا تعاني من غياب المواطنين الأذكياء، بل من غياب وسيلة التفاهم بينهم، في مجتمع شبه أخرس، له صفات القطيع، لا تجمعه أصلاً سوى إرادة الراعي وعصاه". * مفكر سوري المولد كندي الجنسية