ليس وكد هذه الدراسة التفصيل في تعريف الأسطورة واستعراض كل ما قيل في هذا الشأن، وإن كانت جل الدراسات العربية والأجنبية قد عينت بمفهوم "الأسطورة" لاسيما الدراسات الميثولوجية والأدبية...لكن دراسة أية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية تستلزم الوقوف عند مسألة التعريف والمصطلح،[1] إذ بدون هذه الخطورة الحاسمة التي تعرف الظاهرة المدروسة وتوضح حدودها قد يسقط الباحث في ملاحقة ظواهر بعيدة عن موضوع دراسته، أو ينساق وراء جوانب ثانوية من الظاهرة المعنية على حساب جوانبها الأساسية، غيرأننا لسنا ملزمين بالخوض في مسالك مفهوم الأسطورة كظاهرة ثقافية إنسانية، بقدر ما نتوخى تحديد هذه الظاهرة كما راج في بعض الدراسات، والكشف عن بعض خصائص الخطاب الأسطوري في ارتباطه بالمشاريع الثقافية والفكرية للمبدعين من شعراء وروائيين ومسرحيين... ولعل من القضايا التي تثار في سياق تعريف الأسطورة صعوبة الإجماع على تعريف واحد لهذه الظاهرة من لدن الدارسين، وهو خلاف مرده في تقدرينا إلى أمرين اثنين: أولهما: كثرة الأساطير وتشابهها. ثانيهما: تباين الرؤى الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والإيديولوجية التي تؤطر وجهات نظر الباحثين في هذه الظاهرة. من التعريفات التي نصادفها في سياق البحث في مفهوم الأسطورة ما أورده صاحبا "نظرية الأدب" حيث اعتبرا الأسطورة هي: "الإصطلاح المفضل في النقد الحديث وهي تشير وتحوم على حقل هام من المعاني تشترك فيها الديانة والفولكلور وعلم الإنسان، وعلم الإجتماع، وكذلك التحليل النفسي والفنون الجميلة... ومن الناحية التاريخية تتبع الأسطورة الشعائر وتلازمها فهي القسم المنطوق من الشعائر".[2] لكن إحسان عباس في ترجمته لكتاب كاسبرر "مدخل إلى فلسفة الحضارة" يرى بأن "الأسطورة فعل ينتظر منه تحقيق فعل آخر ومن خلال هذا الفعل الأول كان الإنسان يحاول أن يصنع المعجزات"،[3] وصناعة المعجزات هي رغبة حماسية تجعل الأفراد يشعرون بوجود هوية بينهم وبين المجتمع والطبيعة، ويتحقق إشباع هذه الرغبة بوساطة الطقوس الدينية حيث كذوب الفوارق بين الأفراد ويتحولون إلى كل منسجم. ومن المنظور السيكولوجي يعتبر عالم النفس "يونغ" أن "الأساطير تعبير رمزي عما أسماه باللاشعور الجمعي أو الجماعي لدى الأمة".[4] أما من الناحية الأنتروبولوجية فتبقى الأسطورة -حسب كلود ليفي[5] ستروس- "حكاية تقليدية، تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية". استنتاج: إن جل الدراسات التي بحثت في عالم الأسطورة تشير إلى أن أصل هذه الظاهرة مرتبط أساسا بنظرة الإنسان البدائي إلى العالم من حوله، وهي نظرة نجدها تحكم أغلب الدراسات التي وسمت الأسطورة بوصفها حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معان ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان إنها "الوعاء الأشمل الذي فسَۜٓرَ فيه البدائي وجوده، وعلَۜلَ فيه نظرته إلى الكون محدِۜدا علاقته بالطبيعة من خلال علاقته بالآلهة التي اعتبرها القوۜة المسيۜرة والمنظمة والمسيطرة على جميع الظواهر الطبيعية ... مازجا فيها السحري بالديني؛ وصولا إلى تطمين نفسه ووضع حدٍۜ لقلقه وأسئلته الكثيرة، إنها أسلوب لشرح معنى الحياة والوجود، صيغت بمنطق عاطفي كادَ يخلو من المسبۜبات، امتزج فيها الدين بالتاريخ، والعلم بالخيال، والحلم بالواقع".[6] 1. خصائص الخطاب الأسطوري: نبَۜه العديد من الدارسين المهتمين بالبحث الميثولوجي على ضرورة الاتفاق على معايير دقيقة لتمييز النص الأسطوري عن غيره من الأقاصيص باعتبار التشابه بين الأسطورة وباقي الأجناس الأدبية ومنها القصص البطولي على وجه التحديد والحكاية الشعبية وغيرها، وعموما يمكن إجمال سمات النص الأسطوري في العناصر الآتية: 2-1 - الأسطورة من حيث الشكل هي قصة تحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات... 2-2- لا يعرف للأسطورة مؤلِۜف معين لأنها ليست نتاج خيال فردي، بل ظاهرة جمعية يخلقها الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها، وقد تخضع الأسطورة لتأثير شخصيات روحية متفوقة. 2-3- النص الأسطوري ثابت من الناحية الزمنية رغم تناقله من طرف الأجيال ما دام محافظا على طاقته الإيحائية بالنسبة للجماعة. 2-4- الأسطورة خاضعة من حيث أدوارها للآلهة وأنصاف الآلهة، أما أدوار الإنسان على مسرح الأحداث فهو ثانوي فقط. 2-5- تجري أحداث الأسطورة في زمن مقدس هو غير الزمن الحالي، ومع ذلك فإن مضامينها بالنسبة للمؤمن أكثر صدقا وحقيقية من مضامين الروايات التاريخية. 2-6- تعتمد الأسطورة على توظيف الظلال السحرية للكلمات ما دامت اللغة توحي بدلالتين: دلالة ترتبط بالمعاني المباشرة للأشياء، ودلالة ذات طابع سحري متلون بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح باعتماد طاقة إيحائية قادرة على استثارة مشاعر وأهواء كثيرة، وهذا ما سيستفيد منه الأدب على وجه التحديد. 2. توظيف الأسطورة في الأدب: عرف الخطاب الأسطوري خلال العقدين الأخيرين تطوراً هائلاً، إنه القبلة المفضلة لدى جل المبدعين الذين أصبحوا يتكئون على الأسطورة من خلال تضمينها لأعمالهم الإبداعية بشكل يخدم مشاريعهم الثقافية والفكرية، مَادَامَت الأسطورة عالما منفتحاً على المدهشِ والعجائبي والخوارق والمعجزات، عالما غنيا بالرموز والدلالات تغري بالمتعة والمغامرة، وتبعث على الإرتماء في أحضانها، هكذا أضحت الأسطورة تشكل نظاما خاصا داخل بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر مما أفرز ظاهرة تعاطي الشعراء العرب لنظرية القناع عن طريق استحضار الرموز في نصوصهم الشعرية، إلى حَدِّ أصبحت معه الأسطورة أداة فنية ضمن مجموعة من وسائل الأداء الشعري. أما على صعيد الخطاب الروائي فإنه يمكن التأكيد بأن الرواية العربية قد بَلغت شأواً بعيداً في توظيف الأسطورة سيما وأن الرواية تُعَدٌ أقدر الأجناس الأدبية على استيعاب الأنماط السردية الأخرى لصياغة عالمها المتميز، وإن كان حضور الأسطوري في الإبداع الروائي لا يتوخى بأي شكل من الأشكال الخلط بين ما هو "واقعي" و "أسطوري" بل تحقيق واقع شعري تمحي فيه الحدود بين الحلم والواقع، بين ما هو أسطوري وروائي لأن المرجعية الأسطورية لا تفهم خارج عالم النص الروائي، من هنا لا نبالغ إذا ما اعتبرنا بأن الرواية هي أقدر الأنماط السردية على التناص والتفاعل مع الأسطورة إذ يبدو الأسطوري مكونا نصيا واضحا داخل الخطاطة السردية للعديد من النصوص الروائية. إن علاقة الأسطورة بالأدب كفعالية إبداعية إنسانية علاقة قوية ووثيقة منذ القدم، فهي علاقة بين مستوى من الفكر وأداة تعبير إذا ما نظرنا إلى قضية النزوع الأسطوري كظاهرة إنسانية تتجلى أسمى مظاهرها في مختلف أصناف الإبداع الإنساني. ومن جهة أخرى يمكن القول بأن الأسطورة مَوْرِدٌ هام ومنبع لا ينضب أصبح يغترف منه المثقفون وينهلون من حياضه إلى حَدِّ تماهي الشاعر أو الروائي أو المسرحي مع الرموز واستلهامه لتراثها التاريخي حتى قيل:"إن الشعر كان متصلاً في نشأته بالأسطورة، ليس كونها قصة خرافية، وإنما لكونها تفسيرا للتاريخ والطبيعة".[7] ولا نستغرب من إجماع النقاد على شيوع الظاهرة الأسطورية في شعرنا الحديث والمعاصر في خضم الحركات التجديدية التي عرفها هذا الشعر والتي ولّت وجهها شطر الآداب الغربية، وليس من الغريب أن يلجأ شعراؤنا المعاصرون إلى الأساطير القديمة، المحلية والأجنبة، فما هي -إذن- النماذج الأكثر تمثيلية لتلك النزعة الأسطورية في شعرنا الحديث والمعاصر؟ 3. النزوع الأسطوري في الشعر العربي الحديث: السياب نموذجا. إن الأساطير هي خلاصة تجارب حضارية متعددة، وحصيلة أجيال متوالية، إنها وعاء تفكير وتأمل الإنسان إزاء الطبيعة والكون والموت... ومظاهره القوة التي ما فتئت تهدده، والأسطورة فوق كل ذلك رمز يعتمد على استخدام الظلال السحرية للكلمات ذات المعاني والدلالات التي تتراوح بين الواقعي والخيالي، الخفي والجلي، الممكن والمستحيل، المعتاد والعجائبي... بلغة ذات طاقة إيحائية قادرة على استثارة مشاعر وأهواء الشعراء، فيَا تُرى ما موقف بدر شاكر السياب من استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث؟! لا نجانب الصَّواب إذا ما اعتبرنا السيابَ واحداً من أبرز فرسان الشعر الحديث والمعاصر،[8] ومن النماذج الرائدة في الاتكاء على الأسطورة واتخاذها منهلاً خصبا للتعبير عن آلامه وأحلامه كشاعر عاش لحظات متميزة في حياته كثيراً ما كان يغلب عليها الطابع المأساوي الذي فرضه الصراع بين الخير والشر في هذا العالم، والبحث عن عالم لا يزال مخبوءاً، مستفيداً في ذلك من مصادر ثقافية متنوعة جعلت تَجَارِبَه أشْبَهَ بِغابة من الظلال الأسطورية والرمزية والفلسفية، متجاوزاً بها الوظيفة التصويرية في الشعر إلى الوظيفة التحريضية والتغييرية... وإذا كانت الأسطورة قد مارَست تأثيرا لافتا في الشعر العربي المعاصر لدى كل من حركة الديوان، والمهجر، وجماعة أبولو في سياق الانفتاح على الآداب الغربية، إذ فرضتِ الأساطيرُ نفسها على تلك الحركات اقتداءاً بما وقع في أوربا،[9] فإن السياب يُعد بدون منازع أنجح الشعراء المعاصرين في استدعاء الرموز والأساطير وتوظيفها بشكل متميز؛ فقد أصبحت الأسطورة جزءاً لا يتجزأ من مفهومه للشعر ورؤياه للحياة، حتى اعتبره ماهر شفيق فريد "أحد الثالوث الإليوتي في الأدب العربي (مع لويس عوض وصلاح عبد الصبور)؛ أي إنه من أكثر المنتفعين بإليوت ونزعته في استخدام الأسطورة،[10]لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن النزوع الأسطوري في شعر السياب كان مجرد تقليد للشاعر الإنجليزي (ت.س إليوت)، بل يعتبرُ حضور الأساطير المتعددة في شعر الرجل ظاهرة فريدة تَنِمُّ عن تغلغل الأسطورة في حياته وتسربها إلى بنيته النفسية والفكرية فقد كان مهوُوسا باستخدام الرموز الأسطورية في شعره إذ يبدو من خلال دواوينه التسعة[11] أنه حشد كما هائلاً من أساطير الهند، والصين والفرس، والعرب، والإغريق وغيرهم... وقد صنفه ناجي علوش ضمن الشعراء العرب الذين أفرطوا في استخدام الأسطورة حتى أصبح من النادر أن تخلو قصيدة من قصائده من رمز أو أسطورة، وكانت الأسطورة أحيانا جزءاً من القصيدة، كما حدث في "مدينة بلا مطر"، بينما تظل في أحيان أخرى مجرد كلمة من كلماتها، غريبة معزولة، لا يبررها إلا الهامش الذي يوضع لتفسيرها.[12] أما عن دواعي الاستدعاء المفرط للأساطير في شعر السياب فيبرر ذلك هو نفسه قائلا "لم تكن الحاجة إلى الرمز، إلى الأسطورة أمسَّ كما هي اليوم، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، إنني أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، فماذا يفعل الشاعر إذن؟ عادَ إلى الأساطير والخرافات التي لا تزال تحتفظ بحرارتها، لأنها ليست جزءاً من هذا العالم – عاد إليها ليستعملها رموزاً، ولبني منها عوالم يتحدّى بِها منطق الذهب والحديد، كما أنه راح - من جهة أخرى- يخلق أساطير جديدة، وإن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن".[13] يستفاد من هذه الشهادة أن استلهام الأساطير في الشعر العربي المعاصر-وبالخصوص عند السياب- كان دافعه الهروب والشعور بالانهزامية، لتوالي خيباته وفواجعه ونشوبه في أزمات وتقلبات نفسية وجسمية[14] حادّة في زمن سياسي عنيف ومتقلب بالعراق يومئذ،[15] فكانت الأسطورة هي الملاذ الوحيد الذي لجأ إليه السياب مغلوبا على أمره في أفق خلق بديل جديد أكثر إشراقا وجمالاً... ولا تكاد تخلو قصيدة من شعر السياب من الإشارة إلى رمزٍ أو أسطورة[16] حتى باتت الأساطير تشكل نظاما خاصا داخل بنية الخطاب الشعري لديه، وقد تدخل أحيانا في تناص مع حقول معرفية أخرى كالتاريخ والسحر والفلكلور والخرافة مما يضفي على القصيدة ضبابية في الرؤية وجنوحا إلى الغموض والتعقيد، هذا ما يجعلنا نتساءل: هل بالفعل نجح السياب في توظيف الأسطورة بشكل إيجابي يعطي للنص الشعري بعداً تاريخياً، وعمقا دلاليا ويضفي عليه جمالية ما تثير المتلقي العربي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال نعثر عليها في العديد من كتابات نقادنا الذين درسوا أشعار السياب فهذا محمد فتوح أحمد يعتبر الأسطورة: "أداة فنية ضمن عدد من وسائل الأداء الشعري"[17] ثم يضيف "ولكنها أحيانا تتجاوز هذا الدور المتواضع، إلى حيث تصبح منهجا في إدراك الواقع... ونسيجا حيا يتخلل القصيدة، وأساسا يرتكز عليه الشاعر في فنه بعامة، ومن هذا القبيل كان الشاعر العراقي بدر شاكر السياب".[18] ومن الدراسات التي عنيت بشعر السياب وفحصت مدى توفق الرجل في استخدامه للأساطير ما نعثر عليه في كتاب علي عبد المعطي البطل حيث قال: "تناول السياب في شعره رموزاً من أساطير تعددت منابعها... وكثرت الإشارات إلى هذه الأساطير كثرة تلفت انتباه قارئه من جهة وتعمى عليه الهدف وتفسد تتابع المعنى وترابطه إن لم يكن ملما بدلالة الأسطورة من جهة أخرى. ولذلك فقد كان للأسطورة نصيب كبير فيما شاع من الغموض في شعر السياب... نتيجة بعد المصادر الأسطورية عن أيدي القارئين، ولاتساع مدى الشعراء في استقاء رموزهم الأسطورية مما يجعل محاولة تتبع هذه الأساطير عملية على قدر كبير من الصعوبة، تسبب للمتصدى لها عنتا شديدا".[19] خلاصة: إن السياب يعد بدون أدنى شك علامة متميزة في الشعر العربي المعاصر، لما أحدثه من انقلاب كبير في تكسير بنية القصيدة العربية الكلاسيكية إن على مستوى الشكل أم المضمون، وكان ارتماؤه في أحضان الأسطورة ليتمثل معظم نماذجها في شعره أكبر دليل على ذلك، ولعل هذا ما استدعى تحركا نقديا موازيا كانت من ورائه معاركُ نقدية أمطرت ساحة النقد العربي دراسات قيمة عادت بالنفع العظيم على تراثنا النقدي الحديث والمعاصر. *باحث في قضايا التربية والتكوين والأدب المغاربي الحديث